هتون بغدادي:
في كل عام دراسي جديد، يتكرر المشهد ذاته: طالب يسير بحقيبة متخمة بالكتب وكأنه يحمل صخور الجبال على ظهره. أمٌّ تبحث في قروبات الواتساب عن حيلة حتى تغييب ابنها، وآباء يتأففون من الاستيقاظ المبكر كأن العلم نقمة لا نعمة. والسؤال الذي يصرخ في وجهنا: لماذا نكره الدراسة ونحن نعلم أنها جسر النجاة؟
من اليابان إلى لامبورغيني.. دروس من الواقع
حين ننظر إلى أمم صنعت مجدها بالعلم، نجد اليابان أبرز مثال. خرجت من أنقاض الحرب العالمية الثانية محطّمة، بلا موارد تقريباً. لكنها لم ترفع راية الاستسلام، بل جعلت المدرسة مصنعا للأبطال، علمت أبناءها أن النظام والجد والاجتهاد أثمن من أي سلاح، فتحولت في عقود قليلة من بلد مدمَّر إلى واحدة من أقوى اقتصاديات العالم.
بل حتى قصة فرد واحد تغيّر مجرى التاريخ تكفي، في يوم ما، تلقى صانع جرارات زراعية إيطالي نقداً لاذعاً من شركة سيارات فاخرة، قيل له: “أنت لا تفهم شيئاً في السيارات” هذه الكلمة لم تكسره، بل فجّرت فيه بركان الطموح. ذلك الرجل هو فيروتشيو لامبورغيني، الذي أسس فيما بعد إمبراطورية السيارات الرياضية الأشهر في العالم. لم يفعل ذلك بالخمول أو الاتكال، بل بالعلم والإصرار والجرأة.
وهناك أمثلة لا تُحصى: من ستيف جوبز الذي صنع ثورة الهواتف الذكية بعدما جلس في محاضرات لم يُسجَّل فيها رسمياً، إلى توماس إديسون الذي جعل الليل نهاراً بالمصباح الكهربائي. كلهم آمنوا أن الكتاب ليس عبئاً، بل مفتاحاً لباب جديد.
أمثلة عربية وإسلامية قديمة:
1. بيت الحكمة في بغداد: كان صرحاً علمياً عالمياً، تُترجم فيه علوم الإغريق والفرس والهند، وصار منارةً أضاءت أوروبا قبل نهضتها.
2. ابن سينا: الذي كتب “القانون في الطب” وظل المرجع الطبي الأول في أوروبا لقرون.
3. الخوارزمي: مؤسس علم الجبر، الذي صار أساس الرياضيات والبرمجة الحديثة.
4. ابن الهيثم: الذي وضع أسس علم البصريات، وكان السبب في فهم الضوء والعدسات.
أمثلة عربية معاصرة :
1. دبي: من صحراء قاحلة إلى واحدة من أهم مدن العالم، بفضل رؤية اعتمدت على التعليم، التكنولوجيا، والانفتاح على المعرفة.
2. المملكة العربية السعودية: “رؤية 2030” فتحت أبواباً واسعة للعلم والابتكار، وأطلقت برامج الابتعاث ومراكز أبحاث ضخمة، لتحوّل الطاقات الشابة من مجرد مستهلكين للتقنية إلى صُنّاع لها.
3. الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان: يضعان التعليم والمعرفة في قلب مشروع النهضة، عبر الجامعات العالمية ومشاريع المدن الذكية مثل “نيوم”.
لماذا نصوّر العلم كعقوبة؟
مشكلتنا أننا نصوّر الدراسة كعقوبة، نربطها بالإجهاد لا بالإنجاز، نُحدث أبناءنا عن الدروس كأنها سجن، عن الاختبارات كأنها مقصلة، بينما الحقيقة أن التعليم هو البذرة التي تُثمر مستقبلاً مشرقاً.
مسؤولية البيت قبل المدرسة..
حين تتحول قروبات الأمهات إلى ساحات تحريض ضد الالتزام، كيف سينشأ الأبناء؟ وحين يرى الطالب والده يستخف بالقوانين، كيف سيتعلم احترام النظام؟ التربية لا تبدأ في المدرسة، بل في البيت.
المدرسة مرآة للحياة..
الحياة كلها اختبار، والدنيا دار ابتلاء، والمدرسة ليست إلا نسخة مصغّرة من ذلك: صبر، جهد، نجاح، فشل، محاولات جديدة، من يتعلّم إدارة هذه المعركة الصغيرة، ينجح في معارك الحياة الكبرى.
المطلوب: ثورة في الوعي..
إذا أردنا جيلاً لا يركض خلف الشاشات كآلات فارغة، فعلينا أن نزرع فيه روح المثابرة والطموح. أن نُعلّمه أن الشهادة ليست ورقة، بل سلاح. أن نُذكّره أن اللغات باب أوصى به نبينا ﷺ للتواصل مع الأمم. أن نعيد فيهم ذلك الوميض الذي جعل اليابان تنهض، وجعل صانع الجرارات يبني إمبراطورية سيارات.
فالعودة إلى المدارس ليست بداية عام فقط.. بل بداية وعي جديد.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news