لطالما عملت صناعة الألعاب العالمية وفق نمط تقليدي تتركّز فيه القرارات الإبداعية والتقنية في أميركا الشمالية واليابان وأوروبا، بينما يُوزّع العمل التنفيذي على مناطق أخرى. لكن اليوم، هناك تحوّل هادئ يحدث، لا يقوم فقط على الاستثمار، بل على إعادة تعريف فلسفة الشراكة.
في الشرق الأوسط، تبني المملكة العربية السعودية واحداً من أكثر الأنظمة البيئية طموحاً وتمحوراً حول تنمية المواهب في صناعة الألعاب. فبدلاً من الاكتفاء بدعوة الشركات العالمية لافتتاح فروع، تسعى المملكة إلى الاستثمار في القدرات المحلية لا فقط في السوق. ومن خلال ذلك، تقدم نموذجاً جديداً قد يرسم ملامح العقد القادم لصناعة الألعاب، وهو نموذج لا مركزي، بل شامل وتشاركي.
من المنفّذ إلى المُبدع
الأساس في هذا النموذج واضح، وهو تمكين المطورين المحليين من أن يكونوا جزءاً من عملية الإبداع، لا مجرد منفّذين. تقول الدكتورة نيكا نور، نائب الرئيس الأول لتطوير الأعمال الدولية في مجموعة �سافي� للألعاب إن المطورين السعوديين لن يكونوا مجرد مساهمين، بل قادة في مجالات مثل الترجمة واختبار الجودة والتصميم الصوتي وتطوير الملكيات الفكرية.
وهذا يتناقض تماماً مع نموذج �الاستعانة بالمصادر الخارجية� التقليدي. وتضيف خلال حديثها مع �الشرق الأوسط� أنه بدلاً من حصر المواهب المحلية في تنفيذ المهام الثانوية، يهدف هذا التوجه إلى دمجهم في صلب العملية الإبداعية، وتزويدهم بالأدوات والخبرات لبناء مساراتهم المهنية المستقلة.
معادلة المواهب
في صميم هذه الاستراتيجية السعودية يظهر اعتراف مهم، وهو أن رأس المال البشري هو أهم أصول صناعة الألعاب الحديثة. يؤكد مارتن ماكبرايد، مدير الاتصالات في شركة �سايد� أن توسع شركته إلى الرياض يعتمد على ثلاثة محاور، وهي الشراكة والناس والمكان. ويضيف خلال حديثه مع �الشرق الأوسط� أن الاستوديو الجديد الذي تخطط �سايد� لافتتاحه في الربع الأخير من عام 2025 في الرياض سيعتمد على نموذج �التطوير المشترك�، ما يعني أن المطورين المحليين لن يقتصر دورهم على التنفيذ، بل سيشاركون في الإبداع واتخاذ القرارات التصميمية.
هذا ينسجم مع رؤية المملكة 2030، والتي تهدف إلى إطلاق 250 شركة تطوير ألعاب، وخلق 39 ألف وظيفة، وتحقيق 13.3 مليار دولار أميركي كأثر اقتصادي من قطاع الألعاب والرياضات الإلكترونية بحلول عام 2030، بحسب إحصاءات �PwC�.
النظام البيئي أولاً
النهج السعودي لا يقتصر على جذب الشركات، بل يشمل بناء منظومة متكاملة تشمل السياسات والبنية التحتية والتعليم والتوظيف. تشير نور إلى أن هذه الشراكة لا تهدف فقط لتقديم خدمات، بل لبناء نظام بيئي محلي على المدى الطويل، يضمن إشراك المواهب السعودية في مشاريع حية، ويعرضهم لأفضل الممارسات العالمية.
لهذا، تخطط �سافي� و�سايد� للتعاون مع مؤسسات تعليمية محلية لتقديم ورش عمل وفرص تدريب وشراكات جامعية، مستفيدين من نماذج مماثلة نجحت بها �سايد� في الولايات المتحدة وبريطانيا.
تبادل حقيقي لا نقل أحادي
توسيع الشراكات الناجحة لا يقتصر على تقديم الخبرة، بل يتطلب التواضع والاحترام المتبادل. يشرح ماكبرايد أن كل استوديو جديد يتم تأسيسه هو فرصة لتبادل الخبرات. ويصرح قائلا: �المطورون في السعودية يقدمون لنا أساليب وابتكارات جديدة، بينما نوفر لهم خبرتنا في العمل وبنى الإنتاج العالمية�. وهذا لا يقتصر على الأفكار، بل يمتد إلى طرق العمل. ففي مشاريع سابقة، مثل لعبة �Silent Hill 2�، تولى فريق �سايد� التحكم الإبداعي في بعض المواجهات داخل اللعبة، بينما قدم الدعم الفني في أجزاء أخرى، وهو النموذج الذي يتطلعون لتطبيقه في السعودية.
منظور عالمي... تنفيذ محلي
لا يقتصر هذا التحوّل في العقلية من الأسواق إلى الأنظمة، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج على السعودية. بل هو اتجاه عالمي تتبناه دول في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا. لكن ما يميز النموذج السعودي هو وضوح الرؤية وسرعة التنفيذ وضخامة الطموح. فالحكومة ورأس المال والتعليم والشركات تعمل كلها بتناغم لتحقيق هدف واحد، وهو أن تكون المملكة مركزاً عالمياً لصناعة الألعاب. ومن مؤشرات هذا الطموح، أن بطولة كأس العالم للألعاب الإلكترونية التي تستضيفها الرياض حتى 24 من شهر أغسطس (آب) الجاري بجائزة إجمالية تصل إلى 70 مليون دولار أميركي، منها 25 مليون دولار مخصصة لتطوير المواهب، بحسب وكالة �رويترز�. وفي بطولة 2025، يجري التنافس في 24 من أهم الألعاب وأكثرها جماهيرية، بمشاركة 2000 لاعب من 100 دولة، وفق ما أعلنته اللجنة المنظمة.
ما بعد اللعبة
يرى مراقبون أن ما يحدث في السعودية يتجاوز الأرقام. إنه يتعلق بإعادة تعريف من يملك القدرة على تشكيل ثقافة الألعاب عالمياً. يتعلق الأمر بالتمكين والوصول والطموح. وتعد نور أن �هذه شراكة تضع المواهب أولاً. من خلال شبكة (سايد) العالمية، سيتمكن المطورون السعوديون من الوصول إلى أدوات إنتاج دولية، وإلى التوجيه وفرص العمل على مشاريع حقيقية ما يساعدهم على بناء مسارات مهنية محلية بجذور عالمية�. ومع تنامي اهتمام الشركات الدولية بالمنطقة، ستنجح فقط تلك التي ترى السعودية كشريك إبداعي، لا مجرد سوق. وفي هذا المستقبل، حيث تتقاطع التقنية بالثقافة، ستكون الموهبة مهما كان منشؤها هي من يقود.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news