في ردفان، حيث تصافح جبالها ذاكرة الثورة، وتتنفس قممها رائحة البارود الذي فجّر فجر الحرية في الرابع عشر من أكتوبر 1963، شهدنا لحظة مهيبة ونحن نشارك في تدشين الاحتفالات بالذكرى الثانية والستين لثورة الرابع عشر من أكتوبر المجيدة. وفي ذلك المكان الذي كُتب فيه أول سطر من حكاية الاستقلال، شاءت الصدفة أن تهديني لقاءً نادراً مع أحد رموز تلك الثورة وعرين أبطالها… مع المناضل الجسور اللواء محمد غالب عثمان، الملقب بـ«المداقم».
كان اللقاء أشبه بوقوف الزمن احتراماً لرجلٍ حمل روحه على كفه، وواجه الاستعمار البريطاني ببسالة الأبطال. رجلٌ لم تُطفئ الشيخوخة وهج الإيمان في عينيه، ولا أضعفت السنون عزيمته. ورغم خيانة الذاكرة له تحت وطأة المرض والسن، كان يتوكأ على عصاه بثقة مهيبة، وكأنه لا يزال ذاك الفتى المندفع إلى ميادين النضال.
يحاول أن يسترجع بعض تفاصيل الماضي… تتعثر كلماته أحياناً، فتتدخل ذاكرة ولده محمود لتكمل السرد، وكأن الابن يورث الحكاية عن الأب، والجيل يحمل راية من سبقه.
وُلد “المداقم” عام 1940 في قرية بوران، مديرية حالمين بمحافظة لحج، من قبيلة الحشري.
التحق بصفوف النضال منذ انطلاق شرارة الثورة ضد الاستعمار البريطاني في 14 أكتوبر 1963، وكان من طلائع الثوار في صفوف الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل، مقاتلاً إلى جانب رفاق دربه: علي أحمد ناصر عنتر، علي شايع هادي، صالح مصلح قاسم، عبدالله مطلق صالح، صالح قائد الشنفرة، عمر صالح مساعد الحشري، عمر سيف قاسم الحشري، صالح أحمد مقبل، محمد مسعد سيف الحشري، وكثير من الأبطال الذين نقشوا أسماءهم بدمائهم على جدار التاريخ.
شارك “المداقم” في العديد من العمليات البطولية، ومنها الهجوم على معسكرات الاحتلال في الضالع، ومن بينها المعسكر المعروف اليوم باسم “معسكر عبود”. وهناك تحديداً، ووسط أزيز الرصاص، علت حنجرته تصرخ بحماس الأبطال: «تداقمين… تداقمين الرصاص في الجو!»، فكان أن أطلق عليه المناضل علي عنتر لقب «المداقم»، ومنذ تلك اللحظة صار الاسم مرادفاً للبسالة.
واصل “المداقم” نضاله حتى تحقيق الاستقلال في 30 نوفمبر 1967، لينال بعدها رتبة ملازم ثانٍ مع مجموعة من رفاقه المناضلين. تدرج في المناصب العسكرية حتى أصبح قائداً لكتيبة الدروع، ثم تولى بعد الوحدة منصب مدير الاحتياط في مديرية حالمين.
لم تكن رحلة “المداقم” مجرد مسيرة عسكرية بل كانت ملحمة وطنية، نال خلالها العديد من الأوسمة والنياشين:
وسام ثورة 14 أكتوبر من الدرجة الأولى
وسام الإخلاص
وسام التفوق القتالي
الميداليات اليوبيلية للقوات المسلحة
ميدالية الخدمة العسكرية
لكن ما يميز هذا الرجل أكثر من نياشينه، أنه ظل ثابتاً على مبدئه حتى بعد عقود من الاستقلال. ففي عام 2007 كان من أوائل مؤسسي الحراك الجنوبي، وفتح مجلسه لاجتماعات قيادته، مؤمناً أن الدفاع عن الأرض لا يتقادم، وأن السيادة لا تورث إلا بالوفاء.
حين غادرنا اللواء محمد غالب “المداقم”، كان التعب بادياً عليه، لكنه أصر على أن يختم اللقاء بكلماتٍ ستظل محفورة في الذاكرة:
«احموا تراب الجنوب… لا تفرطوا فيه، فقد سقيناه بالدم».
ذلك الجيل الذي صعد الجبال وواجه الرصاص من أجل أن تنبت الحرية، لا يطلب منا إلا أن نصون ما حرروه.
وما بين ذاكرته التي أنهكها الزمن، ورايته التي لم تسقط، أدركت أن الأوطان لا تبنى بالشعارات… بل بتضحيات رجالٍ مثل اللواء «المداقم»، ممن كتبوا بدمهم أول سطر في حكاية الجنوب الحر.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news