“أنظر إلى كل شيء في حياتي بطريقة تسمح لي بالكتابة عنه”.. هكذا قالت الشاعرة الإيرانية الشابة بارنيا عبَّاسي في آخر مقابلةٍ صحفية لها، لكنها لم تكن تعرف وهي تفتح شرفتها في لحظةٍ صادفت إحدى الغارات الجوية العدوانية التي شنتها إسرائيل على طهران أول أمس الخميس، أنها كانت تكتب قصيدتها الأخيرة.
رحلت “عبَّاسي”، وجميع أفراد عائلتها: والداها وشقيقها المراهق برهان عبَّاسي- خلال الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة على طهران. قبل أيام قليلة من عيد ميلادها الرابع والعشرين، في مشهدٍ شعريٍ هو الآخر هز قلوب الكُتّاب والفنانين الإيرانيين وغيرهم من مثقفي العالم، وأعاد للأذهان وقائع مقتل الشعراء والفنانين والمفكرين ضمن الحروب المجانية التي اندلعت خلال العقدين الأخيرين.
كغيرها من المبدعين في العالم الثالث، كانت الشاعرة بارنيا عبَّاسي مضطرة لاحتراف مهنةٍ أخرى غير الأدب لكسب العيش
عُرفت بارنيا بشِعرها التأملي المؤثر، وبرزت كنجمة صاعدة بين جيل الشعراء الإيرانيين الجدد. ونُشرت أعمالها، بما في ذلك قصيدتها الشهيرة “النجم الصامت”، في مجلات أدبية رائدة مثل “فازن دنيا”.
وكغيرها من المبدعين في العالم الثالث، كانت الشاعرة مضطرة لاحتراف مهنةٍ أخرى غير الأدب لكسب العيش؛ فعملت معلمةً للغة إنجليزية، وعضوًا بهيئة التدريس في الفرع المركزي لبنك ملي، وهي حاصلة على شهادة في الترجمة الإنجليزية من جامعة قزوين الدولية، ومؤخرًا تم قبولها ضمن برنامج ماجستير في الإدارة، لكنها اختارت تأجيل دراستها حفاظًا على وظيفتها، تقول في إحدى قصائدها:
“كل ليلةٍ أودع قلبي في خزينة البنك
أرقمه بشفرةٍ لا تكتشفها أجهزة الإنذار
لأصغي إلى معدلات الفائدة
فأسمع نبضًا يزداد بطئًا.
كلَّما ازداد النهار صلابةً
أعود إلى البيت بحقيبة فارغة
وفي جيبي قطعة نقد واحدة –
وجهها يحمل صورة قمري
وظهرها يرسم نافذة تضيء لثانيةٍ
ثم تنطفئ
تاركة على الحائط ظلَّ امرأة
تحاول اقتلاع الليل بأظافرها”.
وأودت الغارة الجوية بحياة “عبَّاسي” ووالديها وشقيقها الأصغر برهام؛ الطالب في المرحلة الثانوية المولود عام 2009، ودُمر منزل العائلة في مجمع أورشيده بشارع ستارخان، ولم يبقَ من بين السُكَّان سوى عدد قليل من الناجين.
وفي حديثٍ لصحيفة “طهران تايمز” قالت مريم، الصديقة المقربة لعبَّاسي، إن الشابتين كانتا قد خططتا للقاء صباح يوم الهجوم، لكن عندما وصلت مريم إلى موقع الحادث بعد القصف شاهدت عُمال الإنقاذ ينتشلون جثتي “عبَّاسي” وشقيقها من تحت الأنقاض، وهي لحظة وصفتها بأنها مدمرة تمامًا.
وأسفرت الغارات الإسرائيلية، التي استهدفت مناطق عسكرية ومدنية على حدٍّ سواء، عن سقوط عشرات الضحايا، وأثارت إدانة واسعة النطاق. لكنَّ هذه المأساة عززت دعوات المنظمات الدولية والمسؤولين الإيرانيين، لتوفير حماية أكبر للمدنيين في مناطق النزاع.
وأعرب أصدقاء وزملاء بارنيا ومعلموها عن حزنهم العميق لرحيلها، واصفين إياها بأنها كانت “مُفعمَة بالحياة والشِعر”.
وانتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي والمنظمات الثقافية في جميع أنحاء إيران بيانات تدين الهجوم وتنعى فقدان الفنانة الشابة، التي انقطعت مسيرتها الإبداعية الواعدة بسبب العنف.
أسفرت الغارات الجوية الإسرائيلية على طهران، المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية، ليس فقط عن مقتل كبار المسؤولين والعلماء النوويين الإيرانيين، بل أيضًا عن مقتل مدنيين أبرياء. وهو ما ضاعف حِدة الغضب إزاء ما عُدَّ في إيران والمنطقة انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.
أصبحت مأساة برنيا عبَّاسي وشقيقها الشاب برهام رمزًا قويًا لمعاناة المدنيين الناجمة عن هذه الهجمات
وأصبحت مأساة برنيا عبَّاسي وشقيقها الشاب برهام رمزًا قويًا لمعاناة المدنيين الناجمة عن هذه الهجمات، والتي أُدينت على نطاقٍ واسع باعتبارها أعمال عدوانية تدعمها السياسة الأمريكية في المنطقة.
ففي شعرها، كثيرًا ما تناولت بارنيا مواضيع كالضوء والظلِّ والشوق الوجودي، من نصوصها التي تبدو الآن وكأنها كانت نبوءة:
“ننتهي أنا وأنت في مكانٍ ما
سأحترق؛
سأصير نجمًا منطفئًا
دخانًا في سمائك
القصيدة تمشي الآن وحدها بين الركام،
تخمش بأظافرها الزجاج
وتفتح نافذةً صغيرةً لنهار لا يحتاج إلى تصريح”.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news