تنقلب مظاهر الوئام والسلام في البوادي والأرياف اليمنية إلى صراعات دامية خصوصًا عقب مواسم الأمطار، إذ تؤدي السيول إلى جرف الحدود الفاصلة بين المزارع والحقول ما يثير نزاعات بين الأهالي حول ملكية الأراضي وإعادة ترسيمها غالبًا ما تنتهي بوقوع قتلى وجرحى.
وتشهد محافظات إب، حجة، عمران، الضالع، وشبوة بشكل خاص، تصاعدًا ملحوظًا في حدة هذه الخلافات، إذ تتطور المشاحنات من تبادل الاتهامات إلى اشتباكات بالعصي والحجارة والأسلحة البيضاء، وأحيانًا باستخدام الأسلحة النارية.
ضحايا نزاعات الأراضي في 2025
آخر الخلافات حول ملكية أرض ما وقع مطلع شهر سبتمبر الجاري في قرية الخُبْل بمديرية مريس التابعة لمحافظة الضالع (جنوب اليمن) وانتهى بمقتل الشاب ياسر عوض الأبرقي، مالك حفّار آبار وإصابة شخصين آخرين نتيجة نزاع مسلح على ملكية الأرض التي كان يقوم فيها بحفر بئر ارتوزاية.
قبل هذه الحادثة بساعات فقط وتحديدًا في 31 من أغسطس الماضي، قُتل الشاب محمد عبدربه صالح الهدار الفاطمي في اشتباكات بين مسلحين من آل الشيخ بن حسين الفاطمي وآل الهدار الفاطمي اثر خلاف على قطعة أرض في منطقة العليا بمديرية بيحان بمحافظة شبوة (جنوبي البلاد).
وفي السابع والعشرين من أغسطس/ آب الماضي، احتدمت الخصومة بين عائلتين أبناء عمومة في منطقة الجلاحيف شمال غرب مديرية عبس بمحافظة حجة، أثناء موسم الأمطار حول حدود قطعة أرض زراعية، وانتهت باستخدام الرصاص ووقوع 4 قتلى بين أفراد العائلتين المتناحرتين.
وتأتي هذه الحادثة بعد يومين فقط من إصابة المعلم محمد سعيد الطويل برصاص مسلحين إثر خلاف على قطعة أرض زراعية في قرية "جناد" في عزلة النقيلين بمديرية السياني بمحافظة إب (وسط اليمن)،
نُقل إثرها إلى المستشفى وأجريت له عملية جراحية عاجلة.
اقرأ أيضا:
نهب منظم للأراضي في إب.. وقيادي حوثي يستولي على أجزاء من الدائري الشرقي للمدينة (تقرير)
وفي 19 أغسطس الماضي، قُتل الشاب علي ناصر بن سويدانه في منطقة خورة بمديرية مرخة السفلى بمحافظة شبوة (جنوب اليمن)، إثر نزاع على قطعة أرض حيث أطلق مسلح قبلي النار عليه وقد تطور الخلاف عقب مشادة كلامية انتهت بمقتل الشاب العشريني.
وهزت محافظة عمران حادثة مقتل سبعة أشخاص بينهم امرأتان في 11 من أغسطس/ آب الماضي، اثر اشتباكات مسلحة على قطعة أرض بين قبيلتي "ذو صباري" التابعة لمديرية سفيان وقبيلة "ذو خيران"، المنتمية للعصيمات، عقب شروع "ذو صباري" في حفر بئر بأرض تقول "ذو خيران" إنها تعود لملكيتها.
وسقط الشاب عواد التركي، قتيلاً برصاص مسلحين قبليين في مدينة دمت بمحافظة الضالع، في 7 أغسطس الماضي، بعد أن تجدد نزاع قديم على ملكية أرض سرعان ما تحول إلى اشتباك دموي انتهى بخسارة حياته في مشهد يختزل مأساة نزاعات الأراضي المتكررة.
في 19 يوليو/تموز الماضي، اندلع اشتباك مسلح بين أسرتي آل حجاري وآل بليس من قبيلة الطواسل بمديرية الصعيد في شبوة، أسفر عن مقتل علي حسين بليس الطوسلي ومحمد صالح عطيف (الذي كان يحاول وقف القتال)، إضافة إلى إصابة جازع محمد بليس ومحمد عبدالله بليس بجروح.
في حادثين منفصلين يوم 26 يونيو الماضي، قُتل الشاب رشيد يحيى الحاج في قرية ضرن المحمول بمديرية جبلة (إب)، برصاص مسلحين أثناء محاولته منعهم من قطع أشجار أرضه الزراعية، فيما أُصيب ثلاثة آخرون في نزاعات مماثلة على أراضٍ بمحافظة عمران.
في 27 مايو الماضي، قُتل شخص وأُصيب آخر في اشتباك مسلح بمديرية تبن في محافظة لحج (جنوب البلاد)، إثر خلاف بين مجموعتين مسلحتين على قطعة أرض، بحسب ما أفاد به الإعلام الأمني التابع لوزارة الداخلية.
وسقط ستة من أسرة واحدة بين قتيل وجريح في منطقة الأعماس بمديرية الحدا التابعة لمحافظة ذمار (وسط اليمن)، إثر اندلاع اشتباكات مسلحة بين أبناء عمومة من قبيلة العبادلة أسفرت عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة ثلاثة آخرين بجروح متفاوتة.
واندلعت اشتباكات بالأسلحة الخفيفة بين مسلحين من أسرتي "الصلاحي" و"ضبعان"، في 12 من إبريل الماضي، إثر نزاع على قطعة أرض في الطريق الدائري بمنطقة السحول التابعة إدارياً لمديرية المخادر بمحافظة إب (وسط اليمن).
أما شهر مارس فقد شهد ثلاث حوادث مرتبطة بنزاعات على الأراضي، ففي 3 مارس قتل مواطن وأصيب آخران في مديرية الوادي بمحافظة مأرب، كما قتل شخصان في 13 مارس خلال جلسة تحكيم قبلي بمحافظة عمران. وفي31 مارس قتل 4 أشخاص وأصيب آخران في اشتباكات بين قبيلتي الشعراني والشريف في عزلة بني محرم بمديرية ريف إب.
وفي 5 فبراير 2025، قتل الشاب عمار أكرم صالح العروي (19 عامًا) وأصيب علي محمد علي الجلال (22 عامًا) والطفل سعد محمد مسعد (8 سنوات) اثر اشتباكات بين مسلحين داخل سوق أعماد بمدينة يريم شمالي إب على ذمة قضية خلاف سابق على قطعة أرض منظورة أمام المحكمة.
ولقي نعمان عبد الجليل وعبد العليم السفياني مصرعهما وأصيب أربعة آخرون في 26 يناير/ كانون الثاني، اثر اشتباكات مسلحة على قطعة أرض في قرية "الزواعي" بعزلة عدينة التابعة لمديرية جبل حبشي غرب محافظة تعز.
ضعف الثقة بالقضاء
يُرجع مواطنون اندلاع النزاعات والمواجهات العنيفة أحيانًا بين بعض القبائل والأفراد بشأن ترسيم الأراضي إلى جملة من العوامل المتداخلة، أبرزها ضعف ثقة المواطنين بالقضاء وبطء إجراءاته في دفعهم للاحتكام إلى الأعراف القبلية، وهو ما يؤدي أحيانًا إلى انفجار الخلافات وتحولها إلى مواجهات عنيفة.
يقول موسى علي، أحد سكان مديرية عبس بمحافظة حجة (شمال البلاد) إن مقتل ثلاثة أشخاص من أبناء منطقته وإصابة آخر، لم يكن بسبب الأرض وحدها بل نتيجة مماطلة المحاكم وانعدام الثقة بالقانون إلى جانب ثقافة الثأر والعصبية التي ما زالت تتحكم ببعض المجتمعات خصوصًا الريفية.
ويضيف في حديثه لـ"الموقع بوست": "أن ضعف أجهزة الدولة هو السبب الأبرز لتفجر مثل هذه النزاعات فلو كان هناك قضاء سريع وهيبة للدولة لما تشاجر أبناء الجلاحيف بالسلاح لكن كل أسرة ترى نفسها صاحبة الحق والرصاص صار الوسيلة الوحيدة للفصل".
ويؤكد أن حادثة الجلاحيف هي مثال حي على أن تباطؤ القضاء في الفصل في النزاعات وضعف آليات المصالحة المجتمعية قد يدفع بالبعض إلى ارتكاب جريمة قد تصل إلى القتل وهذا ما يؤدي إلى عواقب وخيمة لا يحمد عقباها.
تهديد مباشر للأمن المجتمعي
يحذر خبراء اجتماعيون من أن استمرار هذه النزاعات قد يوسع دائرة العنف الأهلي في الريف اليمني، في ظل غياب دور الدولة وأجهزتها القضائية، ما يجعل القبائل والأسر تحسم خلافاتها بالقوة الذاتية بدل الاحتكام إلى القانون.
يقول الناشط المجتمعي محمد الطيب لـ"الموقع بوست" إن استمرار نزاعات الأراضي في الريف اليمني يشكل تهديدًا مباشرًا للأمن المجتمعي، إذ يؤدي غياب الدولة وأجهزتها القضائية إلى لجوء القبائل والأسر إلى العنف لحسم خلافاتها ما يوسع دائرة الصراعات ويزيد من معاناة المدنيين.
ويشير إلى أن النزاعات على الأراضي صارت مرضاً مزمناً ينهش المجتمع، فهي لا تقتصر على الخلافات بين الأفراد بل تتطور إلى ثارات قبلية تمتد لسنوات، ويذهب ضحيتها أبرياء لا علاقة لهم بالمشكلة مؤكدًا أننا بحاجة ماسة إلى مؤسسات قوية تنظم الملكيات وتحمي الحقوق.
يؤكد الشيخ المراغة صالح مجمل صالح روضان، رئيس مجلس العرف القبلي في اليمن، أن النزاعات على الأراضي تُعد من أكثر القضايا حساسية وتعقيدًا في البلاد لارتباطها بمصدر العيش والانتماء والوجاهة الاجتماعية، وغالبًا ما تتحول إلى صراعات مسلحة إن لم تُعالج بحكمة.
وأوضح رئيس مجلس العرف القبلي في اليمن صالح مجمل روضان في تصريح خاص لـ"الموقع بوست" أن معالجة هذه الخلافات تتم غالبًا عبر التحكيم القبلي، الذي يُعتبر قانونًا اجتماعيًا مُلزمًا يحظى باحترام جميع الأطراف.
خطوات التحكيم القبلي
وأضاف روضان أن أولى خطوات التحكيم تبدأ بوقف أي استحداث أو تصرف في الأرض محل النزاع حتى يتم البت بالقضية، ثم يدخل الطرفان في عملية التحكيم من خلال اختيار مشايخ أو محكمين محايدين، ويقدّم المتنازعون ما يُعرف بـ"طروح عدال" من أسلحة أو سيارات أو جنابي ثمينة لضمان التزامهم بالتحكيم.
وبيّن أنه بعد اختيار المحكمين تُكتب قاعدة التحكيم بحضور الطرفين وشاهدين، وتُعرض الدعاوى مع البراهين من وثائق وشهود، ويستكمل المحكمون الإجراءات وصولًا إلى إصدار الحكم وفق قواعد العرف القبلي، ثم يُقرأ الحكم ويُصدق عليه خطيًا من الطرفين.
وأشار الشيخ المراغة صالح مجمل صالح روضان، رئيس مجلس العرف القبلي في اليمن، في حديثه لـ"الموقع بوست" إلى أن الحكم يُنفذ عادة برضا الأطراف، لكن في حال تمنع أحدهم عن التنفيذ تُستخدم الضمانات القبلية أو التجارية المقدمة منذ البداية.
وختم الشيخ روضان تصريحاته بالتأكيد على أن العرف القبلي ما يزال فاعلًا وله تأثير كبير في الحد من النزاعات رغم وجود قوانين الدولة والمحاكم، إذ يسهم في حل ما نسبته 85% من إجمالي القضايا في اليمن.
القضاء العادل هو الحل
على النقيض من الشيخ روضان، يرى المحامي عبد الكريم المصري أن الأعراف القبلية غالبًا ما تؤدي إلى تفاقم الخلافات بدلاً من حلها، مشددًا على أن القضاء الرسمي يظل الخيار الأمثل لمعالجة النزاعات على الأراضي وضمان الحقوق بشكل عادل وشفاف.
وقال المصري في تصريح خاص لـ"الموقع بوست" إن تفاقم نزاعات الأراضي يعود بالدرجة الأولى إلى ضعف السلطة القضائية وتراخيها في الفصل بين الأطراف المتنازعة، إضافة إلى تساهل الأجهزة الأمنية في ضبط المعتدين أو المتنازعين بسبب نفوذ بعض الأطراف، فضلاً عن انتشار الرشوة بين القائمين على الضبط والفصل.
وأضاف المصري وهو عضو نقابة المحامين اليمنيين، أن الوضع القضائي الحالي أسهم في تفاقم المشكلة، إذ أن طول الإجراءات وتعقيدها يرهق أصحاب الحقوق، وغالبًا ما تدفع ظروفهم المادية الصعبة بعضهم إلى التنازل عن أراضيهم رغم أحقيتهم فيها.
وأوضح المصري لـ"الموقع بوست" الخطوات القانونية التي ينبغي على المواطن اتباعها لحماية أرضه وتثبيت حدودها قائلاً: "على المواطن أن يقوم أولاً بتوثيق عقوده لدى الأمين الشرعي المعتمد، ثم تسجيلها رسميًا لدى الجهات المختصة. ومن باب التحوّط والحماية العملية يُستحسن أن يقوم بعد الشراء مباشرة بـتسوير أرضه لضمان تثبيت حدودها ومنع التعديات".
وفي ختام تصريحاته، شدد المصري على أن القضاء الرسمي هو الحل الأمثل لإنهاء النزاعات، مؤكدًا أن الأعراف القبلية غالبًا ما تفاقم المشكلات، مشيرًا إلى ضرورة تخصيص قاضٍ نزيه وحازم للنظر في قضايا الأراضي لضمان حل النزاعات بسرعة وعدالة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news