رواية “أجواء مباحة”.. رحلة في فلسفة الوجع الإنساني

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 67 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
رواية “أجواء مباحة”.. رحلة في فلسفة الوجع الإنساني

(1)

تنطلق شرارة رواية «أجواء مباحة» لأحمد السلامي من جوٍّ مباحٍ لبلدٍ تُستباح أجواؤه، ومن نتائج هذه الاستباحة تبدأ وقائعها بحادثة سقوط هدية وبناتها في غارة لطائرة درون أمريكية. ما يلي السقوط هو تحرك الشخصية الرئيسية عامر، الأخ المكلوم، في محاولاته اليائسة لتحقيق العدالة، وأيُّ عدالةٍ تلك؟!

العناوين الكبرى للرواية هي: الأجواء المباحة، السيادة المنتهكة، غياب قيام الدولة، تواطؤ القيادات، حقول تجارب للطائرات المسيّرة، تفكك اجتماعي وسياسي، شعور بعبثية الوجود، والنظام الاجتماعي المتسبب في انهيار النظام السياسي، والذي شكّل البذرة التي نمت لتحصد فسادًا سياسيًا في الخلفية.

هذه العناوين ترافق الرواية، ومن خلالها تتخلق الشخصيات؛ فكل شخصية تمثل شريحة أو فئة داخل هذا المجتمع المتداعي: عامر، هدية وبناتها، سهيل أبو سرة، ونجمة، والكوكبي.

عامر ليس مجرد بطل، بل هو صوت المقاومة الأخلاقية، ذاك الذي يحاول جاهدًا فضح الفساد والسعي نحو العدالة من دون أن يملك سلاحًا موازيًا أو مكافئًا. يبدأ رحلته كأخ مصدوم ومتألم من فقدان شقيقته هدية وبناتها الثلاث جراء غارة للطائرات المسيّرة، ليسعى بعد ذلك حثيثًا لتحقيق العدالة لأسرته المقتولة.

هدية وبناتها لسن مجرد شخصيات عابرة، بل هنّ ضحايا غارات الدرونز، صوت الضحية المطلقة، أو بالأصح أصواتنا الداخلية التي تتعرض للاستباحة والنسيان في ظل وحشية الحرب. يُذكّرن بأن ما زرعه النظام الاجتماعي هو ما حُصد بالتتابع على هيئة فساد سياسي.

في عادة الروايات، تُعد الشخصيات الحية المتفاعلة داخل المتن السردي جزءًا من هيكلها، إلا في «أجواء مباحة»؛ فشخصية هدية وبناتها الثلاث لسن مجرد شخصيات منسية جراء تعرضهن لغارات طائرات الدرونز، إنهن يعشن داخل المتن الروائي كرمز لمن أُزهقت أرواحهم وفقدوا حياتهم.

سهيل أبو سرة يمثل صوت العنف المبرر وغير المبرر الذي يتداخل مع مصائر الضحايا، ويُظهر كيف أن العنف يولّد عنفًا آخر في دائرة مفرغة. أما نجمة، أخت عامر، فهي تشكل الرابط العائلي الذي بات واهنًا، والنسيج الاجتماعي الذي أشار السلامي مرارًا إلى أنه لم يتمزق نتيجة استباحة الأجواء، بل هو نتيجة تمزق قديم جرى تحت وطأة الضغوط والخيانات الداخلية. جميل هو صوت الفساد المتغلغل في أجهزة يُفترض بها حماية الوطن، فيما يمثل الكوكبي، كمالك لجريدة، صوت الانتهازية الإعلامية، ذلك الصوت الذي يبيع القضية والمهنية من أجل المصالح الشخصية ويخضع للضغط لتزييف الحقائق.

كشفت تلك الشخصيات أن الواقع اليمني ليس مجرد صراع خارجي، بل هو شبكة معقدة من العلاقات السياسية والقبلية والاقتصادية الفاسدة التي تحاصر الإنسان العادي وتدفعه نحو الهاوية. الرواية لم تنتقد السياسة وهواميرها كما انتقدت النظام الاجتماعي الذي شكّل البذرة للفساد السياسي.

الرواية تطرح أسئلة، والشخصيات تطرح أسئلة. وأين تُطرح تلك الأسئلة؟ في الأجواء المباحة.

حتى الكاتب لا يجيب عن أي سؤال، فقط يكتفي بالعودة إلى الماضي، بالحديث عن العيش في حياة أخرى، في حياة تلخصها تلك العبارة: “لا يزال الإنسان يولد وفي فمه ملعقة من قبيلة وعائلة، ولا تنقذنا سوى حياة أخرى سرية نعيشها في دواخلنا، حيث لا يمكن للزحام أن يتسلل إلينا”.

لا تخدعكم تلك الشخصيات وما تمثله من صوت، فالنظام الاجتماعي في الرواية يحكي قصة أخرى لا تقل ترويعًا عن تلك الأجواء المباحة!

(2)

تأتي رواية «أجواء مباحة» للكاتب والشاعر اليمني أحمد السلامي لتقدم سردًا مختلفًا وعميقًا، لا يعكس ضجيج الحرب اليمنية بقدر ما يشرح عمق الأزمة اليمنية. هذه الرواية، الصادرة عن دار الآداب العريقة، تنطلق من جوٍّ مباحٍ لبلدٍ تُستباح أجواؤه، حيث تتحول سماء اليمن إلى حقول تجارب للطائرات المسيّرة، لتنفجر المآسي بسقوط هدية وبناتها الثلاث بغارة طائرة درون أمريكية. تكون هذه الفاجعة نقطة بداية الرواية، وبالتوازي نقطة تحول وجودية تدفع بعامر، الأخ المفجوع، إلى رحلة مضنية طلبًا للعدالة والحقيقة. خلال هذه الرحلة، تتكشف شبكة معقدة من الشخصيات، كل منها يمثل صوتًا لجهة أو شريحة مجتمعية ما.

ضمن هذا النسيج الروائي الكثيف، تبرز شخصية تحمل في طياتها عمقًا وجوديًا خاصًا، شخصية رغم هامشيتها في الرواية إلا أنها تستحق وقفة مطولة: إنها شخصية الأديب المعتقل، والذي يمثل صوت المناضل المنسي. ففي نسيج رواية السلامي، تبرز شخصية الأديب المعتقل سابقًا كبصمة مؤلمة رغم حضورها الذي أشرتُ إلى هامشيته. هذه الشخصية لا تمثل مجرد فرد قابع على هامش الأحداث، بل هي تجسيد حي ومكثف لشريحة كاملة من المنافحين الصادقين الذين يدفعون ثمن مبادئهم غاليًا في سبيل قضايا شعوبهم وأوطانهم.

صوته خافت ويزداد خفوتًا مع ارتفاع ضخب الحرب. ذلك الصوت، رغم بساطة قدرته على رفع درجته، إلا أنه صوت مَن قدّم نتيجة تضحيات جسيمة، وثمة فرق كبير بين صوتٍ يُقدَّم نتيجة تضحيات وآخر يُقدَّم نتيجة مكاسب.

لقد سُجن، والتهمة إيمانه بالحق وطلبه للعدالة، بل وخوضه غمار النضال الفكري والسياسي والأدبي في بيئة صحراوية إن صح التعبير. يقضي سنوات سجينًا ليخرج إلى عالم لم يكتفِ بعدم تقدير تضحياته، بل تجاهله وتجاهل إسهاماته. يواجه خذلانًا عجز عن وصفه رغم حمله لقلم الأديب.

يُبرز الأديب جانبًا مظلمًا آخر من واقع الاستباحة الذي تتناوله الرواية، ليس فقط استباحة اليمن أرضًا وسماءً، بل استباحة الحق والنضال وقيمة الإنسان ذاته. إنه يمثل صوت المرارة، تلك المرارة التي يشعر بها كل من يقضي سنوات عمره مقاتلًا، منافحًا، محاربًا بفكره وقلمه من أجل قضية عادلة، ليجد نفسه نسيًا منسيًا، محرومًا حتى من الاعتراف به!

في «أجواء مباحة»، لا يبقى الوجود الهامشي للأديب مجرد حيز مكاني أو سردي، بل يتحول إلى مرآة وجودية صافية تعكس خيبة أمل عميقة اجتاحت جيلًا كاملًا من المنافحين والمناضلين. إن تواجده على هامش الأحداث وغيابه عن مركز السرد ليس نقصًا في أهميته، بل هو تجسيد قاسٍ لواقع تُجهَض فيه القضايا العادلة وتُطوى صفحات النضال الشريف. هذا الهامش الوجودي يصبح كناية عن النسيان المتعمد أو القسري الذي يلتهم التضحيات الجسيمة في زحمة الأحداث المتسارعة وتغير الولاءات المتذبذبة.

إن شخصية الأديب، رغم هامشيتها، قد أسهمت في إثراء البعد المجتمعي للرواية، فهي سلطت الضوء على ثمن النضال الحقيقي في مجتمعات تستهلك أبناءها. هذا الصوت، رغم هامشيته، يترك في وعيك كقارئ سؤالًا مؤرقًا حول مصير القضايا الكبرى وقيمة التضحيات في زمن تتلاشى فيه المبادئ وتُباح فيه كل الأجواء.

ويستمر الكاتب ذاته، عبر شخصياته الأخرى، في طرح الأسئلة. لا يحمل إجابات جاهزة، ولا يدع مجالًا لأحداثه وشخوصه أن تطرح إجابات. فقط ينحو نحو رؤى فلسفية في محاولة لتقديم إجابات عن كومة من الأسئلة في أسطر قليلة: “نحن نموت في هذه البلاد كما لو أننا حشرات، وقبل أن تغادرنا أرواحنا تنسلخ عنا الأحلام وتموت الأسئلة من تعب التكرار، لأننا ننتمي إلى البلاد ولا تنتمي إلينا، تمنحنا الألقاب وتغرس فينا الحنين إليها والشعور بوجعها، ثم تستسلم للقوادين”.

(3)

أسئلة بلا إجابات

رواية «أجواء مباحة» لأحمد السلامي تجاوزت مجرد رواية للحرب لتكون دراسة عميقة لتحولات النفس البشرية في مواجهة الفقد والعنف واليأس. إنها دعوة للتأمل في مفهوم الوطن والانتماء وقيمة الإنسان في عالم أصبحت فيه سماء اليمن حقول تجارب وأرواح أبنائه مباحة.

الرواية طرحت أسئلة عميقة، والشخصيات ذاتها طرحت أسئلة أكثر عمقًا. ولكن أين طُرحت هذه الأسئلة؟ في تلك الأجواء المباحة التي لم تقدم إجابات واضحة. الكاتب نفسه لا يجيب عن أي سؤال بشكل مباشر، بل يكتفي بالعودة إلى الماضي، وبناء عالم داخلي حصين ينأى به عن فوضى الخارج وفساده.

إن «أجواء مباحة»، التي تلخص قصة بلد دمرته الطائرات والخيانات الداخلية، لا ترفع من مستوى الرواية اليمنية فحسب، بل تقدم إضافة قيمة للأدب العربي. إنها شهادة أدبية عميقة على قدرة الإنسان على الصمود في مواجهة الأزمات.

إن «أجواء مباحة» ليست مجرد رواية بالمعنى التقليدي، فرغم التزام كاتبها بالشكل والمضمون الروائي وفق مصطلحات أوروبا الحديثة للرواية، إلا أنه نجح في تحويل هذا القالب الأدبي إلى دراسة سوسيولوجية ونفسية عميقة لمجتمعنا اليمني، في فتح جديد لم تصل إليه الرواية اليمنية.

لعل أحمد السلامي بتلك الرواية قد وصل إلى بر الأمان، ولكن هل البر حقًا آمن؟

إنني أطرح الأسئلة، كما فعلت روايته التي طرحت الأسئلة، من دون أن أصل إلى إجابة مقنعة. ومن يمكنه أن يحصل على إجابة في هذه البلاد الغارقة في الحرب والدمار؟


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

ارتفاع في سعر صرف العملات الأجنبية في عدن... واستقرار في صنعاء

اليمن السعيد | 895 قراءة 

الان اسعار الصرف في اليمن مباشر - الجمعه 08-08-2025 عبر الكريمي والنجم في صنعاء وعدن

نيوز لاين | 576 قراءة 

طارق صالح يكشف تفاصيل خطيرة لنشر الفوضى في هذا المكان

كريتر سكاي | 484 قراءة 

الريال اليمني ينتصر ...تعرف على اسعار الصرف اليوم الجمعة

يني يمن | 444 قراءة 

صدمة في سوق العمل السعودي.. إيقاف مهنة يعتمد عليها المغتربون منذ سنوات

المرصد برس | 437 قراءة 

طارق صالح يكشف تفاصيل خطيرة عن المخطط الإيراني لزعزعة أمن اليمن والمنطقة

تهامة 24 | 411 قراءة 

للمغتربين اليمنيين .. تعديلات سعوديه على نظام الإقامة والتجديد والرسوم !

عناوين بوست | 406 قراءة 

تفاصيل لقاء محافظ البنك المركزي مع جمعية الصرافين ..أبرز نقاط الاتفاق

مأرب برس | 364 قراءة 

أسعار صرف الريال اليمني مقابل السعودي والدولار في صنعاء وعدن ومأرب اليوم الجمعة 8 أغسطس 2025م

بران برس | 346 قراءة 

الخرطوم تعلن مقتل 40 مرتزقاً كولومبياً بتحطم طائرة إماراتية.. وأبوظبي ترد

مندب برس | 285 قراءة