سعيد عبده.. معلم ومدرب تربوي من أبناء لحج يلجأ للعمل بالمطرقة بدلًا عن الطبشور (قصة صحفية)
أعد القصة لـ"بران برس" - أنسام عبدالله:
لم يكن الأستاذ سعيد، يتوقع يومًا أن يترك مهنته المقدّسة في التدريس ليلجأ إلى مهنة البناء كخيار إجباري لإعالة أسرته التي تقاسي أوضاعًا معيشية صعبة جراء تداعيات الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد.
بات المعلمون وأساتذة الجامعات من أكثر فئات المجتمع اليمني ضعفًا وهشاشة بعد أن كانوا أفضل حالًا، ويتمتعون بمكانة مرموقة قبيل اندلاع الحرب.
تسرد هذه القصة الصحفية، حكاية واحد من أبرز المعلمين في مديرية الملاح بمحافظة لحج، جنوبي اليمن، والذي تحوّلت ظروفه من قاعة الدرس إلى مهنة البناء العمراني.
تخرج الأستاذ سعيد عبده سعيد، من كلية التربية بردفان في عام 2007، ليحصل على شهادة البكالوريوس قسم اللغة العربية. كان سعيد، من المحظوظين الذين حصلوا على فرصة التوظيف في العام 2011، وكان ذلك آخر عهد المعلمين بالتوظيف.
من حينها، عمل سعيد، معلمًا في مدارس مديرية الملاح، حتى حصل على ترقية إلى منصب وكيل ثانوية عمر بن عبد العزيز، بفضل كفاءته المشهودة، والتزامه وتفانيه في العمل.
كان حريصًا على تطوير مهاراته، حيث سعى للحصول على شهادة TOT (تدريب المدربين)، وشارك في عدة برامج تعليمية أبرزها برنامج نهج القراءة المبكرة، وبرنامج بناء السلام، وبرنامج الدعم النفسي، بالإضافة إلى برامج أخرى في الفترة 2014- 2025، وهو ما يعكس التزامه بالتطور المهني، ودوره الريادي في المجتمع.
نموذج ملهم
في حديثها لـ“بران برس” تعليقًا على القصّة، وصفت الدكتورة لميس السروري، المدرب الوطني والموجه المركزي بتربية لحج، الأستاذ سعيد بأنه “أحد النماذج التربوية الملهمة” في ظل التحديات التربوية والاقتصادية المتراكمة.
وقالت إنه “جمع بين التأهيل العلمي والالتزام المهني، وبين العطاء الهادئ والبصمة الواضحة”. وأضافت: عرفت الأستاذ سعيد أثناء إشرافي عليهم في دورة نهج القراءة المبكرة، أدركت أنه وزملائه يمثلون ركيزة أساسية في تطوير الأداء التعليمي والتربوي في مديريتهم رغم الظروف القهرية الواضحة.
الدكتورة لميس السروي: لم يتوقف طموح سعيد عند حدود شهادته الأكاديمية، بل استمر في الدورات التعليمية والتطويرية، وعمل بروح مخلصة ورؤية ناضجة.
وتابعت: "رغم كل هذا العطاء، إلا أن الواقع المادي والمعيشي أجبره كغيره من الكفاءات التي تعمل في ظل هذه الظروف. ورغم أنه لم ينَل من الامتيازات ما يوازي عطاؤه، إل أنه بقي ثابتاً، مؤمناً برسالته، متمسكاً بمبادئه، ومواصلاً مسيرته في صمت الكبار، وثابر لإيجاد مصدر رزق آخر لتوفير الأساسيات ولقمة العيش له ولأسرته".
وعبّرت عن تقديرها له “لأنه قدّم الكثير بصمت، في وقت لم يكن العطاء فيه سهلاً. واستثمر في نفسه وطوّر أدواته ليكون نافعًا لنفسه ولغيره. ولأنه آمن أن بناء العقول هو حجر الأساس لبناء المجتمعات فكان قدوةٌ عملية ومثالٌ نفخر به. الشكر والتقدير للأستاذ سعيد، ولكل معلمي الوطن الذين يستحقون أن تُرفع لهم القبعات احترامًا وإجلالًا”.
وضع غير مقبول
الأستاذ محمد ناشر، رئيس قسم التدريب والتأهيل بتربية الملاح، قال لـ“بران برس”، إن أوضاع المعلمين تعقدت مثلهم مثل بقية زملاء المهنة.. كانوا يتقاضون رواتب يتراوح بين 1400- 1600 ريال سعودي قبل عام 2015، ليصبح راتب المعلم اليوم 100 ريال سعودي شهريًا في أحسن الأحوال، والرواتب تأتي غير منتظمة.
في تعليقه على قصّة الأستاذ سعيد، قال ناشر، إن أبناء مديرية الملاح معروفون بالعمل في المجال التربوي وفي الأمن والجيش وقليل منهم يمتهنون الزراعة.. لكن ما يحز في النفس هو الوضع الذي وصله إليه المعلم.
وأضاف: رأينا الصورة الأليمة التي تظهر الأستاذ القدير سعيد، وهو يكابد العمل الخاص الذي لجأ إليه مرغماً، وهناك الكثير من المعلمين رغم كبر أعمارهم الا أنهم التحقوا بالجيش، والبعض بأعمال التبليط والسباكة وبيع المواشي وغيرها، وآخرون يصارعون الأمراض واستسلموا لأقدارهم الأليمة.
ووصف هذا الوضع الذي بات يعيشه المعلم بأنه “غير مقبول”، معتبرًا “الوضع الاقتصادي أبرز الأسباب”. لافتًا إلى سوء الظروف الاقتصادية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية ”بشكل مهول”، وقال إن راتب المعلم بات “لا يكفي لتلبية التزاماته تجاه أسرته”.
ونتيجة لهذا، قال إن الأستاذ سعيد، اضطر إلى “العمل كعامل بناء خلف عدد من المقاولين في نطاق المديرية وإن كان بشكل متقطع بسبب حالة الركود العام، فحتى العمل اليدوي ليس متاح على الدوام”.
حراك حقوقي
إلى جانب زملائه المعلمين في المحافظات التي تقع تحت سيطرة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، يطالب الأستاذ سعيد، بحقوقه عن طريق المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والإضرابات المتوالية خلال السنوات الأخيرة.
وشهدت محافظات عدن ولحج وتعز وأبين غيرها من المناطق المحررة حراكًا واسعًا لآلاف المعلمين الذين خرجوا في أوقات متفرقة خلال السنوات الثلاث الأخيرة لمطالبة الحكومة بحقوقهم، وتحسين أوضاعهم المعيشية.
وتمثّلت المطالب في هيكلة أجور الموظفين بما يتناسب مع المتغيرات الاقتصادية المتسارعة لاسيما الغلاء. وإطلاق العلاوات والتسويات السنوية للموظفين والمحبوبة من الحكومة منذ ما يقارب 10 أعوام متتالية. بالإضافة إلى اعتماد الوظائف الحكومية وبشكل منتظم بعد أن توقفت منذ عشر سنين أيضًا. وكذا الدفع بمساعدات مجتمعية عاجلة للمعلمين كحوافز شهرية لفك الإضراب وعودة الطلاب إلى المدارس.
من جانبها، الأستاذة حياة الرحيبي، مديرة فرع حقوق الإنسان بمحافظة لحج، قالت إن الراتب لم يعد يكفي الموظف، وأولهم الأستاذ سعيد، الذي قالت إنه “تحول من تربوي إلى عامل بناء محاولًا التغلب على ظروف الحياه، وإنقاذ أسرته من الهلاك جوعًا.
وأضافت لـ“بران برس”، أنه “حاول مرارًا لكن لم يجد حلًا سوى أن يتحول إلى عامل بناء بسيط لأجل توفير احتياجات أسرته، ولم يمد يده لأحد بل عمل بشرف".
حياة الرحيبي، مديرة فرع حقوق الإنسان بمحافظة لحج: حاول مرارًا لكن لم يجد حلًا سوى أن يتحول إلى عامل بناء بسيط لأجل توفير احتياجات أسرته، ولم يمد يده لأحد بل عمل بشرف
وعن مطالب المعلمين، قالت الرحيبي، إنها “مطالب قانونية طالما كانت تسعى لتحسين مستوى دخل الفرد، فالمعلم يحمل رسالة سامية للأجيال، بل هو صانع الأجيال على مر العصور، لذا يستحق رفع دخله وتحسين حياته“.
وعبّرت عن تضامنها مع المعلمين قائلة: إننا كحقوقيين نشد على يد المعلم، ونقف إلى جانبه وجانب كل موظف شريف عمل بنزاهة في الميدان ويسعى للمطالبة بحقوقه بالطرق القانونية”.
مرحلة كارثية
رئيس نقابة المعلمين والتربويين بمحافظة لحج، الأستاذ لطف البان، تحدث لـ“بران برس”، عن الوضع العام الذي وصفه بـ“السيئ والكارثي”، والذي أصبح فيه الراتب “لا يغطي أبسط الضروريات للمعلم”.
ونتيجة لهذا الوضع، قال البان: “اتجه بعض المعلمين للعمل خارج نطاق التعليم حتى يحسنوا من معيشتهم ويطعموا أسرهم”. ومن هؤلاء الأستاذ سعيد، الذي قال إنه “من المعلمين المؤهلين الذي يؤدي عمله بكل جدارة وبكل ما تعنيه الكلمة”.
رئيس نقابة المعلمين والتربويين بمحافظة لحج، لطف البان: نقولها صراحة نحن أمام مرحلة كارثية بكل ما تعنيه الكلمة. لا راتب يغطي الحياة اليومية، ناهيك عن انعدام كلي للخدمات من كهرباء وماء
وتابع: إذا لم تقوم الحكومة بمعالجات آنية للمعلمين برفع رواتبهم وتحسين معيشتهم فإن الكثير منهم سيذهب إلى الأعمال الأخرى ليطعموا أطفالهم، وهنا ستبرز الكارثة الأخرى.. ستصبح المدارس خالية من المعلمين، وستصبح العملية التعليمية مشلولة”.
وشدد على ضرورة أن تقوم الحكومة “بواجبها باعتماد رواتب تتناسب والوضع المعيشي الحالي”، داعيًا المنظمات الدولية لأن “توجه دعمها باعتماد حوافز شهرية للمعلمين”.
صور معاناة مستمرة
الأستاذة إيناس أحمد، معلمة لغة عربية بإحدى مدارس مديرية تبن، عبرت عن تضامنها الكامل مع الأستاذ سعيد، مبدية أسفها لما وصل إليه حال غالبية المعلمين”.
واستعرضت أوضاع المعلمين الذين قالت إن بعضهم التحق بمهنة البيع في الشارع، والبعض يعمل حمالًا بالأجر اليومي، ومنهم من اضطر إلى تجميع العبوات البلاستيكية الفارغة لسد رمق أطفاله بعد أن أصبح الراتب صعب المنال إذ يتأخر لأكثر من شهرين، ناهيك ضآلة قيمته.
ولفتت إلى بعض المعلمين الذين ذهبوا إلى جبهات القتال بحثًا عن دخل مناسب في ظل الغلاء، معتبرة هذا الخيار مغامرة قد تودي بحياة المعلم في أي لحظة ليترك أطفاله وطلابه أيتامًا.
معاناة مستمرة
المعاناة اليومية التي يتكبّدها الأستاذ سعيد مستعيضًا بالمطرقة والإزميل عن السبورة والطبشور، تمثّل نموذجًا للوضع الذي يعيشه آلاف المعلمين في اليمن، منذ توقف مرتباتهم أواخر العام 2016، إثر سيطرة جماعة الحوثي المصنفة عالميًا بقوائم الإرهاب على العاصمة صنعاء.
كان "سعيد"، معلمًا يشار إليه بالبنان، ومدربًا تزخر قاعات التدريب بخبراته ومهاراته على طريق تطوير العملية التعليمية للطلاب بأحدث الطرق والأساليب، واليوم هو في مهنة قاسية لجأ لها اضطرارًا لإنقاذ نفسه وأسرته.
وكانت نقابة المعلمين اليمنيين، قد طالبت الحكومة اليمنية بضرورة صرف رواتب المعلمين في كافة محافظات الجمهورية اليمنية وفقاً لكشوفات التوظيف للعام 2014، وبشكل عاجل؛ لضمان استمرار العملية التعليمية، مشددة على ضرورة رفع مرتباتهم بما يتناسب مع الوضع المعيشي في البلد.
كما طالبت بإطلاق رواتب المعلمين والتربويين النازحين وإطلاق العلاوات والزيادات المقرة من قبل الحكومة، وكذا تقديم الرعاية لعائلات المعلمين الذين قضوا في الحرب، وتقديم الرعاية الصحية اللازمة للجرحى منهم.
وشملت مطالب النقابة، في تقريرها الصادر في مايو/آذار 2022، العمل على إطلاق المعلمين المعتقلين والمخفين قسراً، وتعويضهم عن الأضرار التي لحقت بهم وإعادة تأهيلهم، ومحاسبة المنتهكين وفقاً للقانون.
المعلمين اليمنيين
رواتب الموظفين
لحج
معاناة الموظفين
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news