لم يعد يُخفى على أحد تدنِّي مستوى الاهتمام بالقضية اليمنية وملفاتها العالقة، التي أصبحت بيد السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، حصراً، في سياق النَّهج السعودي المتعمّد في إضعاف الشرعية وتحويلها إلى الطرف الأضعف في المعادلة اليمنية.
وسط مراحل انهيار الدولة وحالة الاستلاب والارتهان غير المسبوق لقيادات الشرعية، يبدو السفير آل جابر الذي يلقب بـ "بريمر اليمن" وهو يمارس دور الوصاية على اليمنيين، بطريقة فجة، أشبه بـ "لويس بول بريمر" الدبلوماسي الأمريكي، الذي شغل منصب الحاكم المدني للعراق بصفته رئيس سلطة التحالف المؤقتة وذلك خلال الفترة من منتصف مايو 2003 حتى يونيو 2004، في أعقاب غزو الولايات المتحدة للعراق.
وتكشفت هذه الحالة مع الأحداث والمحطات الكارثية التي مرت بها البلاد ضمن مرحلة تعد الأسوأ على الإطلاق، و
باتت جميع الأطراف على اختلاف تمثيلها السياسي والدبلوماسي خاضعة لسلطة السفير ال جابر، ولا تعاني من مشكلة في التعاطي معه باعتباره صاحب القرار الأول.
ويُعد آل جابر المسؤول السعودي المعني بشكل مباشر بالملف اليمني، وهو الملف ذاته الذي يشرف عليه وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، حتى قبل تعيينه وزيرًا للدفاع.
في مشهد يثير الحزن أكثر مما يثير الغضب، اقتصر لقاء قيادات الشرعية خلال السنوات الماضية، على طاولة السفير ال جابر، بدلا من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أو وزراء في الدولة، ومع هذا يرفض ال جابر طلبات لقاء رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي ورئيس الحكومة، وفي حال أرادت قيادات الشرعية اللقاء بال جابر فإن ذلك يتطلب تنسيقاً أسابيع بل أشهر للموافقة على اللقاء، في مشهد يعكس مدى حجم الارتهان والانحدار السياسي لممثلي الشرعية، وفق مراقبين.
لربما السؤال المركزي الذي يتردد في أذهان كل يمني يشعر بالإهانة من هذا الاستلاب والانحدار السياسي: كيف أصبحت اليمن بحجم سفارة؟ في الوقت الذي لم يعد فيه الحديث عن لقاءات بين رؤساء أو حتى وزراء خارجية، بل عن لقاء رئيس دولة بسفير.
ويُحذر سياسيون من المخاطر المترتبة على السياسة السعودية المتبعة إزاء الملف اليمني سواء على اليمن أو المملكة ذاتها في ظل تصاعد الصراع الإقليمي وحرب الوكالة التي تشهدها المنطقة.
وتعليقا على ارتهان قيادات الشرعية للسعودية واستلاب الأخيرة لكل القرارات، يقول الصحفي والباحث الإسرائيلي،
إيدي كوهين
، إن السعودية تشترط تمويل ما يسمى (الشرعية) رواتب الجنود اليمنيين والسياسيين بشرط عدم إسقاط الحوثيين وعدم إعلان حرب ضدهم.
وأضاف كوهين في تدوينات نشرها مؤخرا على منصة (إكس) أن "السعودية تشتري ذمم سياسيين يمنيين فاسدين من أجل مصالحها ولعدم إسقاط الحوثيين. المملكة تضحي بالشعب اليمني لأجل مصالحها واستقرارها وازدهارها على حساب الشعب اليمني المظلوم"، متابعا "ايها الشعب اليمني، السعودية لا تريد اسقاط الحوثيين، لا مصلحة لها بذاك" حد قوله.
اليمن كبلد عريق على طاولة سفير
ومطلع سبتمبر الجاري، اجتمع رئيس مجلس القيادة الرئاسي، رشاد العليمي، مع السفير آل جابر، لبحث الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن، ليس هذا اللقاء بحد ذاته ما يستدعي الاستغراب، كما يقول الدكتور عادل الشجاع، عضو اللجنة العامة بالمؤتمر الشعبي العام- بل السياق والمضمون والمستوى الذي تمثله هذه العلاقة المختلة التي تفرغ السيادة من معناها، وتحط من مكانة دولة ضاربة في أعماق التاريخ إلى مجرد "ملف" على طاولة سفير.
في حديثه لـ "الموقع بوست" يقول الشجاع إن "السلطة الرسمية ممثلة بالمجلس الرئاسي والحكومة الشرعية هي السلطة المعترف بها دوليا، لكنها فاقدة للسيادة الكاملة على الأرض".
وأكد أن فقدان الشرعية للسيادة الكاملة يرجع لعدة عوامل منها: السيطرة الفعلية لأطراف مسلحة مختلفة (الحوثيون، الانتقالي الجنوبي، قوات مدعومة إماراتياً وسعودياً). الاعتماد المالي والعسكري شبه الكلي على التحالف بقيادة السعودية. غياب القرار المستقل في الملفات الكبرى (السياسية، الاقتصادية، العسكرية).
ويرى الشجاع وهو عضو مؤتمر الحوار الوطني الشامل
، أن السفير السعودي محمد آل جابر، هو صاحب القرار التنفيذي الأول فيما يتعلق بالشأن اليمني، خصوصاً في المناطق الخاضعة لنفوذ الحكومة. وهذا واقع غير مكتوب لكنه معروف داخل دوائر السلطة اليمنية، حد قوله.
وصاية ورؤية مصلحية
وأضاف "تعامل السعودية مع القيادات اليمنية بهذا الشكل، يعود إلى تركيبة العلاقة بين الطرفين، التي أصبحت أقرب إلى علاقة "وصاية" منها إلى "تحالف استراتيجي".
وأورد الشجاع أربعة أسباب لهذا التعامل منها: فقدان الثقة: فالسعودية لا تثق بقدرة القيادات اليمنية الحالية على إدارة الدولة أو حماية المصالح المشتركة، سواء بسبب الفساد، التشرذم، أو ضعف الأداء. أما السبب الثاني يتمثل بتعدد الولاءات داخل الحكومة اليمنية نفسها، مما يجعل التنسيق معها معقدا وغير فعال.
والسبب الثالث هو الرغبة في السيطرة المباشرة على مسارات معينة، مثل التهدئة مع الحوثيين، أو إدارة الموارد، أو السيطرة الأمنية، دون تدخل حكومي يمني قد يعقد الأمور. وفق الشجاع.
وأشار إلى أن الرؤية السعودية المصلحية: تعتبر بعض الدوائر في الرياض أن تعاطيهم المباشر مع الأرض (عبر السفير أو أدوات محلية) أكثر فعالية من الاعتماد على سلطة مترهلة أو غير قادرة على اتخاذ قرارات حاسمة.
وبشأن الاكتفاء بلقاء السفير بدلاً من مسؤولي الصف الأول في السعودية، يقول الشجاع إن "هذا بحد ذاته مؤشر سياسي واضح على “تخفيض مستوى العلاقة” مع السلطة الشرعية، مشيرا إلى أن القيادة السعودية لا ترى في قيادات الشرعية حاليا شركاء في القرار، بل منفذين أو أدوات تنفيذية.
وزاد "تريد الحفاظ على "المسافة السياسية" لعدة اعتبارات، منها عدم تحميل نفسها تبعات فشل السلطة اليمنية. تستخدم مستوى التمثيل كأداة ضغط".
مخاطر هذا النهج على السعودية واليمن
وحذر عضو اللجنة العامة بالمؤتمر الشعبي العام الشجاع من المخاطر المترتبة من ذلك التعامل والتجاهل سواء على السعودية أو اليمن في ظل تصاعد الصراع الإقليمي وحرب الوكالة التي تشهدها المنطقة،
وقال إن "المخاطر على السعودية تتمثل بفقدان الشريك المحلي الحقيقي: لن يمكنها الاستمرار في إدارة الملف اليمني إلى الأبد دون كيان سياسي قوي ومستقر. تشويه الصورة الإقليمية: يظهر كأنها تمارس “وصاية سياسية” على دولة جارة، وهو ما يتنافى مع شعارات دعم الشرعية. تعقيد المسار الأمني: دون شراكة فاعلة مع سلطة يمنية مستقرة، فإن أي تهديد جديد من الحوثيين أو القاعدة أو قوى إقليمية سيجد فراغا يستغله".
أما المخاطر على اليمن فتتمثل بانهيار الثقة بين المواطن والسلطة، حين يراها عاجزة أمام السفير وغير قادرة على فرض سيادتها. إضعاف مؤسسات الدولة أكثر فأكثر، وتحويلها إلى هياكل شكلية. فقدان فرص التفاوض الحقيقي مع أطراف مثل الحوثيين، الذين يرون الحكومة رهينة لدى التحالف، وفق الشجاع.
وقال الشجاع في حديثه لـ "الموقع بوست" أن السعودية، بتركيزها على أدوات تنفيذية مثل السفير آل جابر، ترسل رسالة مفادها: “لسنا واثقين بكم كشركاء، بل نفضل التحكم المباشر”، وهو ما يعكس أزمة ثقة عميقة. لكن استمرار هذا النهج طويل الأمد قد يكون مدمرا للطرفين.
وختم القيادي في حزب المؤتمر تصريحه بالقول "لبناء علاقة صحيحة ومستقرة، تحتاج السعودية إلى التعامل مع السلطة الشرعية على أنها شريك حقيقي، لا مجرد أداة، فيما يجب على اليمنيين أيضاً أن يستعيدوا قرارهم السياسي، ويتوقفوا عن الرهان الكامل على الخارج".
شرعية خانعة ذليلة
بدوره يقول الصحفي عبدالجبار الجريري، إن "السفير السعودي آل جابر هو المتحكم الأول في القرار اليمني، حتى على مستوى التعيين، لا يتم قبول أي موظف في مناصب الدولة إلا بعد موافقة السفير جابر وهذا يقزم الشرعية ويضعها على حافة الهامش".
وأضاف الجريري في حديث لـ "الموقع بوست" إن السعوديين أدركوا أن غالبية المسؤولين اليمنيين يلهثون وراء مصالحهم الشخصية والمال، لذلك تتعامل معهم على أنهم أتباع لها وليس ند كما ينبغي".
ويرى أن الخلل ليس في السعودية فقط بل يتحمل جزء كبير منه المسؤولون اليمنيون الذين أساؤوا لليمن بتصرفاتهم العبثية الطائشة، وأهدروا كرامة هذا الشعب العظيم.
وأضاف "السعودية سلمت ملف اليمن للسفير ال جابر لأنها وجدت مسؤولين يمنيين رضوا بهذا الخنوع والذل ولم يرفضوا هذه المعاملة السيئة، والقيمة التي تضعها لنفسك يعاملك بها الآخرون"، وفق تعبيره.
وبشأن المخاطر المترتبة من التعامل والتجاهل سواء على السعودية أو اليمن، يقول الجريري "حالة العبث هي أبرز المخاطر، فنحن نشاهد كل هذا العبث الأمني والاقتصادي والسياسي في اليمن، والسبب أن من يتحكم بملف اليمن ليس على دراية كافية بتعقيدات المشهد اليمني ولا بتشابك القضايا وتداخلها، مما أوجد لنا حالة عبثية شاملة، الكل يشاهدها منذ سنوات دون أي بوادر لحل حقيقي".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news