كان ولا يزال لشعراء عرب أمثال أنسي الحاج وعباس بيضون ووديع سعادة وسركون بولص تأثير مركزي على مستوى توطين قصيدة النثر في الثقافة العربية إنتاجا وتلقيا، ويضاف إلى تلك الأسماء آخرون مجايلون لهم أو لاحقين أسهموا جميعا في فتح أفق جديد للشعر.
لا مناسبة لهذا الحديث سوى أن صفحة الشاعر الكبير وديع سعادة لمعت أمامي فتذكرت الأثر الذي أحدثه وديع في جيلنا التسعيني أو لدى بعض أبناء جيلنا الذي انشرخ مثل جذع شجرة وتفرعت عنه أغصان متشابكة ومختلفة في تنوع إنتاجها ومصائر استمرارها في الكتابة من عدمه!.
أهلكتنا الحروب في بلداننا التي تعيش في تزاوج مستمر مع أشكال متنوعة من الفوضى، فمن لم تصبهم لعنة الحرب المباشرة بخرابها ودمارها وشتاتها الفاقع أصابتهم درجات أخرى من سعير الحرب الصامتة داخل المجتمعات وفي أعماقها وبنيانها. ويبدو أن الحروب والفوضى في عالمنا العربي تيمة لا فكاك منها حتى الآن.
أعود إلى حديث الشعر وأنا أتابع شذرات من قصائد نثر يكتبها الجيل الأحدث كما لو أنه ولد داخل ذائقة نثرية صرفة، وأتذكر أيضا كيف أنقذتنا قصيدة النثر ومثلت لبعضنا الحل الجذري لتلك الإشكالية التي وعيناها، أو بالأحرى تنبه لها القلة واعترفوا بها.
أعني تلك الإشكاليات الجوهرية اللصيقة بالشعر العمودي وحتى في جانب من شعر التفعيلة إلى حد ما والتي تكمن في العلاقة الملتبسة بين الصنعة واشتراطاتها الشكلية وبين الرؤيا. فالالتزام الصارم بالبنية الشكلية خاصة الوزن الموحد والقافية الملزمة يحوّل الجهد الشعري في كثير من الأحيان إلى مجرد تحد تقني يتمحور حول إخضاع اللغة والفكرة لقيود المعمار الخارجي للقصيدة.
هنا جاءت قصيدة النثر لتخلص للشعر وحده وهنا يبرز الحل لتجنب هيمنة الشكل على المضمون، حيث تقود القافية في الشعر العمودي الشاعر إلى معان لم يقصدها وإلى صياغات يستدعيها مرغما بفعل قيد القافية ، مما يوقعه في فخ “التلفيق” ويجعله يفتقر إلى التلقائية فتبرز الصنعة.
وبالطبع لا تتحقق القيمة الفنية والجمالية في الشعر الموزون المقفى بمجرد استيفاء هذه الشروط الشكلية، بل بالقدرة على تجاوز الشروط من خلال إخفائها. وكيف يخفي الشاعر العمودي أساس شكل القصيدة؟ لهذا السبب كثر النظامون وهم الأغلبية لأن تطويع الصنعة بحيث تبدو القافية عفوية يمكن أن ينجح في أبيات قليلة ولذلك يتحدث العرب عن (بيت القصيد)!.
في القصيدة العمودية وفي شعر التفعيلة (الذي يروقني في الحقيقة لأسباب موسيقية) سنجد أن البنية الشكلية (تلبية شرط تحقق بروز صوت التفعيلة) ضرورة وليست مسألة هامشية.
أما مرحلة ذوبان الصنعة في الشعر المموسق فقد وجدتهاعند سعدي يوسف وعند من داروا في فلكه، وهنا فقط يتحقق الإبداع حين يسمو “الإدهاش الشعري” فوق الجهد التقني وتتجلى القصيدة وحدة عضوية متكاملة، ولكن كيف لنا أن ننتج في ثقافتنا الشعرية نظراء لسعدي الذي لم ولن يتكرر؟ حتى محمود درويش لم يتخفف من سطوة التداعي مع إيقاع التفعيلة ومنبرية الشكل والقضية معا إلا في نهاياته.
***
التحية لشعراء قصيدة النثر العرب ورواد هذه القصيدة واجبة في كل وقت وحين لسبب آخر، لقد سقطت كل معالم الحداثة لدينا في السياسة والحياة والتشريع والمجتمع والسلوك، ولم تبق لنا إلا الحداثة وما بعدها في الشعر والتشكيل!.
يتراكم في الشعرية العربية منجز قصيدة النثر ليشير ضمنيا إلى أن الشاعر التقليدي لا يزال يواجه تحدياً جمالياً يتمثل في الكفاح المستميت من أجل ترويض سلطة الشكل (الوزن والقافية) لخدمة جوهر الخطاب الشعري لا العكس. فحين تطغى الصنعة تصفق لجان التحكيم في مسابقات الشعر للإخلاص المتبقي للتراث لكن الشعر يتحول في تلك المساحات إلى استعراض للمهارات في تقديم بنيان تقليدي مفتعل تعلن فيه القافية أنها فاقدة لعفويتها وأنها أصبحت في هذا العصر عبئاً على المعنى، ويمكن تلقيها في موروثها المحكوم بزمانه وكتابة الجديد المحتكم إلى اللحظة الراهنة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news