صباح تعز كسر فيّ شيء لا يلتئم بسهولة؛ لم أتمكن من ابتلاع الخبر، ولم يكن هناك وقت للعجب أو للدهشة أو للصدمة الطويلة. المشهد حقيقي ومرئي على الأرض، ليس كابوسًا سينتهي عند الاستيقاظ، ولا فيلم رعب يُطفئ الأنوار بعد نهايته. ما يجعل الألم أعمق أن المدينة نفسها تبدو على الوجه الآخر من المشهد — مدينة تعيش تحوّلات قاتلة: مزيج من حياة عابرة تحاول الصياح بالفرح في قصور متباعدة، وبين جثث منسية ودماء تنزف على الطرقات. وفي ساحة هذا التناقض تمر قضايا الوطن وكأنها ملاحقٌ في صفحات إدارية، بين مصفوفات التعيينات وتصفيق من تقاسموا المناصب، بينما الجسد المجروح للمدينة يبقى وحيدًا يتلمّس جراحه.
ما أصاب تعز هو أحدث دليل على أن الجراح تتكرر وتتكاثر، وأن الفجوة بين من يحكمون ومن يعيشون قد اتسعت إلى حد يستحيل معه الاعتراف بالواقع. هم الثمانية أو الواحد من ذوي السلطات يتراسلون ببيانات وتصريحات، يلوحون بتحذيرات كما لو أن الكلام وحده يكفي لردع قاتل أو لشفاء جرح. أما المواطنون فليس لديهم رفاهية انتظار الكلمات؛ هم المطالبون بالصمت أو بالطاعة، كما علمونا أن الطاعة عبادة وأن الاعتراض خيانة. هكذا تُجبر المشاعر، وتُقمع الإرادات، ويُصنع من الألم نصًا مقبولاً لدى الحاكم.
إفتهان لم تكن رقمًا في قائمة الأخبار، بل قطرة دم على وجع شعب مقهور. قتلها يطرح أسئلةٍ أكبر من سؤال عن من وما وكيف. السؤال الحقيقي: كيف استمر هذا الانحدار الاجتماعي والسياسي إلى أن يصبح اغتيال امرأة مديرة عامة خبراً لا يهزُّ ذوات السُلطة؟ كيف نعيش في بلد تتماهى فيه السلطة مع منطق السلاح والفساد، ويتحوّل فيه الحق إلى امتياز يُمنح أو يُمنع بحسب الولاء والمصالح؟ حين نزيح الستار قليلًا نرى منظومة من السطو على المال العام، والاستيلاء على الأرض، والنهب المقنّع، وأسماء تتصدر المشهد وكأنها حُكّامٌ فوق المحاسبة.
وأكثر ما يقرح أنَّنا لا نملك براءةً كاملةً لننصر الحق. نحن أيضًا شريك في هذا القهر؛ بصمتنا، بتبريرنا، بتكيّفنا مع واقعٍ لا يحتمل. لا أحد يمكنه أن يتكلم عن الضمير العام وكأنه لم يشارك في صنع هذا المشهد. المجتمع يعيش انقسامًا داخليًا؛ انفصامًا بين ما يجب أن يكون وما هو قائم. والنتيجة أن الفضاء العام يتحول إلى مسرح مُعلّب لا مكان فيه لمطالب العدالة الحقيقية أو لمحاسبة حقيقية.
الفساد هنا ليس مجرّد فعل فردي، إنه بنية تغذيها شبكة مصالح مترابطة: مالية وسياسية وأمنية وثقافية. تتلوّن كل معالم الحياة اليومية بهذه الشبكة: من التعليم إلى الصحة إلى الوظيفة وحتى للجنائز. حين تُقتل امرأة مناضلة أو موظفة مستقيمة، لا تموت وحدها؛ تموت معها ثقةٌ كانت لدى الناس في مؤسسات مفترض أنها تحميهم، وتموت معها فرصة أن يكون الوطن مكانًا للعطاء والكرامة.
إن ما نحتاجه الآن ليس بيانات عقيمة ولا مظاهر استنكارية تضيع في الهواء، بل عمل جاد يبدأ بمحاكمات شفافة، ومساءلة فعلية لمن يقف وراء الفساد والتسليط المسلّح، وحماية حقيقية للنساء والنشطاء. يجب أن يتحول الغضب إلى مطالب واضحة: قانون واحد يحمينا، آليات تحقيق مستقلة، نظام محاسبي حقيقي، وإجراءات تمنع إفلات القتلة والمتورطين من العقاب. لا حلّ حقيقي دون بناء منظومة عدالة تُشعر المواطن بأن حقه محفوظ، وأن حياته ليست أقل من حماية أي منصب أو أي مال عام.
وداعًا يا إفتهان. لا تكفيك كلمات العزاء، ولا تكفيك بيانات الاستنكار. ذاكرتك ستبقى ومن واجبنا أن نحول ألمنا إلى ضغط يطالب بالتغيير. إن كان دمك قطرة، فلتكن قطرةٌ تتحول إلى نهرٍ لا يهدأ حتى ينقشع الضباب عن وجه المدينة ويُستعاد الحق المغتصب. ولا بد أن نعترف بأن استعادة الكرامة تبدأ باستعادة الحقيقة، وبمحاسبة كل من جعل من الوطن ساحة عبث ومِلكية خاصة. لن ينسى التاريخ من صمت، ولن يرحم من أسهم في إفلات المجرمين.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news