في ذكرى رحيلها الرابعة .. لميعة عباس عمارة .. شاعرة الحنين إلى المكان
قبل 8 دقيقة
عندما أقمت في صنعاء بعيد عام 1991م، جاءني صوتها مجلجلًا عبر أسلاك الهاتف من بعيد لتهتف: "من أوصلك إلى هذا المكان حيث التاريخ والعروبة يمتزجان؟".
يبدو أنها عرفت رقم هاتفي الثابت قبل أن يصل الخليوي من قريبها الشاعر والصديق الأستاذ عبد الرزاق عبد الواحد، والذي يبدو أنه قد بذل جهدًا مع سفير العراق في صنعاء لحل مشكلة واجهت ولدها البكر مازن، الكابتن الطيار، والذي كان يعمل في الخطوط الجوية اليمنية بسبب ظروف الحصار على العراق آنذاك. لكنه لم يفلح، فقالت لي ممازحة باللهجة العراقية: "يا معود السفراء ما يحلون مشكلة لاحد، فأنت يا دليمي لها!!" والحمد لله وفقت خلال أيام بحل مشكلة الكابتن مازن.
كانت الشاعرة الكبيرة تواجه بعض صعوبات الحياة في الاغتراب، فكتبت يومًا رسالة بذلك تطلب بها مقابلة رئيس الجمهورية الرئيس الراحل صدام حسين رحمه الله، وأوصلتها لها بسرعة والتقته. وعندما خرجت قلت لها: "بشري خير"، قالت: "يا عمي بدأت استعرض مشكلاتي وظروفي ابتداءً من الراتب التقاعدي وكتبي ودواويني التي تطبع من غير أن أحصل على نفع مادي منها إلى مشكلات الغربة وإلى...". فرد عليها الرئيس: "يا أستاذة لميعة توقفي، أنت تحتاجين (نتلة)"، وباللهجة العراقية تعني انتشال سريع من الواقع المعاش. وفعلًا كرمها بتعيينها نائب المستشار الثقافي العراقي في باريس ومنحها شقة في بغداد وعون مالي.
كانت لميعة تعطر أمسياتها الشعرية أحيانًا بأبيات من الشعر الشعبي المحبب للعراقيين. وفي إحدى الأمسيات ذكرت بأن حظها لم يسعدها يومًا في تولي منصب الإدارة، حيث إنها مرة بغياب مديرة الثانوية عينت مديرة لها وكالة، ثم في الجامعة التكنولوجية رئيسة قسم اللغة العربية وكالة، وفي باريس مستشار ثقافي وكالة.. فكتبت أبوذية: "أريد أخذ على وكتي وكالة وأضربنه ألف كفخة وكالة قضيت من العمر نصها وكالة.... الإدارة أصبحت حسرة عليه". طبعًا مفردة "كالة" باللهجة العراقية تعني حذاء رياضي خفيف مصنوع من قماش.
ومثل هذا أنشدت يومًا في قاعة الأورفلي ببغداد: "نذرك يا سيد دخيل نوط أبو المية، من افز والقا اهواي غافي على أيديه!!" والنوط هو حزام من ليرات من ذهب، وسيد دخيل هذا مقام ديني في جنوب العراق ينذرن له النساء الريفيات النذور عندما يتزوجن بمن يحببن.
لميعة عمارة الشاعرة التي ارتبطت بحنين قوي يشدها إلى الأماكن التي قطنتها أو زارتها وأحببتها. فمثلًا عندما كرمها لبنان الذي أقامت فيه سنوات جميلة بوسام الأرز، فاعتذرت عنه بسبب المعاناة القاسية لشعبه من تداعيات الحرب الأهلية، وأنشدت: "على أي صدر أحط الوسام ولبنان جرح بقلبي ينام..".
كما أن من يدقق في ديوانها الأخير "أنا بدوي دمي" يجد أن للكويت حصة في هذا الحنين من شعرها: "لي في الكويت أحباء وما برحت، وشائج الود تدنيهم وتدنيني، ما مر في سحر ذكر لواحدهم، إلا وندت من الأعماق (يا عيني)". كما أن العراق وطنها وعشقها الأزلي لم يغب يومًا عن فؤادها حيثما ارتحلت: "بلادي ويملؤني الزهو أني لها انتمي وبها أتباهى...
لأن العراقة معنى العراق، ويعني التبغدد عزًا وجاهًا. قال عنها الشاعر العراقي الكبير والراحل عبد الرزاق عبد الواحد: "لميعة ابنة خالي، وأنا ابن عمتها، لميعة أشعر مني وأنا أجزل منها... كانت ذات شخصية قوية وابية!".
ومن الطف الوصف لها وصف الشاعر السوري الكبير شوقي بغدادي: "إذا كان نزار قباني شاعر النساء فلميعة شاعرة الرجال". أليس هي من قالت تتغزل بالوسامة: "أريد أنشدك وبحسن نية، محلفك بالله ترد ربك من صورك كم يوم طيفك نقعه بماء الورد!!!".
كان الشاعر الكبير الراحل نزار قباني كلما التقى بلميعة يمازحها: "لميعة لا تتعبي نفسك في كتابة الشعر، وما عليك إلا أن تروي حكايتك مع السياب وترسمي بغداد في الخمسينيات". ومعلوم أن الشاعرة لميعة ارتبطت بالشاعر بدر شاكر السياب بعلاقة عاطفية خلال دراستهما معًا في دار المعلمين العالية ببغداد.
وقد دعاها السياب لزيارته في قريته جيكور الغافية على نهر بويب في قضاء أبو الخصيب التابع إلى البصرة. وقد استذكرت لميعة عن هذه الزيارة النادرة بقصيدة فاض منها الحنين بعد وفاة السياب بسنوات بعنوان "تحياتي إلى البصرة" مطلعها: "خذي من نشوتي خمرة ومن عهد الصبا شطره ومن حبي ومن مرحي ورشي الليل بالخضرة ليزهر الف جيكور يناغي بالهوى بدره!!".
وهنا لأول مرة تسميه باسمه، مثلما تذكر جيكور قرية السياب في قضاء أبي الخصيب من نواحي مدينة البصرة التي زارتها يومًا واستقلت بصحبته قاربًا يحرك مجاديفه بدرًا نفسه على صفحات نهر بويب.
ويلاحظ القارئ في ديوانها الأخير الذي أصدرته من آخر محطات الاغتراب في سان دييغو المدينة الوادعة على ضفة المحيط الهادئ في أمريكا، وقد زرتها يومًا فيها حينما كنت طالبًا في مرحلة الدكتوراه في جامعة بنسلفانيا. وتقول شوقًا وحنينًا للعراق القصي، وكأنها زفرة الشاعرة الأخيرة: "يشوقني في ساندييغوا لك المطر الخفيف، ويسقط كل أوراقي الخريف، مجنحة خطاي، الريح دربي، ووجهك قبلتي، أنى أطوف".
"أنا بدوي دمي" ديوانها الأخير تؤكد فيه انتماءها إلى أصلها العربي، وهي من نقلت الشعر العربي من حال إلى حال.
سلامًا على روحك الخالدة المعفرة بماء دجلة والعمارة وتراب النهرين والجسر والمنحنى. لروحك المغفرة أيتها الصديقة العظيمة والإنسانة الكبيرة والشاعرة التي لا يشق لها غبار، غبت جسدًا وخلدت روحًا وذكرًا لا ينقطع. وهذا المقال ليس إلا لمسة وفاء، ألم يقل الشاعر العربي: "إن بعض من الوفاء ثناء".
*كاتب وأكاديمي من العراق
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news