تقرير خاص – يمن ديلي نيوز:
منذ العام 2020، ظلت ورقة “انهيار الريال اليمني” أمام العملات الأجنبية إحدى أبرز الأسلحة التي استخدمها صناع القرار في مناطق الحكومة اليمنية لإقالة غير المرغوب في بقائهم في مناصبهم.
آخر أولئك المسؤولين الذين غادروا مناصبهم بسبب تراجع الريال، رئيس الحكومة السابق “أحمد عوض بن مبارك”، بعد حملات إعلامية واسعة أُلصِقت به التراجع المستمر في سعر الصرف.
قبله كان “معين عبدالملك”، رئيس الحكومة اليمنية الأسبق، والذي أُقيل من منصبه للسبب ذاته الذي غادر بسببه “بن مبارك”، بعد أن ألصق به الفشل في إدارة الملف الاقتصادي.
فضلًا عن ذلك، كانت ورقة تراجع الريال أحد أبرز الأسلحة التي مهدت لإخراج الرئيس المنتخب “عبدربه منصور هادي” ونائبه “علي محسن صالح” من المشهد، ونقل السلطة إلى مجلس القيادة الرئاسي برئاسة الدكتور “رشاد العليمي”.
وغير “هادي ومحسن”، كانت ورقة تراجع الريال إحدى الوسائل التي استُخدمت لإقالة مسؤولين في الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، وكانت الدعاية تقول حينها إنهم غير مرغوب فيهم من قبل تحالف دعم الشرعية، وبخروجهم من المشهد سيعود الريال لسابق عهده.
وفعلًا، كان الريال يحقق تحسنًا أو استقرارًا نسبيًا عقب كل عملية تغيير أو إقصاء من المشهد، لكنه سرعان ما يعود للتراجع بأسوأ مما كان عليه قبل التغيير، وهو ما شهدناه مؤخرًا من عودة الريال اليمني للتراجع مجددًا بعد أقل من شهر على استقراره النسبي منذ تعيين “سالم بن بريك” رئيسًا للحكومة خلفًا لـ”بن مبارك”.
من ضمن من أُقصوا من المشهد تحت وعود بتحسن الريال اليمني أمام العملات الأجنبية، وزير الدفاع السابق محمد علي المقدشي، ومحافظا شبوة والجوف “محمد صالح بن عديو” و”أمين العكيمي”، وكذلك محافظ البنك المركزي السابق “أحمد عبدالله الفضلي”.
كل أولئك كانت لأسعار صرف الريال علاقة مباشرة أو غير مباشرة بإقصائهم، إما بتهمة الفشل من جهة، أو لأنهم غير مرغوب فيهم من تحالف دعم الشرعية
ورغم هذه العمليات الجراحية ليتعافى الريال، إلا أن الريال لم يظهر تماثلًا للشفاء، أو يبْدِ أملًا في أنه سيستقر عند وضعه الحالي، حيث سجل الريال، اليوم الخميس، مزيدًا من التراجع أمام الدولار في عدن، والذي بلغ سعر بيعه 2723، والريال السعودي 715.
وأمام هذا التراجع الذي لم تُجدِ معه سياسة الإقصاء من المشهد، يتساءل الشارع اليمني في مناطق الحكومة عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء استمرار تدهور الريال اليمني، وأين تكمن جذور الأزمة إذا لم يكن تغيير القيادة كافيًا؟
في هذا السياق، يستعرض “يمن ديلي نيوز” آراء عدد من المختصين الاقتصاديين الذين يسلّطون الضوء على خلفيات الأزمة، وأين يكمن الخلل، وما هو المطلوب لتجاوز هذه الأزمة الجاثمة على صدور اليمنيين.
عجز الحكومات
البداية مع أستاذ الاقتصاد بجامعة تعز، الدكتور “محمد قحطان”، الذي قال إن استمرار تدهور سعر صرف الريال اليمني أمام العملات الأجنبية يعود إلى غياب التشخيص الحقيقي من قبل الحكومة، سواء السابقة أو الحالية، لأسباب الانهيار، أو عجزها الواضح عن مواجهة تلك الأسباب رغم إدراكها لها.
وأوضح في تصريح لـ “يمن ديلي نيوز” أن الحكومة الحالية، كسابقتها، لم تُبدِ أي مؤشرات على أنها قد شخصت أسباب التدهور لتُقدم على اتخاذ إجراءات جادة لمعالجة الأزمة النقدية المتفاقمة، على الرغم من وضوح العديد من الأسباب التي يمكن للحكومة مواجهتها.
وأضاف: من أبرز هذه الأسباب استمرار مؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية والاستشارية في الإقامة خارج البلاد بشكل دائم، وهو ما يسهم بشكل كبير في تسريب العملات الأجنبية إلى الخارج، ويؤدي إلى اختلال واضح بين العرض والطلب، وينعكس سلبًا على قيمة الريال.
وأشار إلى أن الحكومة لم تتخذ حتى الآن أي خطوة لإعلان موازنة تقشفية تتناسب مع الوضع الاقتصادي، كما لم تعلن عن أي إجراء لمواجهة تضخم السلك الدبلوماسي في الخارج أو تقليص البعثات التعليمية التي تستنزف الموارد بالعملة الصعبة.
وانتقد قحطان تقاعس الحكومة فيما يتعلق بإصلاح مصافي تكرير النفط الخام للاستغناء عن استيراد المشتقات النفطية من الخارج. كما لفت إلى أن الأوعية الإيرادية للدولة ما زالت تعاني من فوضى وتسيّب، دون وجود إرادة جادة لإصلاحها.
وتطرّق إلى دور البنك المركزي في عدن، مشيرًا إلى أن الحكومة لم تُقدِم عبره على اتخاذ سياسات نقدية ملائمة، مثل إلغاء سياسة تحرير سعر الصرف، واعتماد سياسة تثبيت السعر كما هو معمول به في صنعاء، ولم تتخذ أي إجراءات للحد من تسرب العملات خارج مناطق سيطرتها.
وتابع: “لم تُقْدِم الحكومة على إلغاء العديد من أوجه الإنفاق، مثل الحراسات الشخصية، وبدلات السفر والعلاج في الخارج، إلى جانب الموازنات الكبيرة المخصصة لقيادات المحافظات الخارجة عن سيطرة الشرعية، وبدلات الإعاشة التي تُصرف لعدد كبير من النازحين المقيمين في الخارج بعملات أجنبية”.
وقال: الحكومة لم تضع قيودًا على استيراد السلع الكمالية، ولم تواجه بجدية ظاهرة تهريب الواردات، سواء المشروعة أو غير المشروعة، في ظل غياب شبه تام لأي إجراءات للحد من السفر غير الضروري إلى الخارج.
وشدّد الدكتور قحطان على أن استمرار هذه العوامل والسياسات الحكومية في تجاهل مسبّبات الانهيار، يجعل من الطبيعي أن تستمر حالة التدهور في قيمة الريال اليمني.
فوضى مصرفية
من جانبه، يقول الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية “وفيق صالح” إن الأزمة الحالية في سوق الصرف تتجاوز مجرد تدهور في قيمة الريال، إذ أن ما يحدث هو نتيجة “فوضى مصرفية” لا تحكمها أي ضوابط اقتصادية أو قانونية.
وأوضح رداً على تساؤلات “يمن ديلي نيوز”، أن أسعار العملات في أسواق الصرف الراسخة، والتي تحكمها قواعد ونظم اقتصادية محكمة، تظل تتأرجح بين الصعود والهبوط بشكل طفيف، وبناءً على متغيرات اقتصادية ونقدية في السوق الحر.
وأردف: ما يجري في الحالة اليمنية من تلاعب مخيف بسعر الصرف واستهداف العملة الوطنية دون أسباب منطقية، يدل على وجود فوضى مصرفية لا تحكمها قواعد أو محددات اقتصادية أو قانونية، ولا تسري عليها آليات العرض والطلب المعروفة في الأسواق الحرة.
وأضاف: هذه العشوائية التي تهيمن على سوق الصرف المحلي تُعد نتيجة طبيعية لحجم الاختلالات الهيكلية التي ما تزال تسود النظام النقدي والمالي، وتشير إلى غياب الرؤية لدى السلطات الشرعية تجاه الملف الاقتصادي.
وأشار إلى غياب تأثير السياسات النقدية لدى البنك المركزي، متسائلًا عن مدى قدرته على فرض الاستقرار النقدي في ظل فقدانه معظم وظائفه، وافتقاره للموارد من النقد الأجنبي خلال السنوات الأخيرة، إضافة إلى ضعف جدوى الإجراءات التي يتخذها.
ولفت إلى أن البنك يعاني أيضًا من مشكلات أخرى، تتمثل في غياب الحوكمة والشفافية المؤسسية، وانعدام الكوادر المؤهلة والنزيهة في قطاعاته المختلفة.
المنظومة الاقتصادية
أما الصحفي الاقتصادي “نجيب العدوفي”، فقال إن استمرار تراجع سعر صرف الريال اليمني في مناطق الحكومة المعترف بها لا يتعلق بتغيير شخص رئيس الوزراء، بل يرتبط بمشاكل تتعلق بالمنظومة الاقتصادية بأكملها.
وأضاف في رده على تساؤلات “يمن ديلي نيوز” أن من أبرز أسباب عدم توقف تدهور العملة يعود إلى غياب المعالجات الهيكلية، وبالتالي فإن تغيير رئيس الحكومة لا يمكن أن يُحدث فرقًا ما لم يترافق مع إصلاح شامل في أداء السلطة التنفيذية، وتقييم أداء الوزراء بناءً على الكفاءة.
وأوضح العدوفي أن الحكومة لم تضع خطة اقتصادية واضحة تستهدف جذور الأزمة، وعلى رأسها إنهاء الانقسام النقدي، ومعالجة العجز المزمن في الموازنة، وتقليص فاتورة الأجور، والحد من الفساد الجمركي والضريبي، فضلًا عن إنهاء تعدد مراكز القرار المالي.
غياب البدائل
وأضاف: الهجمات التي شنتها جماعة الحوثي على موانئ تصدير النفط في حضرموت وشبوة أواخر عام 2022، تسببت في توقف شبه كامل لتدفق الموارد السيادية، دون أن تقدم الحكومة معالجات حقيقية أو بدائل ملموسة لاستعادة التصدير أو تنويع مصادر الدخل، مما أدى إلى شحّ حاد في النقد الأجنبي وزيادة الضغط على العملة المحلية.
وقال: اعتماد الحكومة المفرط على الوعود الدولية وانتظار حلول من الخارج، وعلى رأسها تعهدات التحالف السعودي الإماراتي بتقديم الدعم المالي والودائع، قد أضعف موقفها الاقتصادي.
ومن الأسباب وفق العدوفي “عدم التزام تحالف دعم الشرعية بالتزاماته، بل ساهم في تعطيل موارد حيوية، أبرزها ميناء بلحاف لتصدير الغاز المسال، ما حرم البلاد من مصدر استراتيجي كان يمكن أن يسهم في التخفيف من الأزمة الاقتصادية”.
ولفت إلى أن السوق والمضاربين لم يتفاعلوا إيجابيًا مع تغيير رئيس الحكومة، في ظل غياب الثقة الشعبية والاقتصادية بأن هذا التغيير سيؤدي إلى تحسن ملموس، خصوصًا في ظل عدم وجود دعم مالي جديد أو مؤشرات جدية على إرادة سياسية فاعلة وإجراءات رادعة ضد التلاعب بسوق الصرف.
وختم العدوفي حديثه قائلًا: “إن مشكلة انهيار الريال ليست أزمة أفراد، بل أزمة منظومة متكاملة، والحل لا يكمن في تغيير الوجوه، وإنما في إطلاق مشروع اقتصادي وطني شامل يستند إلى إصلاحات حقيقية تدعم الاستقرار النقدي، وتستعيد موارد الدولة، وتحد من العبث المالي والإداري”.
وهكذا أثبتت السنوات الماضية أن سياسة تغيير القيادات لم تكن أكثر من مسكن مؤقت لأزمة الريال اليمني، سرعان ما ينقضي أثره لتعود العملة إلى دوامة التراجع، فالمشكلة، بنظر المختصين، ليست في الأشخاص بقدر ما هي في بنية اقتصادية مختلة، وغياب إرادة حقيقية للإصلاح.
واليوم، ومع اتساع الهوة بين الوعود والواقع، يبرز التساؤل الملح: متى تنتقل الحكومة من سياسة الإقصاء إلى معالجة الأسباب الجذرية لانهيار الريال؟ وهل يتشكل وعي جديد بأن إنقاذ الاقتصاد اليمني يبدأ بإصلاح المنظومة، لا بتبديل الوجوه؟
مرتبط
الوسوم
أسباب تدهور العملة الوطنية
أسعار الصرف
الريال اليمني
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news