سنوات الضياع… بين وعود التحرير وواقع الخراب!!
قبل 12 دقيقة
منذ أكثر من ثلاثة أعوام، غرقت اليمن في متاهة وعود كبرى، بدا ظاهرها وضاءًا كبشائر الخلاص من قبضة عصابة الحوثي، واستعادة الدولة المنهارة، وبناء مؤسسات قادرة على تحسين حياة المواطنين. لكن سرعان ما تبخرت هذه الأوهام في دوامة صراعات النخب التي احتلت صدارة المشهد السياسي والعسكري، فحلّت بدلًا من الإنجاز خطوات سياسية عرجاء، تركت الشعب اليمني وحيدًا في مواجهة واقع مأساوي، تجربة تُعدّ من أظلم الفصول التي شهدتها البلاد منذ اندلاع الحرب، حيث تحوّل الأمل إلى سراب، والحرية إلى حلم مستحيل.
لقد كان الهدف المعلن بناء منظومة حكم جديدة تستند إلى التوافق، وتعيد لليمنيين الأمل بوجود دولة قادرة على فرض القانون، وحماية الموارد العامة، وإنهاء الانهيار الاقتصادي المتسارع. لكن ما جرى على الأرض كشف عكس ذلك تماماً: دولة أكثر هشاشة، مؤسسات مترهلة، موارد منهوبة، واقتصاد يترنح على حافة الانهيار الكامل.
يوماً بعد آخر تتضاعف مأساة اليمنيين جراء الوضع الاقتصادي المأساوي في البلاد بحيث شهد الريال اليمني انهيارات متتالية، وارتفعت أسعار المواد الغذائية والخدمات إلى مستويات قياسية، في حين بقيت المرتبات معلّقة أو مجزّأة، مما فاقم معاناة ملايين الأسر.
المواطن البسيط كان ينتظر من السلطة القائمة توحيد الإيرادات، ووضع حد للفساد، وبناء آليات شفافة لإدارة المال العام، لكنها بدلاً من ذلك تحولت إلى طرف رئيسي في عملية استنزاف ممنهجة لمقدرات البلاد.
لم يعد الشعب يسمع سوى أخبار عن عوائد نفطية ، وموارد جمركية وضريبية تتلاشى في جيوب المتنفذين، بينما يعيش ملايين اليمنيين على حافة الجوع. ولعلّ المأساة الأكبر أنّ هذه الموارد لو استُثمرت بشكل صحيح، لكان بمقدورها وضع حد لأزمات الكهرباء والمياه والمرتبات والخدمات الأساسية.
ونظرًا لسوء القيادة والإدارة، أصبحت مؤسسات الدولة الاقتصادية والخدمية بلا دور. ولم تقتصر المعضلة على الاقتصاد فحسب، بل شملت كل مؤسسات الدولة التي باتت عاجزة عن أداء مهامها.
الوزارات والمكاتب الحكومية لم تعد أكثر من هياكل شكلية، تعيش على فتات موازنات مجزّأة وتخضع لمعادلات الولاء والمحسوبية. القرارات الإدارية تحولت إلى أدوات لتقاسم النفوذ، حيث يتم توزيع المناصب والتعيينات وفق معايير الانتماء والترضيات، لا الكفاءة والقدرة.
أصبح المواطن يرى في الشرعية مجرد واجهات خاوية، بينما تتسع الفجوة بين السلطة والشعب يوماً بعد يوم. هذا الفراغ المؤسسي لم ينعكس فقط في ضعف الخدمات، بل في غياب كامل لمفهوم الدولة ذاته.
المشهد واضح: صراعات النخب ومعاركهم تقتصر على الغنائم، والأوضح من ذلك والأكثر فداحة هو الانشغال المحموم بالصراعات الداخلية. بدلاً من توجيه الجهود نحو استعادة ما تبقى من الوطن الواقع تحت سيطرة الحوثيين، انشغلت النخبة الحاكمة بمعارك جانبية لتقاسم المناصب والمخصصات المالية. سنوات ثلاث من المماحكات والاتهامات والاتفاقات الهشة لم تنتج سوى مزيد من التصدعات، وكرّست واقعاً بائساً يهدد بالمزيد من الانهيار.
لقد تحوّل الكيان السياسي الذي وُلد في لحظة حرجة من تاريخ اليمن إلى ما يشبه سوقاً لتبادل المنافع، كل طرف يبحث عن نصيبه من الغنيمة، بينما يزداد الشعب فقراً وتشرّداً. وهذا السلوك السياسي لم يعد يهدد فقط حاضر اليمنيين، بل يرسم ملامح مستقبل غامض، يحمل احتمالات تفكك أوسع وانهيار شامل.
الشعب هو الخاسر الأكبر أمام هذا المشهد القاتم. لم يعد اليمنيون يطالبون بأكثر من الحد الأدنى من الحقوق: راتب شهري منتظم، كهرباء مستقرة، مياه نقية، وتعليم وصحة وأمن. لكن حتى هذه المتطلبات البديهية باتت بعيدة المنال. وفي المقابل، تتضاعف ثروات بعض المتنفذين، وتُبنى القصور وتُقتنى العقارات في الخارج، في مشهد يختصر حجم الفجوة بين السلطة والشعب.
الشعب الذي كان ينتظر من هذه التجربة وضع حد لحرب استنزفت كل شيء، بات يراه سبباً في إطالة أمد المأساة. فبدلاً من التحرير، هناك مزيد من الانقسام. وبدلاً من الإصلاح الاقتصادي، هناك انهيار أكبر. وبدلاً من بناء مؤسسات الدولة، هناك تشتت وضياع.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: إلى أين يتجه اليمن في ظل هذه التجربة الفاشلة؟ لا يبدو أن ثمة أفقاً حقيقياً للتغيير ما لم يتحرك الشعب بنفسه ليقول كلمته، ويطالب بوضوح بإنهاء هذا العبث. فالتجارب القاسية أثبتت أنّ النخب السياسية لا يمكن أن تصنع دولة إذا لم تُجبر على ذلك بإرادة جماهيرية ضاغطة.
اليمنيون اليوم بحاجة إلى مشروع وطني جديد يتجاوز عقلية المحاصصة والغنيمة، ويركّز على إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة: دولة القانون، والمؤسسات، والعدالة. دون ذلك، سيظل الوطن رهينة لصراعات عبثية، وسيبقى الشعب يدفع الفاتورة الأغلى من دمه وجوعه وتشرده.
وأخيراً، لقد آن الأوان للحديث بصراحة: هذه التجربة السياسية لم تجلب لليمنيين سوى المزيد من الخراب والانقسام والفقر. وما لم يواجه الشعب هذا الواقع المؤلم، فإن السنوات المقبلة قد تكون أشد قسوة وضياعاً. فالتاريخ لن يرحم من أضاع الفرصة، ولا من صمت عن الحق في لحظة كانت البلاد بأمسّ الحاجة إلى كلمة صدق.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news