بودكاست ثمانية والأخطاء الفادحة مع السعيدي
قبل 12 دقيقة
إن إعداد أي برنامج بودكاست جاد يفترض أن يقوم على معرفة رصينة وتهيئة دقيقة، غير أن ما ظهر في حلقة بودكاست "ثمانية" مع السعيدي انطوى على مغالطات خطيرة أثارت الاستغراب والاستفزاز. ولست أرى في نقد برامج البودكاست التي تتناول تاريخ اليمن رفاهية فكرية، بل ضرورة معرفية، فالأخطر ما يمكن أن يحدث هو أن يتحول الجهل المركب إلى سردية يستهلكها المتلقي العربي، وهذا ما وقع فيه معد ومقدم بودكاست ثمانية
.
لقد بدا المقدم سطحيًا في فهمه لتاريخ اليمن وتركيبته المعقدة، فلم يُحسن إدارة الحوار، وترك ضيفه السعيدي يبحر في التاريخ وكأنه يتعامل مع صفحة بيضاء بلا ذاكرة. وهكذا مررت مغالطات كبيرة وقراءات مشوهة كان يفترض التصدي لها لا تبنيها.
تاريخ اليمن لا يمكن اختزاله في بضع سطور أو روايته من منظور أحادي، فهو تاريخ تداخلات قبلية واجتماعية معقدة، حيث لا ينفصل السياسي عن القبلي، ولا الديني عن الاجتماعي، وكل مرحلة حملت طبقات من الصراع والتوافق والتحالف والانقسام. ومع ذلك، بدا السعيدي في حديثه وكأنه يخلط الحابل بالنابل، ممارسًا تبسيطًا مخلًا وواقعًا في أخطاء معرفية خطيرة.
ومن هذه الأخطاء التاريخية: فالملوك الرسوليون، مثلًا، كانوا يدّعون انتسابًا للملك اليمني جبلة بن الأيهم، وانشقوا عن الدولة الأيوبية في آخر أيامها، بينما نسبهم السعيدي خطأً إلى الأمويين. ومن بعدهم جاء الطاهريون، الذين حكموا بعد بني رسول، وكانوا آخر أتباع الأيوبيين في اليمن، والأيوبيون خلفوا الفاطميين في مصر، لكن نفوذهم في اليمن تلاشى سريعًا. ومن المهم التنبيه إلى أن الدولة الطاهرية لم تكن مجرد امتداد باهت للرسوليين، بل خاضت تحالفات كبرى، إذ تحالفت مع دولة المماليك في مصر لصد البرتغاليين في البحر الأحمر وخليج عدن، وهو موقع استراتيجي فارق يعكس أهمية اليمن التاريخية.
أما السعيدي فقد نسب الطاهريين خطأً إلى الفاطميين، بينما الحقيقة المؤكدة أنهم أقاموا تحالفًا مع المماليك لمواجهة البرتغاليين، مع وجود تنافس بينهم على السيطرة على مكة والمدينة.
أخطر هذه الأخطاء كان إعادة تدوير المزاعم الغربية القديمة عن استخدام القوات المصرية للأسلحة الكيماوية في اليمن إبان عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ودعم مصر لثورة الشعب اليمني ضد الإمامة بين 1962 و1968. هذه الرواية الكاذبة وُلدت في أجواء الحرب الباردة، وروّجتها الصحافة الغربية المناوئة للمد القومي العربي، دون أي دليل أممي أو تحقيق محايد، بينما بعثات دولية مثل الصليب الأحمر لم تؤكد هذه المزاعم وأشارت إلى أن الإصابات التي شاهدتها لا علاقة لها بالأسلحة الكيميائية.
هذه السردية ليست خطأ عرضيًا، بل سقوط معرفي خطير، فهي تكرّس أسطورة سياسية للنيل من الدور المصري في اليمن، متجاهلة أن مصر دفعت ثمنًا باهظًا من دماء جنودها في مواجهة المشروع الإمامي المدعوم إقليميًا. وقد أشار سعيد ثابت إلى ذلك، موضحًا أن قبول مثل هذه المزاعم يعني تسطيح الوعي وتغييب السياق الأوسع للصراع في اليمن. فالحديث عن "كيماوي عبدالناصر" ليس توثيقًا للتاريخ، بل إعادة إنتاج لدعاية فقدت صدقيتها منذ زمن.
كما أشار موسى النمراني في احدى المواقع المحلية إلى أن هذه المعلومات، رغم عدم صلتها بجوهر النقد للتجربة الجمهورية، تكشف ضعف التزام المتحدث بقواعد السرد التاريخي اللازمة لبناء تصور معرفي صحيح.
ومن مظاهر الخلط أيضًا تعامل السعيدي مع القبيلة وكأنها مجرد "بقايا بدائية" عرقلت قيام الدولة، بينما الحقيقة أن القبيلة كانت – وما زالت – بنية اجتماعية عميقة أسهمت في تشكيل المجال السياسي لليمن عبر القرون، وكانت منظومة قانونية عبر الأعراف تمارس العدالة وتحفظ التوازن الاجتماعي. سلطات الشيوخ لم تكن مطلقة، بل محكومة بالرضا الجمعي للقبيلة ومحدودة بقدرة الأعيان والوجهاء.
لقد شهد اليمن تداخلًا دائمًا بين القبيلة والدولة، ففي حين استعانت الدول الكبرى بالقبائل لتثبيت الحكم، كانت القبيلة تسعى للاستفادة من موارد الدولة لتعزيز مكانتها. أما الإمامة الزيدية فقد دخلت في صراع طويل مع القبائل، محاولة فرض شرعية دينية فوق البنية القبلية، فواجهت رفضًا مستمرًا. لذلك، فإن القول إن "الزيدية حكمت اليمن فترات طويلة" لا يعكس الواقع التاريخي؛ فقد سيطرت على أجزاء محدودة من الهضبة الشمالية، بينما بقيت مناطق واسعة خارج نفوذها وخاضعة لدول وسلطانات مستقلة أو للحكم العثماني والمملوكي.
إن خطأ السعيدي في البودكاست لا يقتصر على تشويه التاريخ اليمني، بل يكرّس عقلية الاستسهال التي تجعل من الدعاية بديلًا عن التوثيق، ومن الوهم بديلًا عن الحقيقة. تمرير مثل هذه المغالطات عبر الإعلام الجديد يمنحها طابعًا عصريًا يوحي بالمصداقية، ويضاعف مسؤولية صناع المحتوى تجاه الأجيال الشابة. فالإعلام الجديد إن لم يقم على معرفة راسخة وتوثيق دقيق، فلن يكون سوى قناة لإعادة تدوير الجهل وتحويل الأخطاء إلى وعي زائف يترسخ في الذاكرة الجمعية.
مسؤولية صناع البودكاست أكبر من إدارة حوار أو تسويق فكرة؛ إنها مسؤولية أخلاقية ومعرفية تجاه وعي الأمة وذاكرتها. وأي استسهال في هذا المجال ليس مجرد هفوة إعلامية، بل جريمة معرفية في حق التاريخ والوعي العام.
المراجع والمصادر:
اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تقارير البعثة الطبية في اليمن (1967)، أرشيف الصليب الأحمر – جنيف.
سعيد ثابت، "أسطورة الكيماوي في حرب اليمن"، منشور في عدة صحف ومواقع عربية.
موسى النمراني، "مغالطات السعيدي في بودكاست ثمانية"، المصدر أونلاين.
مقالات في صحيفة الأهرام المصرية (1967–1968) حول نفي مزاعم استخدام الكيماوي في اليمن.
أحمد جابر عفيف، اليمن والبرتغاليون في القرن السادس عشر، دار العودة، بيروت، 1982.
الحداد، محمد بن علي، تاريخ اليمن في الإسلام، مكتبة الإرشاد، صنعاء، 1990.
ريم مجاهد، القبائل والدولة في اليمن. إصدارات مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، 2022.
• أكاديمي ومحلل سياسي يمني
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news