في اليمن رموز ورواد أبدعوا في القصة والمسرح والشعر والفن التشكيلي والرواية، تعبوا واجتهدوا وتركوا بصماتهم التأسيسية، والريادة هنا تتحقق عندما يمتلك المبدع أسلوبه وتتكون ملامح هويته الفنية التي يعرف بها، حتى ولو لم يكن اسمه مكتوبا على النص أو الكتاب أو اللوحة، تستطيع أن تعرف عمله. وفي الفن التشكيلي لنا رواد نجحوا في امتلاك الهوية وترك الأثر وتحديد معالم الشخصية.
من بين هؤلاء الفنان المهاجر محمد الهبوب الذي ينشر لوحاته على الإنترنت، وكلما رأيت له لوحة جديدة يتأكد لي وضوحه في الحفاظ على ما يميزه ويدل على ريشته، كما تؤكد لك اختياراته اللونية في مراحله المختلفة مستوى متقدم من الوعي الذي يخبرك أن على الفنان التشكيلي أن يقرن القبض على الريشة وعدة الرسم بامتلاك رؤية فلسفية، والهبوب لديه الرؤية العميقة التي تعينه على النظر في جوهر لوحاته وموضوعاتها، فتجده يتجاوز حدود استعراض الجماليات المباشرة إلى طرح أسئلة الوجود والهوية.
في أحدث لوحة نشرها (تجدونها مرفقة مع هذا التناول السريع) يقدم الهبوب عملا فنياً يكاد يستدعي تاريخاً وواقعاً بأكمله. اللوحة المرفقة يمكن ان تكون لأول وهلة بورتريه لامرأة مشغول بتقنية تميز بها الفنان، لكن الغوص في اللوحة ومنحها بعض الوقت في المخيلة يقودك إلى اكتشاف أنها عمل بصري مكثف وأيقونة رمزية لليمن المحجب أو المنقب بالماضي. الكيان المحتجز خلف نقاب حجري، يظهر في اللوحة ليوحي بثنائيات لا يمكن الفكاك منها، فهناك جدران البيت والبلد والحدود والواقع، وهناك جدار محمول يحجب وجه الأنثى/اليمن عن العصر وأولوياته وتحدياته، بينما يغرق بلد وبشر وراء جدران المقدس الذي تنسج خيوطه من الصخر أو الطين ويتخذ لونه بريق الذهب، لكنه في النهاية من جدران الماضي وقسوة الحاضر.
يبني الهبوب لوحته وفق تكوين مركزي صارم، حيث تتوسط المرأة المشهد وهي لا تنظر إلينا، وتبدو أقرب ما تكون إلى جزء من الجدار الذي خلفها، أو ربما الذي ينمو من جسدها ووجهها المسيج هو الآخر أو المخفي وراء جدار. وبتأمل أدق تجد أن اللوحة لا تتقصد العمق بمعناه التقليدي المفتعل، فالخلفية تندمج مع الشخصية لتصبح المرأة والجدار كياناً واحداً، وتهيمن على اللوحة مسحة لونية ترابية تستحضر لون الطين والآجر اليمني العتيق، تتخللها لمسات ذهبية لامعة لا توحي بالزينة بقدر ما تعبر عن ثراء التاريخ الذي تحول إلى عبء وإلى درس يصلح للحديث عن الماضي العتيق الذي لا جدوى منه في الحاضر، وما يراه المتلقي في اللوحة من مزيج يجمع بين الملمس الخشن للجدار واللمعان الذهبي يخلق لغة بصرية موحية فيها الكثير من الصمت التعبيري لكنه يحكي بصوت عالٍ، حيث لا حاجة في الرسم للصوت والكلام لأن الألوان وإيحاءات المواد تحكي عن طبقات الزمن وتقول لكل من يتأملها الكثير.
يخبرك العمل أيضا أن المرأة في اللوحة تجسيد رمزي لليمن وأنها ليست أنثى بالمعنى الحرفي، إنها فعلا اليمن بتاريخه وخصوبته وجماله الأصيل ومحنته التي تتكرر، وفي تعابير الوجه الغائب الذي يحتجب خلف الجدار ما يحيلنا إلى أزمة الهوية الجمعية المحتجبة، فيما لا وجود لليدين في اللوحة ويحضر فقط الجدار ليبدو كأنه امتداد طبيعي للجسد. كأنها جدران تاريخنا وقد أصبحت عبئاً علينا. أو كأنه الوطن السجين الذي يطوقه أكثر من تاريخ وأكثر من جدار، أعني جدران الماضي التي كانت تشكل حصونا منيعة فإذا بها أصبحت في الزمن الحاضر تحد من حركة بلد ومجتمع سجين جدرانه ومقولاته. كل هذا قالته اللوحة المرصعة بجدران صغيرة تغطي وجه أنثى حائرة النظرة مكبلة الحركة فقيرة المدى بلا أفق فسيح أمامها لتنظر إليه سوى الجدار وحده الذي أمامها والذي تحمله في الآن ذاته.
هكذا رأيت الجدار في لوحة الهبوب أبعد من خلفية زخرفية وأقرب لشخصية فاعلة ومفهوم أساسي في رؤيته الفنية، حيث الجدار حجاب حجري مقدود من صلب العمارة اليمنية التقليدية. العمارة التي طالما مثلت الحماية والهوية والانتماء، لكنه الانتماء والإرث الثقيل الخانق في مسارات أخرى على المستويين الاجتماعي والسياسي، إذ ان دفء التاريخ يخفت عندما ينتقل الجدار من أداء وظيفة الحماية ليرمز إلى السجن والحجاب وعزل الذات عن العالم. وهذه هي اليمن التي عزلت نفسها بأصالتها التي تقطع صلتها بحركة الزمن.
وأمام هذه الإيحاءات والانطباعات لا يمكنك ان تتلقى لوحات الفنان محمد الهبوب كأعمال فنية ذات مهمات جمالية مجانية، لأن فيها نكهة الأعمال المفاهيمية الحديثة ولكن بلغة الفن التشكيلي التي يخلص لها الهبوب ويثق أنها باقية، بدليل هذا العمل التشكيلي المفاهيمي (أنظر اللوحة المرفقة) بما فيها من هجاء بصري يتجنب الإشارة المباشرة إلى واقع اليمن القاسي ليدفعك إلى الغوص مع الفنان في رؤية التداعيات ليقول بلغة الرسم ما لا يمكن قوله بالكلمات، محولاً الصمت إلى بيان ناطق، وهذا ما عنيته في السطور الأولى بالفنان الفيلسوف صاحب الرؤية الذي لا يقدم إجابات بقدر ما يطرح الأسئلة التي تأخذ المتلقي إلى طرح أسئلته هو أيضاً، وهذا النوع من الفن الذي يمتلك صاحبه رؤية ثاقبة سيظل دائماً في مأمن من أي محاكاة، لأنه يرسم الجوهر الذي يخاطب وعيك وإنسانيتك ووجودك.
وفي تأمل أخير لتفاصيل اللوحة بدت لي الأحجار التي تتقنع بها المرأة كأنها حروف (كيبورد) حاسوب، لكني أميل إلى التأويل الذي بنيت عليه هذه القراءة السريعة وهو أن الجدار وإيحاءاته يمثل مركز اللوحة ومتنها، ولا سيما عندما تضع هذا العمل في في موازاة لوحات أخرى أنجزها الهبوب مؤخرا وفيها اشتغال على عالم المعمار في اليمن ودلالاته.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news