مصر والثورة اليمنية… توأمة خالدة
قبل 3 دقيقة
ترتكز التحولات الكبرى في حياة الشعوب على مبادئ أساسية وأهداف ثابتة تشكّل منطلقًا لكل عمل وفعل ناجع يحرك المياه الراكدة في المجتمع ويؤسس لمنعطف جديد.
ومن هذا المنطلق يمكن التأكيد على أن ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962 لم تكن حدثًا يمنيًا محضًا، بل كانت جزءًا من التحولات الكبرى التي عاشتها الأمة العربية في منتصف القرن العشرين في مسيرتها نحو التحرر من ربقة الاستعمار والهيمنة والتخلف.
لقد كان للدور العظيم الذي قامت به مصر، وللجهود الجبارة والدعم السخي الذي قدمته بقيادة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الفضل الأول في انتصار الثورة اليمنية وترسيخ أسس النظام الجمهوري. فقد جسّد ذلك الموقف منطلقات أخوية وقومية عربية خالصة، برؤية واضحة مفادها أن تحرير الشعوب من الهيمنة والتجبر قضية مصيرية لا تحتمل التأجيل.
وعلى هذا الأساس، أصبح الخطاب الإعلامي الصادر من القاهرة منبرًا للأحرار العرب، إذ لعب "صوت العرب" منذ ثورة يوليو 1952 دورًا محوريًا في تشكيل الوعي الجمعي الوطني بأهمية التحرر والوحدة العربية ومواجهة المخاطر، وشجّع اليمنيين على مقاومة الحكم الإمامي المتخلف.
كما أن العلاقات المبكرة بين الضباط الأحرار في مصر واليمن شكّلت جسورًا للتنسيق، إذ وجد الضباط اليمنيون في التجربة المصرية نموذجًا ملهمًا للتغيير وفرصة سانحة لبناء القدرات ومواجهة التحديات.
لذلك سارعت مصر إلى الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن فور إعلان الثورة، ومارست ضغوطًا دبلوماسية واسعة لإقناع الدول العربية والأجنبية بالاعتراف بالجمهورية الوليدة، وتبنت القضية اليمنية في المحافل الدولية باعتبار أن نجاح الثورة في اليمن امتداد لمشروع التحرر العربي والوحدة الشاملة.
كما أرسلت مصر آلاف المقاتلين من قواتها المسلحة إلى اليمن استجابة لطلب قيادة الثورة، وكان لتواجدهم دور محوري في حماية الثورة من المحاولات المضادة التي قادها أنصار النظام الملكي المخلوع. ولم يقتصر الدعم على الجانب العسكري من تدريب وتسليح وبناء القدرات، بل امتد إلى البعثات التعليمية، وإرسال الكتب والمناهج الحديثة، ما أحدث نقلة نوعية في التعليم والتنوير والتحول الثقافي والفكري. وكان للإعلام المصري، وخصوصًا إذاعة "صوت العرب"، الدور البارز في أن يكون لسان حال الثورة اليمنية وصدى انتصارها.
لقد سجل التاريخ أن مصر دفعت أثمانًا باهظة وتضحيات جسيمة من دماء جنودها ومن اقتصادها في ساحة اليمن، تجسيدًا لالتزامها القومي ووفاءً لروابط الأخوة والمصير المشترك. كانت تلك الملحمة صورة ناصعة للتوأمة الخالدة التي أثرت المشهد اليمني وأسهمت في النهوض بالمجتمع بالتوازي مع تضحيات أحرار الداخل الذين قدموا الغالي والنفيس للتخلص من كابوس الإمامة الذي جثم على صدر اليمن قرونًا طويلة.
إن الدور المصري في انطلاق ثورة سبتمبر لم يكن مجرد دعم عابر، بل كان شراكة تاريخية وارتباطًا عميقًا أسس لعلاقات أخوية راسخة لن تنفصم عراها بين الشعبين الشقيقين، المصري واليمني، لأجيال متعاقبة. ولولا هذا الدور الفاعل، ربما ما كانت الثورة اليمنية لتصمد أمام الأخطار الداخلية والتحديات الإقليمية.
من هنا تبقى مصر حاضرة في وجدان وذاكرة الشعب اليمني الحية، باعتبارها ركيزة أساسية في ميلاد الجمهورية وصمودها. فتحية لمصر العظيمة في حضارتها، الكبيرة في عطائها لأمتها العربية ولكل حركات التحرر في العالم، فقد كانت قبلة الثائرين ومصدر إلهام المطالبين بالحرية والاستقلال، وستظل منارة للعلم والتنوير ونصرة الشعوب الساعية للتحرر.
حفظ الله مصر قيادة وشعبًا كريمًا أصيلًا، وسندًا دائمًا لأمتها العربية والإسلامية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news