تسارعت وتيرة النقاش في لبنان حول ملف نزع سلاح حزب الله، مع تكليف الجيش بوضع خطة تنفيذية قبل نهاية العام، في ظل رفض الحزب لأي مساس بسلاحه. وجاء ذلك على وقع ضغوط أمريكية متزايدة، تمثلت بمذكرة حملها المبعوث توم باراك، تتضمن جدولاً زمنياً وآلية مقترحة للتنفيذ.
منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، ظلّ سلاح حزب الله أحد أكثر الملفات حساسيةً في المشهد اللبناني، يتوارى أحياناً ويعود إلى الواجهة مع كل أزمة كبرى.
لكن بعد حرب 2024 المدمّرة، بات هذا السلاح في قلب مفاوضات علنية تقودها واشنطن، وسط ضغوط دولية غير مسبوقة.
"ورقة براك" أو "الورقة الأمريكية"، وهي خطة أميركية مفصّلة لنزع سلاح الحزب مقابل انسحاب إسرائيلي وضمانات دولية، قد تعيد رسم التوازنات في لبنان. فهل دخل البلد فعلاً مرحلة تسليم السلاح؟
توماس براك، وهو سفير الولايات المتحدة لدى تركيا ومبعوثها الخاص لسوريا، زار بيروت لأول مرة في 19 حزيران/يونيو 2025 حاملاً خريطة طريق أمريكية مفصلة من 6 صفحات لطرحها على المسؤولين اللبنانيين. سمّيت الخريطة بـ"ورقة براك" وتضمنّت مطالب واضحة بنزع سلاح حزب الله والفصائل المسلحة كافة في لبنان بشكل كامل قبل نهاية 2025 (بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2025).
في المقابل، تعِد الخطة الأمريكية بانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق اللبنانية المحتلة المتبقية ووقف الضربات الإسرائيلية على لبنان. إضافة لذلك، سيفتح تنفيذ نزع السلاح باب الدعم المالي الدولي لإعادة إعمار مناطق في لبنان دمرتها الحرب الإسرائيلية الأخيرة، وهو دعم تقول واشنطن إنها لن تقدمه في ظلّ احتفاظ حزب الله بالسلاح.
توماس باراك، المستشار السابق لدونالد ترامب يدفع ببراءته من تهمة ممارسة ضغوط لصالح الإمارات
شملت ورقة براك أيضاً عناصر أوسع لترتيب أوضاع لبنان الإقليمية والداخلية، منها تسريع إصلاحات مالية واقتصادية، ومراقبة الحدود والمعابر لضبط التهريب. ولضمان تنفيذ الاتفاق المقترح، عرضت الخطة إنشاء آلية بإشراف الأمم المتحدة لتأمين إطلاق سراح معتقلين لبنانيين لدى إسرائيل بالتوازي مع تقدّم خطوات نزع السلاح. واشترطت واشنطن أيضاً إصدار الحكومة اللبنانية قراراً بالإجماع يلتزم بنزع السلاح كمكوّن أساسي في أي اتفاق نهائي.
أمهل المبعوث الأمريكي القادة اللبنانيين حتى 1 يوليو/تمّوز 2025 للرد رسمياً على هذه المقترحات، وصرّح بأنه سيعود إلى بيروت لاستماع إلى ملاحظاتهم. على الفور، بدأت بيروت دراسة الورقة وشكّلت لجنة ثلاثية تضمّ ممثلين عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان لصياغة رد لبناني موحّد. وفي الكواليس، تواصل رئيس البرلمان نبيه بري - حليف حزب الله - مباشرة مع قيادة الحزب لضمان مشاركتهم في بلورة الموقف. وبحسب تقارير صحافية، لم يعارض حزب الله مبدأ التعاون مع اللجنة واستجاب لفتح النقاش، لكنه لم يقدّم أي التزام أو وعد بالتخلي عن سلاحه.
النقاش الداخلي ورد حزب الله الأولي
كثر ما لفت في الورقة هو تزامنها مع اشتراط واشنطن صدور قرار رسمي لبناني يلتزم علناً بتطبيقها. هذا الربط بين الالتزام السياسي والمساعدات العسكرية والاقتصادية، جعل الدولة اللبنانية أمام معادلة دقيقة. وفيما التزم حزب الله الصمت العلني حيال المقترح، بدأ النقاش يدور في الكواليس. رئيس مجلس النواب نبيه بري دخل في مشاورات مباشرة مع الحزب، ووافق على الانخراط في صياغة رد لبناني موحّد.
وقف إطلاق النار في لبنان هو هدنة، وليس حلاً للشرق الأوسط
ما هي أبرز بنود اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في لبنان؟
في العلن، التزم الحزب الصمت حيال مقترح براك خلال النصف الثاني من يونيو. لكن مع اقتراب موعد الرد، خرجت مواقف تصعيدية من قادته تؤكد رفض الرضوخ للضغوط الأمريكية والإسرائيلية. ففي 30 حزيران/يونيو 2025 – عشية انتهاء المهلة – ألقى الأمين العام الشيخ نعيم قاسم خطاباً متلفزاً شديد اللهجة أكد فيه حق الحزب واللبنانيين في قول "لا" لأمريكا و"لا" لإسرائيل. واتهم قاسم واشنطن وإسرائيل بمحاولة استغلال الظرف الراهن لفرض واقع جديد في لبنان والمنطقة يخدم مصالحهما، داعياً جميع اللبنانيين إلى عدم مساعدة أمريكا وإسرائيل في تنفيذ مخططاتهما.
الجولة الثانية من الوساطة: ورقة لبنانية معدّلة
لكنها سعت لتسويق الخطة كصفقة متكاملة يجب انتهازها سريعاً. حرص توماس براك على طمأنة الجانب اللبناني بأن نزع سلاح حزب الله لا يستهدف إقصاء الحزب سياسياً. قال براك في تصريح له: "يجب أن يرى حزب الله أن له مستقبلًا، وأن الطريق المطروح ليس موجهاً ضدّه فحسب". وفي الوقت نفسه، حذّر براك القادة اللبنانيين من التباطؤ: "المنطقة تتحرك بسرعة فائقة، وسيتم ترككم خلفها". وأشار إلى انطلاق حوارات غير مسبوقة بين سوريا وإسرائيل بعد سقوط نظام الأسد، معتبراً أنه كما انخرطت دمشق في ترتيب أوضاع ما بعد الحرب، على بيروت أيضاً ألا تُفوّت فرصة إعادة اختراع الحوار بشأن سلاح حزب الله قبل فوات الأوان. وقد كشف مصدر دبلوماسي أن واشنطن أبلغت بيروت بأن هذه الفرصة قد لا تتكرر وعليها اتخاذ قرار تاريخي الآن.
زيارة حاسمة وجلسة حكومية منتظرة
رغم الأجواء الإيجابية الحذرة في أوائل يوليو، بقيت بعض نقاط الخلاف الجوهرية عالقة خلال الأسابيع اللاحقة. لبنان أصرّ على ترتيب الأولويات: الأمن مقابل السلاح – أي لا نزع لسلاح حزب الله قبل ضمان الانسحاب الكامل ووقف النار – فيما إسرائيل عارضت أي ربط مسبق بين التزامها وقيام حزب الله بخطوات أولاً. ووفق تقارير صحافية، فإن الولايات المتحدة نقلت إلى بيروت رفض إسرائيل طرح "الانسحاب أولاً"، ما وضع واشنطن في موقف الضغط لتليين الموقف اللبناني الداخلي. بالتزامن، واصلت إسرائيل قصفها اليومي ما أبقى التوتر مرتفعاً وزاد الشكوك في نواياها.
في أواخر تموز/يوليو 2025 قدم براك إلى بيروت مرة ثالثة لتقديم الرد الأمريكي الرسمي على المقترحات اللبنانية. أوضح براك للمسؤولين اللبنانيين أن بلاده لن تستمر في إرسال مبعوثيها أو الضغط على إسرائيل لوقف هجماتها ما لم تتخذ الحكومة اللبنانية قراراً علنياً سريعاً بالالتزام بنزع السلاح. فبحسب تقرير لوكالة رويترز بتاريخ 29 يوليو، اشترطت واشنطن صدور قرار رسمي عن مجلس الوزراء اللبناني يتعهد بنزع سلاح حزب الله قبل استئناف أي مفاوضات أو جهود أمريكية إضافية. ونُقل عن مصدر لبناني قوله: "تقول لنا أمريكا: لن يكون هناك مزيد من زيارات براك ولا تبادل أوراق – على مجلس الوزراء اتخاذ قرار وبعدها نتابع النقاش. لم يعد بإمكانهم الانتظار أكثر".
في هذه الأثناء، أبلغ براك رئيس الوزراء نواف سلام صراحةً أن واشنطن لا تستطيع "إجبار" إسرائيل على القيام بأي شيء ما لم تلتزم بيروت صراحةً بخارطة الطريق. وعلى منصة أكس (تويتر)، نشر المبعوث الأمريكي رسالة صارمة بعد لقائه بالمسؤولين اللبنانيين قائلاً: "طالما أن حزب الله يحتفظ بسلاحه، فإن الكلام وحده لا يكفي. على الحكومة والحزب الالتزام الكامل والتحرّك الآن حتى لا يحكموا على الشعب اللبناني بالبقاء في حالة التعثر الراهنة"، بإشارة واضحة إلى ضرورة الانتقال من مرحلة التصريحات إلى مرحلة الأفعال الملموسة.
غارات إسرائيلية جديدة على لبنان، نتنياهو يهدد بالمزيد وبيروت "تحقق" في هوية مطلقي الصواريخ
أمام هذه الضغوط المتصاعدة، استشعرت القيادة اللبنانية خطر الوصول إلى حافة الانفجار. فعدم إرضاء الشروط الأمريكية قد يعني تصعيداً إسرائيلياً كبيراً ربما يصل إلى استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت. لذا سارع رئيس الحكومة نواف سلام إلى الدعوة لجلسة طارئة لمجلس الوزراء في 5 آب/أغسطس 2025 لوضع جدول زمني لتنفيذ مسألة حصر السلاح بيد الدولة. وجاء في نص الدعوة أن الجلسة ستبحث "بسط سيادة الدولة على جميع أراضيها بقواتها حصرياً" – وهي عبارة تُقرأ كإقرار علني بمبدأ نزع سلاح حزب الله وتسليم سلاحه للجيش. وستتناول الجلسة أيضاً "ترتيبات وقف إطلاق النار... بما فيها الأفكار الواردة في مقترح السفير براك حول تنفيذه".
انقسام داخلي
حزب الله جدد رفضه تسليم السلاح في ظل استمرار الغارات. نعيم قاسم قال إن الحزب لا يفاوض على السلاح قبل وقف العدوان، معتبراً أن المطالبة به الآن تخدم إسرائيل. المفتي الجعفري أحمد قبلان حذر من أن نزع سلاح الحزب سيترك لبنان بلا حماية. وفي المقابل، صعّدت قوى معارضة نبرتها، واعتبر رئيس حزب القوات اللبنانية أن اللحظة تستوجب الحسم لا التردد، فيما وصف النائب جبران باسيل السلاح بأنه بات عبئاً وطنياً.
إسرائيل تتوعد بمواصلة القصف "إذا لم يُنزع سلاح حزب الله"، ولبنان يعتبرها "استباحة" لاتفاق وقف إطلاق النار
وفيما يستعد مجلس الوزراء لجلسة قد تكون الأهم منذ اتفاق الطائف، تترقب العواصم الإقليمية والغربية مسار التصويت وما سيليه. فنجاح التسوية سيعني بدء عملية تاريخية لنقل سلاح الحزب إلى يد الدولة. أما الفشل، فقد يعيد البلاد إلى مربع التصعيد.
جلسات الحكومة لبحث الورقة الأميركية
عقدت الحكومة اللبنانية جلستين متتاليتين في القصر الجمهوري مطلع آب/أغسطس 2025 لبحث ملف نزع سلاح حزب الله في ضوء "الورقة الأمريكية" التي سلّمها المبعوث توم براك.
في الجلسة الأولى يوم الثلاثاء 5 آب، ناقش الوزراء مضمون الوثيقة الأمريكية، بما في ذلك الجدول الزمني المقترح وآلية إنهاء الوجود المسلح لجميع الجهات غير الحكومية، وانتشار الجيش اللبناني في المناطق الحدودية والمواقع الاستراتيجية، وانسحاب إسرائيل من النقاط الخمس التي احتلتها خلال الحرب الأخيرة. وبسبب الانقسام الحاد حول التوقيت والترتيبات، انسحب وزراء الثنائي الشيعي من الجلسة بعد انتهاء النقاش وقبل اتخاذ القرار، ولم يُتخذ قرار بشأن البنود التفصيلية، لكن تم تكليف الجيش اللبناني إعداد خطة شاملة لحصر السلاح بيد القوى الشرعية، على أن تُنجز وتُعرض على مجلس الوزراء في موعد أقصاه 31 آب/أغسطس لمناقشتها وإقرارها.
لم يتأخر حزب الله في الرد على هذه الجلسة وأصدر بياناً قال فيه انه سيتعامل مع هذا القرار وكأنه "غير موجود"
أما الجلسة الثانية يوم الخميس 7 آب/أغسطس، التي امتدت لأكثر من أربع ساعات، فقد شهدت تصعيداً سياسياً تمثل بانسحاب الوزراء الشيعة، وبينهم ممثلون لحزب الله وحركة أمل، اعتراضاً على المضي في إقرار أهداف الوثيقة قبل تثبيت وقف إطلاق النار وضمان الانسحاب الإسرائيلي. ورغم ذلك، أقرّ مجلس الوزراء مقدمة الوثيقة المكوّنة من 11 هدفاً، وأبرزها ضمان ديمومة وقف الأعمال العدائية، وإنهاء الوجود المسلح لجميع الجهات غير الحكومية، ونشر الجيش اللبناني في المواقع المحددة، وانسحاب إسرائيل من المناطق التي احتلتها خلال الحرب، مع التأكيد مجدداً على تكليف الجيش إنجاز خطته التنفيذية قبل نهاية الشهر، تمهيداً لاعتمادها والشروع في التنفيذ قبل نهاية العام.
من الحرب إلى وقف إطلاق النار غير المكتمل
في خريف عام 2023، بدأت المواجهات العسكرية تتصاعد تدريجياً على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، مع تكرار عمليات القصف والاشتباك بين حزب الله والجيش الإسرائيلي. لكن الشرارة الكبرى جاءت نهاية صيف 2024، بعد سلسلة من الهجمات النوعية التي نفذها الحزب، وردّت إسرائيل عليها بتنفيذ تفجيرات عنيفة استهدفت قواعد صاروخية ومراكز قيادة ميدانية، وعملية كبرى بتفجير أجهزة اتصال لاسلكية يستخدمها أعضاء حزب الله عُرفت إعلامياً باسم "تفجيرات البايجرز" وأدت إلى جرح آلاف الأشخاص وتسببت بإعاقات دائمة للكثير منهم. بعد أيام، اغتالت إسرائيل عدداً من أعضاء مجلس القيادة العسكرية لحزب الله، ما مثّل تصعيداً حاسماً في مسار المواجهة.
لكن نقطة التحوّل المفصلية جاءت في أيلول/سبتمبر 2024، حين قُتل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في غارة دقيقة استهدفت أحد المقرات المحصنة في الضاحية الجنوبية لبيروت. تبع ذلك قصف إسرائيلي يومي على الضاحية ومناطق واسعة في الجنوب والبقاع، ما دفع حزب الله إلى الرد بإطلاق آلاف الصواريخ على الجليل والجولان ووسط إسرائيل، ووقعت مواجهات ميدانية عنيفة امتدت لأسابيع.
تدخّلت واشنطن، بدعم فرنسي وأممي، للتوسط في اتفاق لوقف إطلاق النار أُبرم في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024. الاتفاق قضى بانسحاب مقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني، على أن تنفرد قوات الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل التابعة للأمم المتحدة بالانتشار جنوباً. في المقابل، تعهّدت إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية المتبقية التي تحتلها، ووقف الغارات الجوية والعمليات الأمنية.
لكن التنفيذ كان منقوصاً. أبقت إسرائيل على خمس نقاط عسكرية قرب الحدود، متذرعةً بأسباب أمنية، وواصلت تنفيذ غارات جوية شبه يومية، تقول إنها تستهدف مواقع إعادة تموضع أو أسلحة لحزب الله أو عناصر منه. من جانبه، اتهم لبنان الرسمي إسرائيل بارتكاب أكثر من ثلاثة آلاف خرق لبنود الهدنة خلال الأشهر اللاحقة، وأشار إلى مقتل أكثر من 230 شخصاً، معظمهم من المدنيين.
الحرب الأخيرة شكّلت ضربة قاسية للحزب. فإضافة إلى الخسائر البشرية والميدانية، فقد الحزب قيادته المركزية. فبعد مقتل نصر الله، استُهدف أيضاً هاشم صفي الدين، رئيس المجلس التنفيذي وخليفته المحتمل، في غارة دقيقة على الضاحية. هذا الفراغ القيادي تولاه سريعاً الشيخ نعيم قاسم، الذي بات الأمين العام الفعلي في مرحلة حرجة داخلياً وإقليمياً.
في ظل هذا الواقع، عاد ملف سلاح الحزب إلى الواجهة، لكن هذه المرة ضمن مفاوضات علنية تقودها واشنطن، في سياق تفاهمات دولية تشمل إعادة إعمار لبنان وترتيب الوضع الأمني في الجنوب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news