مشهد الجنوب اليوم لا يعيش معركة هوية بقدر ما يواجه اختبار وجودٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ وأمني، إذ لم تعد المسألة مجرد شعارات عن فك الارتباط أو الانفصال، بل معادلة بقاء في ظل واقع إقليمي متغير، وضغط اقتصادي خانق، ومشهد أمني تتنازع فيه القوى بين مشروع الدولة ومشروع الفوضى.
إن من الخطأ الحديث عن قيادة الانتقالي وكأنها تُحكم بالحديد والنار على كامل الجغرافيا الجنوبية، فواقع الميدان يقول إن القدرة الإدارية والأمنية محصورة في نطاقٍ محدود، جوانب أمنية واعسكرية ، بينما الإيرادات والموارد السيادية تكاد تكون منعدمة. في مثل هذا الواقع، تصبح الدعوات لإسقاط المجلس بأسم الفشل أو إضعافه مغامرة سياسية ومغامرة أمنية قد تُعيد الجنوب إلى فوضى مفتوحة، واجتياحٍ محتملٍ من الحوثي أو عودةٍ صادمة لتنظيمات إرهابية ظنّ الناس أنهم طُووا صفحتها خاصة في بعض المدن مثل عدن.
تصريحات الرئيس عيدروس الزبيدي لم تكن قرارًا بالانفصال بقدر ما كانت مناورة سياسية لكسر الجمود وإعادة تعريف المعادلة. بلغة الدبلوماسية الهادئة، هو قال ما يجب أن يُقال: إن كان الشمال قد سلَّم أمره لواقع الحوثي، فمن حق الجنوب أن يُقرر مصيره وفق عملية سياسية متزنة، لا تفرضها البنادق فقط بل تحددها إرادة الشعوب.
إن الواقعية السياسية تقتضي أن الحفاظ على المجلس الانتقالي اليوم ليس تمسكًا بكيانٍ سياسي، بل ضمانة لبقاء ما تبقّى من توازن وأمن واستقرار. فالمجلس، رغم كل ملاحظاته وأخطائه، يُمثل الإنجاز الشعبي الوحيد الذي تمكّن من خلق بنية أمنية موحدة نسبياً في الجنوب، وسط محيطٍ مليء بالانقسامات والمشاريع المتناحرة.
إسقاط المجلس أو إضعافه لا يعني انتصار الديمقراطية، بل فتح بوابةٍ واسعة للفوضى، وتفكيك آخر ما تبقّى من مؤسسات قادرة على حمل السلاح ضد الفوضى والإرهاب. فالسياسة ليست لعبة “كل شيء أو لا شيء”، بل فن الممكن ومهارة إدارة التناقضات.
إن الجنوب لا يحتاج اليوم إلى خطابات تعبئة جديدة، بل إلى هندسة سياسية جديدة، تُوازن بين حلم الدولة وضرورات الواقع، بين الشرعية الشعبية ومتطلبات الأمن الإقليمي، بين لغة الثورة ومنطق الدولة.
فالحديث عن فك الارتباط أو الوحدة ليس هدفًا في ذاته، بل وسيلة لتحقيق استقرارٍ سياسي وسيادةٍ وطنية وعدالةٍ اجتماعية. وما لم يُدار هذا الملف بعقل بارد ليس منفعل ورؤية استراتيجية، فستتحول أحلام التحرر إلى كوابيس من الانقسام والدمار.
وفي الختام، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل يحق للجنوب أن يفك ارتباطه؟
بل: هل يملك الجنوب اليوم مؤسسات قادرة على إدارة استقلاله دون أن يغرق في فوضى جديدة؟
الحكمة السياسية تقتضي ألا نخسر ما بين أيدينا من منجزات، وأن ندير ما نملك بذكاءٍ استراتيجي، لا بانفعالٍ ثوري. فالدولة لا تُبنى بالاندفاع، بل بالتخطيط، والتوازن، والتفويض المسؤول.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news