النتائج السلبية للانقلاب على النظام السياسي اليمني ..
قبل 1 دقيقة
عاش الشعب اليمني تاريخاً طويلاً حافلاً بالصراعات والحروب والتدخلات الخارجية، وبينما كان العالم في القرن الماضي ينطلق نحو الحضارة والتقدم ويجني ثمار النهضة العلمية في كل مجالات الحياة، كان الشعب اليمني قابعاً تحت سلطة ملكية إمامية عزلته عن العالم، وجعلته يعيش في ما قبل العصور الوسطى، يعيش حالة من الجهل والتخلف والبؤس والفقر والمرض. وبينما كانت المجتمعات البشرية تتسابق على اقتناء أحدث صيحات الموضة في عالم الأزياء والملابس الجاهزة ذات الماركات الفاخرة، كان المواطن اليمني في أحسن أحواله يغطي بعض أجزاء جسده بقطعة قماش رديئة تظل ملاصقة له لفترة طويلة لأنه لا يمتلك غيرها، حتى جاءت ثورة 26 سبتمبر المجيدة 1962م، وفتحت المجال أمام أبناء اليمن للحاق بركب الحضارة البشرية في كل مجالات الحياة
.
في المجال السياسي، تحولت اليمن من النظام الملكي الإمامي الوراثي إلى النظام الجمهوري التعددي، وبدأ أبناء اليمن يستنشقون نسمات الحرية والمشاركة السياسية، وإن كان ذلك الحراك السياسي يحدث بشكل بطيء بسبب وجود قوى نفوذ قبلية ودينية ومناطقية كانت تعمل على عرقلة هذا الحراك حفاظاً على مصالحها ونفوذها. فقد كانت ولا تزال تنظر إلى أي حراك سياسي أو تنموي أو اقتصادي أو تعليمي أو نهضوي على أنه يمثل تهديداً لنفوذها ومصالحها.
لكن رغم كل العراقيل والعقبات، دارت عجلة التنمية والنهضة في كل مجالات الحياة، وإن لم يكن بالشكل المطلوب الذي كان يطمح إليه أبناء اليمن. وبعد قيام الوحدة اليمنية في 1990م والإعلان عن التعددية السياسية، لم تسلم الأحزاب السياسية من سطوة قوى النفوذ، فقد سيطرت على المراكز القيادية لمعظم الأحزاب. وبذلك أصبحت قوى النفوذ بكل أشكالها القبلية والدينية والمناطقية تسيطر على المناصب الهامة والقيادية في الحكومة والجيش والأحزاب والبرلمان.
ورغم كل ذلك، إلا أنها استكثرت على المواطن اليمني تلك المساحة من الحرية والمشاركة السياسية، ورأت أن استمرار التجربة الديمقراطية الوليدة في اليمن يمثل خطراً على نفوذها ومصالحها على المدى المتوسط، وكانت تنظر بعين الريبة والشك إلى كل ما له علاقة بالنظام والقانون وكل ما له علاقة بالعمل الحكومي المؤسسي، فكل ذلك ينتقص من نفوذها ويحد من مصالحها. لذلك، لم تتردد في استغلال فرصة الربيع العربي لتعلن انقلابها على النظام الجمهوري وعلى الديمقراطية والتعددية السياسية، رافعة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولتقوم بالاعتداء على مؤسسات ووزارات الدولة ونهبها وتخريبها والعبث بمحتوياتها، وصولاً إلى قيامها بهيكلة وتفكيك الجيش اليمني وتكوين ميليشيات قبلية وحزبية ومناطقية كبديل للجيش وقوات الأمن النظامية.
وقد تمكنت قوى النفوذ تلك من مخادعة الجماهير برفعها شعار الدولة المدنية، نعم الدولة المدنية، التي سخر قادة تلك القوى كل قوتهم لإفشالها وإعاقة تقدمها وتخريب منشآتها ومؤسساتها ووزاراتها وعرقلة مشاريعها ومحاربة منجزاتها. وللأسف الشديد، انخدع الكثير من أبناء اليمن بتلك الشعارات البراقة الزائفة وركبوا موجة إسقاط النظام، ليجدوا أنفسهم بعد ذلك بدون دولة وبدون نظام وقانون وبدون جيش وأمن، ووجدوا أنفسهم تحت سيطرة الميليشيات القبلية والحزبية والدينية والعصبوية والمناطقية، وهي من تتحكم بمصيرهم وحاضرهم، وتمارس ضدهم كل صور الاستبداد والقمع والبطش والطغيان والفساد والسلب والنهب (ما يحدث في مدينة تعز اليوم نموذجاً).
مدينة تعز المغدورة والمنكوبة والحزينة دفعت وتدفع الثمن الباهظ لسقوط النظام، وأصبحت وكرًا للعصابات الإرهابية والإجرامية التي حولت حياة أبناء المدينة إلى كابوس مخيف ومرعب، بعد أن صار الموت والقتل والعنف يلاحقهم في كل مكان، وصار القتلة والمجرمون وقطاع الطرق هم من يحكمونها ويعيثون فيها فساداً وإرهاباً وسلباً ونهباً. نعم، في غفلة من الزمن وعلى حين غرة، فقدت مدينة تعز مدنيتها وتحضرها وريادتها وحلمها، لتصبح مدينة غير صالحة للعيش فيها.
وهذا هو النتيجة الطبيعية لإسقاط النظام السياسي اليمني، وما ترتب عليه من تسريح الكوادر المؤهلة والمدربة التي كانت تدير مؤسسات وأجهزة الدولة، واستبدالها بكوادر قبلية وحزبية وعصبوية ومناطقية غير مؤهلة ولا تمتلك أدنى خبرة عن الإدارة والقيادة. وليت أن الأمر قد توقف عند هذا الحد، بل استعانت قوى النفوذ الانقلابية بالعديد من القتلة والمجرمين وقطاع الطرق لتسيير شؤون مدينة تعز ولإحكام السيطرة عليها. فلم يعد للكفاءة والخبرة والمؤهل والأخلاق والنزاهة مكان في عملية تعيين واختيار الموظفين والقادة، بل كان ولا يزال وسيظل المعيار الوحيد لدى قيادات قوى النفوذ الحاكمة لتعز اليوم هو الولاء الحزبي والارتباط القبلي والمناطقي وصلات القرابة، بغض النظر عن سجلاتهم الإجرامية السابقة.
وهذا ما أوصل مدينة تعز إلى الحال المأساوي الذي تعيشه اليوم: فقد تم استبدال الولاء للوطن بالولاء للحزب والقبيلة، واستبدال أصحاب الكفاءات والمؤهلات والخبرة بأصحاب السوابق وقطاع الطرق، واستبدال قوات الجيش والأمن النظامية بميليشيات قبلية وحزبية وعصبوية، واستبدال النظام والقانون بالفوضى والمزاجية، لتعيش المدينة فصولاً من الخوف والرعب والاستبداد والقمع والسلب والنهب والظلم والعبث والقتل والسلبية، كان آخرها وأشدها ألماً وحزناً قتل الشهيدة أفتهان المشهري، مدير صندوق النظافة، في وضح النهار برصاص غادرة وجبانة، لأنها قالت لقوى النفوذ "لا"، ورفضت الرضوخ لابتزازهم ونهبهم لإيرادات الصندوق، وأرادت أن تخدم مدينة تعز بكل صدق وإخلاص، وأرادت إعادة بعض جمالها ونظافتها ورونقها المفقود، لكنها لم تدرك حجم الحقد والمرض الذي تكنه قيادات تلك القوى وعناصرها لكل ما هو مدني وحضاري وجميل، فكان الثمن حياتها، وهذا هو مصير كل من يفكر في الخروج عن طوع قيادات قوى النفوذ المسيطرة اليوم على مدينة تعز.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news