إلى علي المقري، شاعر الشبهات النبيلة ومؤرخ الأرواح في زمن الخراب. واجمل محرر ثقافي عرفته اليمن.
في مساء يشبه نواة الغموض، وإذ الوطن ينهار مثل جدار طيني في مهب الريح، جلستُ أحلم ، لا حبا في الحلم بل احتضارا.
في حين لاشيء كان أكثر وضوحا من هذا الحزن: صامت، كثيف، يمشي على ساقين من دخان ويصافحني بأصابع موتى أعرفهم.
وها أنا:
أرثي الوطن، لا لأنه مات، بل لأنه قرر أن ينام في نعش من خرافة.
أرثيه كمن يرثي حلما حن إلى واقعه، فعاد إليه مدمى.
نعم ..لم يعد لنا من الوطن سوى الجغرافيا العوراء، مقطّعة كالخرائط المهربة في حقائب اللاجئين.
ولقد صار الوطن طيفا يُطاردنا في المنفى، يسألنا إن كنا لا نزال نحبه، فنكذب بحذر.
أما الرفاق، فقد تبخروا في ضوء رصاصات لا تأتي من الأمام فقط.
سقط بعضهم أمامنا، سقط بعضهم خلفنا، وسقط آخرون فينا.
فيما رفاق الأمس صاروا رمادا على الطاولة، ذكرى في جيب معطف، أو قصيدة كُتبت ولم تُقرأ.
نسيتُ بعض أسمائهم، وما يوجعني أكثر أنني بدأت أنسى وجوههم.
كذلك أرثي الشهداء كما يرثي العاشق زهوره اليابسة.
هؤلاء الذين صدقوا أن الدم يحول الصحراء إلى بساتين، وماتوا دون أن يروا شجرة واحدة.
رصاصات النسيان كانت أشنع من رصاصات القناصة.
والدولة التي قتلتهم شيدت لهم نصبا من الأكاذيب. فيما لا شيء يعادل خيانة دم، سوى الاحتفال به كأن شيئا لم يكن.
و
وأرثي الحلم، الحلم الذي هتفنا له حتى بُحت حناجرنا، حتى ظننا أن الهتاف وطن.
ذلك الحلم الذي بدا لنا في البدء كطائر في السماء، ثم صار طعنة في الخاصرة.
حلمنا كان طوباويا، متورطا في البراءة أكثر من اللازم، وكان لا بد له أن يموت، لأنه كان صادقا.
ولكن هانا في تمام غصتي..
غصتي… يا للمجاز البليغ الذي يتحول إلى حقيقة.
فيما الغصة ليست مجرد شعور، إنها وطن صغير انهار في الحلق.
أعيشها كلما فتحت نافذة، كلما أغلقت جريدة، كلما رأيت طفلا يعرف اسم الرئيس ولا يعرف اسم أمه. فيما الغصة أكبر من القلب، وأضيق من الكلام.
و الحب ” فاكهة الخلود”..
والحب؟ هه
لم يعد حبا بل عملية مقاومة. وأنا أحبك لأنك ترفض أن تنتمي إلى القطيع، لأنك تحب الشعر أكثر من السلاح، لأنك لا تخشى الهزيمة.
والحب الآن فعلٌ سياسي. الحب الآن جريمة. نحب فنُعتقل، نحب فنُغتال معنويا. فيما الحب الحقيقي لا يعيش طويلاً في نظام قمعي.
وأتذكر الاصدقاء..
أما الأصدقاء فصاروا أنصاف مواقف، أنصاف ولاءات، أنصاف بشر.
و انصاف الأشياء أخطر من نقيضها، لأنك تتوه بين الخطأ والصواب، بين الوفاء والخيانة. هؤلاء الذين وقفوا في المنتصف، ما بين الجحيم والفردوس، كانوا الملح الذي فسد.
و
وأرثي طيشي كأنني أرثي ربيعا لم يكتمل.
تتذكر حين كنتُ أركض خلف الحقيقة كما يركض طفل خلف فراشة، حتى اصطدمتُ بجدار الوقائع. يا لغبائي.
لكن الطيش كان نقيا، كان نضجا متنكرا، كان خيالا أكبر من الجغرافيا وأعمق من التاريخ.
وصدقني..
..ما فقدته في زحمة الخذلان؟ أكثر مما أستطيع أن أعد. فقدتُ إيماني بالبشر، بصناديق الاقتراع، بخطب الجمعة، بالحب الأول، بأحزاب اليسار، بيمين الله، بيسار القلب. فقدتُ حتى قدرتي على الفقد.
و
يا علي..
أيها الساكن بين دفتي السرد والقصيدة، ما الذي تبقى منا بعد أن انكسر كل شيء؟
ما جدوى الكتابة إذا لم تعد تؤذي الطغاة؟
تقول لي..نحن نكتب الآن لا لنُخلد بل لننجو.
لا نكتب لتغيير العالم، بل لنُذكر أنفسنا أننا لا زلنا نملكه، ولو بين السطور.
على أنه العالم..
العالم الذي صار يشبه نصا رديئا لا يقبل التحرير، ومع ذلك نعيد كتابته كل صباح.
وتقول لي..نحن أبناء الجراح الفاتحة، أولئك الذين يعبرون الحريق حاملين اللغة في جيوبهم كتعويذة. ونحن نعرف أن الكلمات لا توقف القنابل، لكنها تحفر في الطغيان حفرة صغيرة، تنبت منها زهرة.
وهكذا..
نكتب، أيها الصديق، لا لأننا نعرف الطريق، بل لأننا لم نجد غير اللغة وطنا.
بل نكتب لأن العالم صار مكانا لا يُطاق، ولأننا لم نتعلم حرفة غير تحويل الألم إلى جملة تستحق أن تُقرأ.
فيا أيها الشاعر الكبير، وراوي الروح..
هذه الصرخات ليست رثاء بقدر ما هي اعتراف.
اعتراف بأننا كنا نحلم معا، وأن الحلم لم يكن عبثا، بل ضرورة. وإن فشلنا اليوم، فربما ينهض الحلم في مكان آخر، في زمن آخر، على يد شاعر آخر، وسارد آخر..
يقرأنا في كتاب قديم ويقول: كانوا يحلمون رغم كل شيء!.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news