في يوليو 1988، وأمام آفاق قاتمة في حربه مع العراق المدعوم من الولايات المتحدة، قرر آية الله روح الله الخميني، مؤسس الجمهورية الإسلامية، على مضض، قبول وقف إطلاق النار وإنهاء النزاع، وقال للإيرانيين: "إنه كمن يشرب من كأس السم"، لكن بقاء الجمهورية الإسلامية الفتية كان يتطلب تجرّعه.
يواجه خليفته كمرشد أعلى، آية الله علي خامنئي، قراراً مشابهاً الآن، لكن ليس من الواضح إطلاقاً أنه سيتخذ القرار نفسه، بعد أن قاد البلاد منذ عام 1989 وأعاد بناءها كقوة إقليمية وذات طموحات نووية.
ففي سن السادسة والثمانين، ومع انهيار الكثير من منجزات حياته من حوله، قد يفضل الشهادة على الاستسلام الذي يطالب به الرئيس ترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وجاء الرد الإيراني الأول متحدياً، إذ قالت وزارة الخارجية الإيرانية في بيان: "الجمهورية الإسلامية الإيرانية مصممة على الدفاع عن أراضيها وسيادتها وأمنها وشعبها بكل الوسائل والقوة في وجه العدوان الإجرامي الأمريكي."
وقد أطلقت إيران بالفعل وابلًا من الصواريخ على إسرائيل، وقد تنفذ، كما حذرت سابقًا، هجمات على بعض من 40 ألف جندي أمريكي منتشرين في المنطقة.
لكن العامل الحاسم سيكون ما إذا كان الرد الإيراني سيستمر لفترة طويلة. فإذا فعلت إيران ما يكفي لإقناع شعبها بأنها لم تستسلم، فقد يقرر آية الله خامنئي الدخول في محادثات مع الولايات المتحدة حول تسوية النزاع.
ففي يناير 2020، عندما أمر ترامب باغتيال شخصية إيرانية بارزة، اللواء قاسم سليماني، في ضربة بطائرة مسيّرة في العراق، ردّت إيران بموجة من الهجمات الصاروخية على القوات الأمريكية هناك، ثم توقفت، خشية اندلاع حرب أوسع قد تهدد النظام.
وتقول سانام فاكيل، مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد تشاتهام هاوس بلندن، إن لدى إيران مجموعة من الردود التي تُظهر المقاومة مع الحفاظ على ضبط النفس. فقد يوافق آية الله خامنئي على الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذين يراقبون منشآت إيران النووية، وقد يستهدف القواعد الأمريكية التي تم إخلاؤها إلى حد كبير في المنطقة، ويُفعّل الحوثيين في اليمن لاستئناف هجماتهم على السفن الأمريكية في البحر الأحمر.
وقالت فاكيل: "سيكون هذا مزيجًا حذرًا من الخيارات يُظهر أن إيران لديها القدرة والجرأة على مواجهة ترامب، لكنها ما زالت تحاول تجنّب تصعيد إقليمي شامل."
وأضافت: "إذا تجنّب خامنئي ضرب القوات الأمريكية، فإن ذلك سيمهّد الطريق أمام الدبلوماسية، وسيوصل لترامب رسالة مفادها أن نية إيران هي خفض التصعيد."
وأشارت إلى أن ترامب، من جانبه، وعبر تحذير إيران مسبقًا من الضربات، وقصرها على ثلاثة مواقع نووية رئيسية حتى الآن، قد أبدى هو الآخر نوعًا من ضبط النفس، إذ لم تستهدف الهجمات الأمريكية مواقع سياسية أو قواعد عسكرية.
لكن خامنئي بالكاد يثق بترامب، خاصة بعد انسحابه الأحادي من الاتفاق النووي لعام 2015، الذي أبرمته إيران مع إدارة أوباما وحكومات أخرى في عام 2018.
وحتى وإن تم التوصل الآن إلى اتفاق جديد، تساءلت فاكيل: "هل يمكنه الوثوق بترامب في تنفيذ رفع العقوبات، وضمان التزام إسرائيل؟"
ويمكن لإيران أن تفعل أكثر من ذلك بكثير. فقد تحاول إغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة، وهي خطوة قد تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط من خلال منع ناقلات النفط من الدخول أو الخروج من الخليج. وقد تهاجم البنية التحتية للطاقة في دول الخليج، كما فعلت في عام 2019، وتمتلك إيران برنامجًا متطورًا في الحرب السيبرانية يمكنها تفعيله، كما يمكنها التعاون مع تنظيم القاعدة لضرب المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المنطقة وخارجها، من قواعد عسكرية إلى سفارات.
وتقول إيلي جيرانمايه، خبيرة الشأن الإيراني في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وهو مؤسسة بحثية: "ستفعل إيران المزيد، وبشكل عدواني." وأضافت: "كانت إيران تعلم أن هذا قادم، وقد أعدّت سلسلة من الردود"، مشيرة إلى تصعيد فوري للهجمات على إسرائيل.
لكنها أضافت أن جهود ترامب لرسم خط أحمر الآن ستفشل. وقالت جيرانمايه: "الهجمات على الولايات المتحدة باتت الآن حتمية، وستكون سريعة ومتعددة الأوجه.. إيران تعلم أنها لا تستطيع الفوز في هذه الحرب — لكنها تريد التأكد من أن الولايات المتحدة وإسرائيل ستخسران أيضاً."
وسيعتمد الكثير على تقييم حجم الأضرار التي لحقت بإيران، وهو أمر لا يزال غير واضح حتى الآن. كما أنه من غير المعروف مكان وجود مخزون إيران الكبير من اليورانيوم عالي التخصيب، والذي تقول القوات الأمريكية إنه يكفي لصنع ما يصل إلى 10 رؤوس نووية مع قليل من التخصيب الإضافي. ويفترض العديد من المحللين أن إيران قد قامت بتوزيع هذا المخزون في أماكن لا يستطيع مفتشو الوكالة الدولية للطاقة الذرية الوصول إليها.
وقالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، يوم الأحد، إنه لا توجد مؤشرات على تسرب إشعاعي، وهو ما كان سيحدث لو تم استهداف تلك المخزونات من اليورانيوم، بحسب ما أوضح الدكتور "ولي نصر"، أستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز، ومؤلف كتاب "الاستراتيجية الكبرى لإيران: تاريخ سياسي".
وأضاف أن هذا أحد الأسباب التي تجعل من الضروري أن تبذل الولايات المتحدة وأوروبا كل ما بوسعهما لإبقاء إيران ضمن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وتحت رقابة الوكالة الدولية، حتى لا يفقد العالم "عينه وأذنه" على البرنامج النووي الإيراني.
وبحسب نصر، فإن الصراع لم ينتهِ، بل بدأ لتوّه، وقال: "إيران ستبقى حية لتقاتل مرة أخرى". وأضاف: "لا توجد حركة واحدة كبرى يمكن أن تغيّر كل شيء بعدها".
وأشار إلى أن الدرس الأكبر الذي ستستخلصه إيران من ذلك هو أنها بحاجة إلى ردع حقيقي، و"القنبلة هي الردع الوحيد الفعّال".
وأوضح أن الصواريخ الإيرانية ووكلاءها في المنطقة لم يتمكنوا من حمايتها، وأنه حتى لو مات المرشد الأعلى علي خامنئي، فقد تبيّن أن البلاد عرضة للخطر، ولهذا فإن امتلاك سلاح نووي قد يصبح الرد الأقرب منطقاً.
وتتفق معه إيلي جيرانمايه، إذ قالت: "هذه هي المفارقة الكبرى.. فبينما كان ترامب يسعى للقضاء على التهديد النووي الإيراني، جعل من المرجّح أكثر أن تصبح إيران دولة نووية".
وأضافت أن هذا قد يعني مستقبلاً من الحملات الجوية المستمرة والضربات الإيرانية المضادة.
ومع ذلك، تعتقد جيرانمايه أن الدبلوماسية تظل الطريق الأفضل لجميع الأطراف، وقالت: "بعد أسبوع من العنف في المنطقة، قد تكون هناك نافذة ليتعقّل كل من طهران وواشنطن".
لكن ماثيو كرونيج من المجلس الأطلسي، وهو مركز أبحاث، يشكك في ذلك.
وقال في رسالة عبر البريد الإلكتروني إن حجم الأضرار التي لحقت بالبرنامج النووي الإيراني، والذي أنفقت عليه إيران مليارات الدولارات واستغرق عقوداً، قد يدفعها إلى عدم إعادة بنائه.
وأضاف: "لقد دعت إلى العقوبات وخاضت حرباً مدمّرة مع أقوى دولة في العالم، فلماذا تكرر ذلك السيناريو؟"
واختتم بالقول: "إذا أعادت إيران بناء برنامجها، فبإمكان الولايات المتحدة ضربه مرة أخرى".
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news