هذا زُهير، الذي قادني أحدُ تعليقاتي على منشورٍ للصديق أحمد السلامي، قبل أشهر، إلى الالتفات لكاتبٍ لم أكن أعرفه. كانت مصادفة عابرة، لكن تعليقاً واحداً له على مقالة السلامي، آنذاك، كان كافياً ليكشف لي عن قلم يكتب بهدوء، من تحت الضوء. لا يصرخ، لا يستعرض. إنه أقرب إلى مثقف بمعناه العميق، لا الاستعراضي؛ يكتب من دون أن يقول: “أنا كاتب”.
وزُهير، في اللغة، يعني المُشرق الوجه. وهو كذلك في كتاباته: مشرقٌ، لا يبهرك بالبهرجة، بل يفتح لك أبواباً داخلية لم تنتبه لوجودها. فيلسوفٌ يتسلل، لا يُعلن عن نفسه. لا أدري لماذا لم يلتفت إليه أحد، ربما لأن الفلاسفة الحقيقيين لا يرفعون أصواتهم، ولا يختبئون خلف الشعارات، بل يتركون المعنى يسري بهدوء في وعي القارئ.
في زمنٍ يفيض بالضجيج، تصبح الكتابة فعل تميّز لا بالصوت العالي، بل بالهدوء العميق. إنها ليست مجرد وسيلة للتعبير، بل انكماش للروح نحو ذاتها. الكلمات، حين تخرج من هذا السكون، تكتسب صدقاً لا تمنحه البلاغة وحدها. هنري ديفيد ثورو كتب ذات مرة: “الكتابة ليست توثيقاً للواقع، بل استبطان له. الكلمات الجيدة لا تأتي بالصوت، بل بالصمت”.
ذلك هو الصمت الذي يصنعه زُهير؛ صمتٌ ليس فراغاً، بل حالة امتلاء بالمعنى، كما لو أن الكاتب يجلس على حافة الكون، يصغي لما لا يُقال. كأن اللغة تُصاب بالسكينة، فتفسح الطريق للمعنى كي يتشكل. فرناندو بيسوا قال: “الكتابة هي الطريقة التي أهرب بها من صخب العالم. أُمسك القلم لا لأشرح ما أفكر، بل لأكتشف ما أشعر”.
وما يفعله زُهير، حين يكتب، هو هذا بالضبط: يهمس في وجه العدم. يرى إميل سيوران أن “الكتابة نوعٌ من الصلاة، لكنها موجهة للعدم”. صلاةٌ بلا طقوس، تأملٌ بلا ضوضاء، لكنها توقظ فينا شيئاً حيّاً. الكاتب الحقيقي لا يكتب ليؤكد، بل ليسأل، ليتأمل، ليفتح كوة في جدار العالم.
الكتابة ليست رغبة في الإمساك بالعالم، بل حاجة إلى الإنصات له. مارغريت دوراس قالت: “الكتابة تأتي عندما لا يعود هناك شيء يُقال. إنها الصمت وقد وجد شكله”. هذا الشكل هو ما يتقنه زهير؛ ليس ليقاوم، بل ليعبر العالم بنبرة متصالحة.
يقول جان بول سارتر: “الكتابة فعل مقاومة صامت، وصراع ضد الفوضى، ضد الموت، ضد العدم، بالكلمات وحدها”. وهكذا تصبح الكتابة عند زهير نوعاً من التأمل في الفوضى، لا هروباً منها، احتضاناً متزناً لا إنكاراً.
وكما رأى رولان بارت، “الكتابة هي الوقوف في وجه اللغة بالسكون”، فإن زُهير لا يعارض اللغة، بل يستخرج من سكونها صوتًا آخر، أقل صخباً وأكثر رسوخاً. الصمت هنا ليس غياباً، بل استعداداً لما هو أعمق.
وكما قال بورخيس، الحكيم الأعمى: “الكتابة ليست ما نفعله، بل ما نحن عليه حين نكون صامتين”. هذه الجملة ربما تختصر زهير كله.
إذا كانت الحياة دوامة لا تهدأ، فإن الكتابة هي النقطة التي نتوقف عندها ونُعيد النظر، لا لنحكم، بل لنتأمل. لا لنُظهر أنفسنا، بل لنُصغي إلى أعماقنا.
في كل سطر يكتبه زهير، تتفتح الحياة من جديد، كما لو أن الكتابة ليست وسيلة لفهمها، بل هي الحياة وقد تَجسّدت في كلمات.
وحين تكون الكتابة صادقة، تُعلّمنا كيف نكون أقل صخباً وأكثر قرباً من الحقيقة.
وكلما تعمق الكاتب في صمته، كلما أصبحت كلماته أكثر قدرة على النفاذ.
الكتابة ليست عزلة، بل جسور خفية تصل بين الأرواح.
وفي كتابات زهير علي، تشعر أن الكلمات تتحول إلى ممرات تؤدي إلى مناطق لم تُكتشف بعد.
ومن يكتب بهذه الروح، لا يحتاج أن يعلن عن نفسه، لأن النص ذاته يُعرّفه. النص هنا هو بطاقة الهوية الوحيدة التي يحتاجها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news