كتب القصة لـ”يمن ديلي نيوز” أحلام القبيلي
: إنها قصة فتاة يمنية بسيطة، صنعت من الإعاقة قوة، ومن الفقر إصرارًا، ومن الألم أملًا. وحلمها ما زال مفتوحًا: أن تتحول كلماتها إلى مشروع يغير واقع أسرتها، وأن تظل رسالتها شاهدة على أن المستحيل مجرد كلمة.
وُلدتُ إلى الدنيا سليمة معافاة، كأي طفلة يملأ ضحكها البيت دفئًا. كنت البنت الوحيدة بعد ستة إخوة، فكنت زهرة أبي وبهجته، وفي أحد أيام عيد الاضحى، بينما كان والدي يحملني بفخرٍ بين ذراعيه، وضعني إلى جواره وانشغل بمساعدة أقاربه في ذبح الأضحية.
عاد بعد لحظات يبحث عني، ليجدني صامتة، بلا حركة ولا كلمة. ظن أنني غفوت، لكن غيبوبتي تلك امتدت، وأصبحت لحظة فارقة قلبت حياتي رأسًا على عقب.
أيام طويلة تنقّل بي والداي بين صيدليات ومستشفيات مغلقة بسبب العيد، حتى وجدوا طبيبًا أعطاني حقنة لم تنفع. بقيت بلا صوت ولا حركة. هناك أدرك أبي أن حياة ابنته تغيّرت إلى الأبد.
ومع ذلك، لم يسمح لليأس أن يستوطن قلبه. باع أرضه، وجنبيته التي ورثها عن أبيه، وحتى سيارته، ليسافر بي إلى السعودية طلبًا للعلاج.
قيل له إنني صغيرة على العمليات، فنصحوه بالانتظار حتى أكبر. لم يهدأ، فسافر بي إلى الأردن حيث تلقيت جلسات علاج وتمارين أعادت إلي القدرة على الجلوس والإمساك بنفسي.
مرت الأعوام، ومع بلوغي التاسعة، قرر أخي الأكبر خالد أنني يجب أن أتعلم. كان يرى فيّ شيئًا أكبر من إعاقتي، ويزرع في داخلي حلمًا أن أصبح أستاذة أو دكتورة.
التحقت بالمدرسة، أكتب أحلامي على دفاتر صغيرة، لكن القدر خطف خالد في حادث أليم. رحل وهو يحمل راية الأمل عني، وترك في قلبي فراغًا موجعًا. عشت لحظات يأس قاتلة، لكنني تمسكت بخيط صغير من الحلم، لأستكمل دراستي حتى الصف السادس.
في المدرسة كنت أتعرض للتنمر؛ طلاب يعبثون بدفاتري أو يفرغون هواء كرسيّ المتحرك. كنت أبكي، وأبي يواسي قلبي الموجوع. ومع ذلك، لم يتوقف عن تشجيعي، ووعدني أن ينقلنا إلى المدينة لأواصل دراستي بعيدًا عن قسوة الأطفال.
انتقلنا فعلًا إلى ريدة، وهناك درست في مدرسة الزهراء حتى الصف التاسع. لكن عندما حان وقت الثانوية، اصطدمت بواقع جديد: الفصول في الطابق الثاني.
توسلت إلى المدير أن يجد حلًا، لكنه رفض ببرود وقال: “ادخلي منازل وذاكري في البيت.” خرجت دموعي أمام قسوته، وكدت أستسلم.
لكن لجنة من وزارة التربية زارت المدرسة، وأخبرتهم بمعاناتي. وعدوني أن ينصفوني، وبالفعل أُلزمت المدرسة بتوفير الصف في الدور الأول.
كان انتصارًا صغيرًا لكنه أعاد إلي جزءًا من الثقة. أكملت الثانوية، والتحقت بالمعهد العالي لتأهيل المعلمين. حلمت أن أكون معلمة قرآن، وبدأت بالتدريس بالفعل، لكن ضيق الحال أوقفني.
كان والدي قد كبر، ولم يعد قادرًا على العمل. الإيجارات تنهش قوتنا، وأخي يعمل حمالًا بأجر متقطع. عشنا على الكفاف، وكنت أبحث عن أي وسيلة أساعد بها نفسي وأسرتي.
وجدت نفسي في الإلقاء والإنشاد، كنت تقاضى أجرًا بسيطًا، لكنه كان يمنحني شعورًا عظيمًا بأنني قادرة على العطاء. بتلك الأصوات والأهازيج الصغيرة كنت أشتري رزًا أو سكرًا، أو أسطوانة غاز، فأرى ابتسامة أمي، فيكبر الأمل في داخلي.
ثم جاءت الحرب، وارتفعت الإيجارات حتى اضطررنا للعيش في بيت قديم مظلم بلا شبابيك.
كان ضيقًا علينا كضيق الدنيا نفسها، لكني تمسكت بحلمي الأكبر: أن أمتلك مشروعًا أُطعم به أسرتي، وأرد بعضًا من الدين لأبي الذي ضحى بكل ما يملك من أجلي.
مؤخرًا التقيت بالمصور محمد العلفي، الذي مدّ لي يدًا مختلفة، التقط لي صورًا ونشرها على صفحته، ففتح لي نافذة على العالم.
ثم جاءت الإعلامية أحلام القبيلي، بكلماتها المشجعة التي أحيت في داخلي إصرارًا جديدًا. اليوم، وأنا أكتب قصتي، أدرك أنني لست مجرد فتاة مُقعدة على كرسي متحرك.
أنا ابنة أب باع أرضه من أجل ابتسامة ابنته، وأخت لأخ رحل وهو يؤمن بقدرتها، وصوت لأسرة تكابد قسوة العيش.
أنا نبيلة، أحب الشعر والإلقاء، وأحلم أن أكون قادرة على صناعة الفرق.
أؤمن أن الإعاقة ليست نهاية، بل بداية رحلة أصعب، لكنها مليئة بالمعنى.
وما زلت على يقين أن الله سيمنحني فرصة أعوض فيها أبي وأمي، وأثبت أن المستحيل قد يكون خطوة أولى نحو الممكن.
مرتبط
الوسوم
قصة صحفية
قصحة نجاح
إعاقة
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news