عبدالكريم الإرياني .. رجل الدولة الذي سبق زمانه
قبل 1 دقيقة
في زمنٍ صاخب أختلطت فيه السياسة بالتجارة، والمناصب بالنهب، والأوطان بالمغانم، حيث تُقاس القيمة بالولاء لا بالكفاءة، وتُمنح الألقاب لمن يرفع الصوت لا لمن يصنع الفارق، ظهر رجلٌ استثنائي، يسير عكس التيار بصمت الكبار، وعقل الكهنة الحكماء
.
رجل لم يكن نسخة باهتة من حقبة مأزومة، بل كان نموذجاً مضيئاً في زمن العتمة .
إنه الدكتور عبدالكريم الإرياني، الذي لم يرَ في الدولة “غنيمة”، بل مسؤولية، ولم يستخدم السلطة لبناء مجد شخصي، بل لبناء وطن يليق بالناس .
هو الرجل الذي عاش بين ساسة، لكنه لم يكن كأحدهم. لم يلهث خلف الشهرة، ولم يتكسّب من المنصب، ولم يتاجر بالوطن .
كان صوت العقل في زمن الغرائز، وصوت القانون في زحمة العنف، ورجل الموقف حين كانت المواقف تُشترى وتُباع على قارعة الفوضى.
لقد كان عبدالكريم الإرياني رجل الدولة، لا الحاشية . رجل المشروع، لا الشعار . رجل الحكمة لا المزايدة .
ولأنه كذلك، نحتاج اليوم - أكثر من أي وقت مضى - أن نعود إلى سيرته، لا للبكاء على الأطلال، بل لتذكير أنفسنا أن الدولة لا تُبنى على الخطابة، بل على حكمة الرجال .
لم يكن عبدالكريم الإرياني نتاج صدفة سياسية أو أبن ظرف استثنائي، بل كان مشروعاً معرفياً تشكّل بصبر العقول الكبيرة ونُضج النفوس النادرة .
وُلد عام 1934 في قرية “ حصن إريان ” بمحافظة إب، لكنه ما إن فتح عينيه على الدنيا حتى أدرك أن المكان لا يحدد المصير، بل الإرادة والعلم والمعرفة .
من أعماق الريف اليمني، شقّ طريقه نحو أرقى الجامعات في العالم، حتى بلغ قمة الهرم الأكاديمي بحصوله على الدكتوراه في علم الوراثة والكيمياء الحيوية من جامعة “ييل” الأمريكية العريقة . لم يكن مجرد طالبٍ يطلب شهادة، بل باحثاً يفتش عن أدوات بناء وطن من منظور علمي عميق، لا من منابر العاطفة والشعارات .
ذلك التكوين العلمي الصارم هو ما صقل شخصيته السياسية لاحقاً ؛ جعله يقارب السياسة كما يُقارب العالم المعادلات الدقيقة :
بحسابات واقعية، واستبصار بعيد، وتشخيص عقلاني لا يتحمّس ولا يتسرع، لكنه يعرف متى يضرب، وكيف يصيب جوهر الأزمة دون ضجيج.
كان الإرياني يتحدث بهدوء العلماء، لكنه كان إذا نطق تجاوز منطقه أعتى الخطباء .
سياسيٌ بمرجعية معرفية، وهوية يمانية خالصة دامغة، ورجل دولة برؤية تتجاوز اليومي والمؤقت .
لم يسقط في فخ الانفعال، ولا في غواية الكاميرا، بل ظل يحاكم الأشياء بعقل استراتيجي نادر، يوازن بين الممكن والواجب، وبين الحلم والواقع .
ولعل أهم ما ميّز الإرياني في مسيرته، أنه لم يسمح للسياسة أن تلوّث عقله، بل جعل من عقله أداة لتطهير السياسة من العشوائية والارتجال .
وهكذا تحوّل من مجرد مسؤول حكومي إلى عقل دولة، ومن سياسي في موقع سلطة إلى رمز وطني ذي بُعد أخلاقي وفكري عابر للمنابر والانقسامات . لم يكن موظفاً في الدولة، بل الدولة كانت تسكنه
لم يكن عبدالكريم الإرياني رقماً في دفتر التعيينات، ولا اسماً يُدوّن في كشوفات المناصب، ولم يدخل دهاليز السلطة ليجمع الألقاب كما يجمع الآخرون الغنائم .
لقد كان من طينة مختلفة، طينةٍ ترى المنصب تكليفاً لا تشريفاً، والمسؤولية تضحية لا وجاهة .
من وزيرٍ إلى رئيس وزراء، إلى مستشارٍ يُستشار ولا يفرض نفسه، تنقّل الرجل بثقة رجل الدولة، لا تهافت الطامحين . لكنه ظل طوال رحلته متشبثاً بمنصبه الأسمى : "رجل المبادئ".
لم يطلب شيئاً لنفسه، ولم يساوم على قناعة، ولم يبدّل ثوبه الوطني حتى في أحلك اللحظات. لم يكن مجرد رجل في الدولة، بل كان في جوهره هو الدولة كما ينبغي أن تكون :
عاقلة، متزنة، مسؤولة، وأخلاقية .
لقد كان عبدالكريم الإرياني نسيجاً نادراً من الطهارة السياسية والنضج الأخلاقي .
لم يُبهره وهج الكرسي، ولم يُغْوِه صراع المصالح، بل ظل يمشي على حافة النار دون أن تحترق مبادئه . لم يكن “ يتدبّر ” لنفسه، بل يتدبّر للدولة، للوطن، للناس .
في حضوره، كانت السياسة ترتدي وقارها، وكان القرار يحمل بصمات العقل لا مزاجية اللحظة .
لم يكن رجل مرحلة، بل رجل مشروع، ولذا لم تنقطع قيمته برحيله، بل بدأت ملامح غيابه تُفصح عن فداحة الخسارة الوطنية .
هو ببساطة، الرجل الذي لم يُشكّل جزءاً من الدولة، بل شكّل روحها النزيهة المفقودة . كان صوته للدولة، لا للحاكم، وولاؤه للوطن،
لا للجماعة
في زمنٍ أمتهن فيه البعض تبرير الظلم، ورفع الرايات الزائفة على أنقاض الحقيقة، وقف عبدالكريم الإرياني شامخاً، لا بوصفه معارضاً ولا موالياً، بل بوصفه ضمير الدولة الذي يعلو فوق الأهواء .
رفض أن يكون بوقاً لحاكمٍ مهووس بالسلطة، أو مجرد واجهة تُجمّل قراراتٍ عبثية تُهدر الدم وتُبدّد الثروة .لم يرضَ أن يكون رافعةً لحروب لا عقل فيها، ولا شريكاً في طاولات تقسيم الغنائم، أو شاهد زور في حفلات الانهيار .
وحين داهمت البلاد نيران الفوضى، لم ينزلق إلى مربعات السلالة أو المذهب أو الجغرافيا، بل وقف في صفٍ واحدٍ لا يتجزأ :
صف الدولة العاقلة، والوطن الجامع، وحقوق الناس البسطاء .
كان يعرف أن الحياد في لحظة الانقسام خيانة، لكن الانحياز الأعمى كارثة أكبر، فاختار طريقاً ثالثاً لا يسلكه إلا الكبار : طريق الإنقاذ الوطني، بالكلمة الواعية، والموقف المتزن، والرؤية التي تبحث عن المستقبل لا عن الغلبة .
لقد كان عبدالكريم الإرياني رجلاً لا يُستدرج إلى زوايا الطمع أو الاصطفاف، لأنه ببساطة ينتمي إلى المدرسة التي ترى في الوطن كياناً لا يتحزّب، وفي الدولة مشروعاً لا يُختزل، وفي الناس قيمة لا تُشترى ولا تُباع .
في سجل اللحظات المصيرية التي صنعت ملامح اليمن الحديث، لا يمكن تجاوز أسم الدكتور عبدالكريم الإرياني كأحد أبرز المهندسين العقلانيين لمشروع الوحدة اليمنية عام 1990 .
لم يكن مجرد شاهداً على الحدث، بل كان من صاغَ ملامحه، وضبط إيقاعه، وزرع في عمقه ما استطاع من بذور البقاء .
لكن عبقرية الإرياني لم تكن في التوقيع على الورق، بل في إدراكه العميق أن الوحدة ليست احتفالاً سياسياً عابراً، ولا نزهة بين شطري وطنٍ أرهقته الحروب والمركزيات، بل مشروع وطني طويل النفس، يتطلّب منطق الدولة لا منطق الفتح، ومؤسسات قوية لا شعارات رخوة، وعدالة انتقالية تداوي الجراح بدلاً من إنكارها، وشراكة حقيقية تتجاوز المنتصر والمهزوم لصالح مفهوم “ المواطنة المتساوية ” .
لقد فاوض الإرياني لا كمن يبحث عن نصر لحزبه، بل كمن يُصيغ سلاماً لوطنه .
كان يدرك أن التحدي الحقيقي لا يكمن في جمع التواقيع، بل في تحقيق التوازن داخل وحدةٍ متعددة الجذور والتجارب والرؤى .
سعى لتأسيس دولة تتسع للجميع، ووقف ضد محاولات الاحتواء أو الإقصاء، لأنه كان يرى في ذلك بذور تفكك قادم إذا لم تُعالج بالعدل لا بالغلبة .
ومثلما كان عقله حاسماً في التفاوض، كانت حكمته حاضرة في لحظات التوتر التي تلت الوحدة، حين بدأ البعض يتعامل مع الجنوب كمكسب، لا كشريك .
ظلّ الإرياني يُحذّر، يُنبه، ويقدّم البدائل، لكن زمن الشعارات لا يصغي للرجال الذين يقرأون المستقبل بعين العاقل لا بغرور المنتصر .
الوحدة بالنسبة لعبدالكريم الإرياني لم تكن صفقة سياسية، بل إيمان عميق بمصير مشترك، ومشروع دولة مدنية حديثة، لا دولة شعارات فارغة وامتيازات مناطقية .
في زمنٍ كانت فيه البنادق تتكلم أكثر من العقول، برز عبدالكريم الإرياني كمدرسة مختلفة في فن استرداد الحقوق، لا بالضجيج، بل بالحجة ؛ لا باستعراض القوة، بل بهدوء الدبلوماسية الرصينة وحكمة القانون الدولي .
حين أحتلت إريتريا أرخبيل حنيش اليمني في منتصف التسعينات، كانت البلاد خارجة من حرب داخلية مدمّرة، والجيش منهك، والمزاج الشعبي يميل إلى الثأر .
لكن الإرياني، الذي كان يحمل همّ الدولة لا انفعالات الشارع، إختار طريقاً مختلفاً. رفض أن يجرّ اليمن إلى حرب جديدة لا طائل منها، وفتح ملف التحكيم الدولي، مستنداً إلى وثائق وأدلة وقانون، لا إلى خطاب تحريضي أو استعراض ناري .
قاد الملف بحنكة استثنائية، عارِفاً أن الأرض لا تُستعاد فقط بالقوة، بل تُستعاد أحياناً بذكاء الورقة، وبثقة الموقف، وشرعية الحق .
وعلى مدى سنوات من المتابعة الدقيقة والتفاوض الحاسم، تمكّن من انتزاع اعتراف دولي واضح بسيادة اليمن على الجزر، واستعادها دون أن تُراق قطرة دم واحدة .
كان ذلك نصراً وطنياً خالصاً، لا يحمل رائحة المزايدة، بل عبق الدولة وهي تنتصر عبر أدواتها النبيلة .
لقد جسّد الإرياني في هذا الملف أعلى درجات القيادة الهادئة، وذكاء المفاوض الذي لا يبحث عن المجد الشخصي، بل عن سيادة وطنه بكرامة وهدوء .
في قصة حنيش، لم نكسب فقط أراضينا، بل كسبنا صورة ناصعة لدبلوماسية يمنية راقية، قادها رجلٌ يعرف متى يتحدث، وكيف ينتصر .
حين تبدّلت المواقف كما تتبدل الأقنعة، وتحوّل بعض السياسيين إلى جنود في جيوش التحريض، أو مرتزقة على قارعة الفوضى، ظل عبدالكريم الإرياني واقفاً في مكانه الثابت :
ضد العنف، وضد الثأر، ومع منطق الدولة .
في السنوات الأخيرة من حياته، حين اشتعلت الساحات بالانقلابات والحروب، لم يركض الإرياني خلف العناوين المشتعلة، ولم يُراهن على طرفٍ ضد آخر، بل حافظ على مكانه في منتصف الخندق الأخلاقي والسياسي، حيث يصعب البقاء دون أن تُخترق أو تُستقطب أو تُخوّن .
لم يظهر في قوائم التحريض، ولم تتلوث يداه بدماء السياسة، ولم تتردد كلماته على الشاشات المأجورة التي تقتات على الأحقاد .
كان صامتاً حين تعلو الضوضاء، وفاعلاً حين يعجز الآخرون عن الفعل .
وفي لحظةٍ كانت البلاد على حافة الهاوية، برز دوره الحاسم في صياغة المبادرة الخليجية عام 2011، التي كانت بمثابة جسر إنقاذٍ سياسي جنّب اليمن، ولو مؤقتاً، سيناريوهات الحروب الشاملة كما جرى في سوريا وليبيا .
لم تكن المبادرة مثالية، لكن خلفها كان رجل يدرك أن السياسة هي فن الممكن، لا فن الانتقام، وأن الحفاظ على ما تبقى من الدولة أولى من الانتصار في معارك لا رابح فيها .
لقد قدّم في تلك اللحظة نموذجاً للسياسي الحكيم، الذي لا ينجرف، ولا يُغامر، ولا يزايد .
وفي زمن تشظّت فيه المعايير، وانقسمت الأوطان إلى ولاءات، بقي الإرياني على عهده :
صوت العقل في زمن الجنون، وظلّ الدولة في زمن الظلال الطويلة .
متواضعٌ كأنه بلا منصب..نزيهٌ كأنه خارج السياسة
في بلدٍ تحوّل فيه المنصب إلى مشروع ثراء، والوظيفة العامة إلى مزرعة شخصية، عاش عبدالكريم الإرياني نقيّاً من شوائب الامتيازات، وعابراً فوق مغريات السلطة كأنما لم يُمسّ بها يوماً .
لم يكن يُقاس بحجم حراسته، ولا بنفوذ أقاربه، ولا بعدد الصفقات التي مرّرها في الظل، بل بحجم النزاهة التي ظلّت ملازمة له حتى اللحظة الأخيرة .
لم يمتلك شركة، ولا أرضاً، ولا حسابات مصرفية في الخارج. عاش في منزله البسيط بصنعاء، ومات فيه كما يعيش الزاهدون في الدنيا، وكأن المناصب التي تولاها – من وزارة إلى رئاسة حكومة إلى مستشار رئيس – لم تكن امتيازاً، بل عبئاً يحمله بأمانة ومسؤولية .
لم يصنع إمبراطورية تجارية باسمه أو بأسماء أبنائه، ولم يترك شبكة مصالح تنوب عنه بعد رحيله. ترك شيئاً أثمن :
ترك سجلاً نقيّاً، وسيرةً تزداد بريقاً كلما زادت العتمة حولنا، وملفات لا يخجل أحد من فتحها بعده .
كانت قيمه أقوى من شهوات السياسة، ومبادئه أثقل من كل عروض النفوذ .
لذلك بقي اسمه كبيراً بلا ضجيج، وبقي الناس يذكرونه كرجلٍ دخل الدولة نظيفاً وخرج منها أنظف، لا تلاحقه لعنة، ولا تطاله تهمة، ولا يشك أحد في موطئ قلبه .
عبدالكريم الإرياني لم يكن جزءاً من نخبة النهب، بل من نخبة الفكرة ؛ من حين أغمض الدكتور عبدالكريم الإرياني عينيه للمرة الأخيرة في نوفمبر 2015، لم يكن ذلك مجرّد رحيل شخصية سياسية بارزة، بل أفول آخر نجم عقلاني في سماء السياسة اليمنية، وغياب البوصلة التي كانت ترشد السفينة في أوقات العواصف .
رحل الرجل الذي كان يزن الكلمات بميزان الدولة، لا بميزان المصالح، ويخوض المعارك من أجل الوطن، لا من أجل الذات أو القبيلة أو الجهة .
منذ رحيله، دخلت البلاد مرحلة “ ما بعد الحكمة ”، حيث تعالت الأصوات وخفتت البصائر، وتقدّمت البنادق وتراجعت العقول، وامتلأت الساحات بقادة بلا رؤى، ونُخب بلا مشروع .
لم يعُد هناك من يُجيد فن الإمساك بالخيط الرفيع بين الممكن والمبدئي، ولا من يملك ترف الترفع عن الأحقاد الشخصية لصالح الفكرة الوطنية الجامعة .
في غيابه، بدت الدولة يتيمة، تتقاذفها نزعات الجهوية، وصراعات السلالة، وأوهام الغلبة، بلا عقل مركزي يردع، أو ضمير سياسي يُصلح .
فالرجل الذي كان يُوازن بين المتناقضات، ويُهدّئ الانفعالات، ويزرع في لحظات اليأس بذور الحل، لم يترك خلفه من يشبهه، ولا من يُكمل طريقه .
لقد رحل عبدالكريم الإرياني، لكن المأساة الحقيقية هي أن أحداً لم يملأ الفراغ الذي تركه، فراغ الحكمة، فراغ الدولة، فراغ الرؤية.
لهذا السبب بالذات، تتعالى اليوم الأصوات لا لاستذكار الإرياني كصورة في جدار الذاكرة، بل لاستحضاره كروحٍ تُلهم، وكحكمةٍ تُهتدى بها في زمن التيه .
فاليمن المنهك لا يحتاج إلى رموز محفوظة في الإطارات، بل إلى رجالٍ خلدتهم المواقف لا المناصب، وتركوا في الوجدان إرثًا من البصيرة لا يشيخ .
فاليمن التي ضاعت بوصلتها لا تحتاج إلى “ رجل قوي ” يمزقها أكثر، بل إلى “ رجل حكيم ” يرمّمها بصمت، ويُعيد ترتيب أولوياتها بعيداً عن الضجيج والاستعراض .
الإرياني كان الاثنَين معاً : قوة بلا عُنف، وحكمة بلا تكلّف. لم يحتج إلى شعارات رنّانة، ولا إلى صخب إعلامي، ولا إلى حملات دعائية لتثبيت اسمه .
كان حضوره يكفي، وكان منطقه يُغني عن كل المبالغات .
في زمنٍ كانت “ القوة ” تعني الصراخ، و” الحكمة ” تعني العجز، أعاد الإرياني تعريف المعادلة :
قوة الرؤية، لا السلاح. وحكمة الفعل، لا الكلام .
ولذلك، فإن استدعاء إسمه اليوم ليس حنيناً رومانسياً إلى ماضٍ فات، بل صرخة عقل في وجه الطيش الجماعي، ومحاولة للتمسّك بما تبقى من منطق في زمن إنقلبت فيه المعايير .
فربما لا يمكن إعادة الإرياني جسداً، لكن استعادته روحاً ونهجاً ومساراً هي أهم ما يمكن أن تفعله النخب السياسية والوطنية إن أرادت أن تُنقذ اليمن من وهم القوة وتعيده إلى حكمة الدولة .
لم يكن عبدالكريم الإرياني مجرد مسؤول تقلّب في المناصب، بل ضمير دولة حمل مشروعها في قلبه لا في حقيبته، ومثقف سياسي نادر جمع بين العلم والدهاء، بين الحنكة والهدوء، بين الإيمان العميق باليمن، والإدراك الواقعي لتعقيداته .
كان سياسياً لا يُشبه الساسة، ووطنياً لا يبحث عن مجد، بل عن معنى .
في حياته، كان الإرياني صوت العقل في زمن الانفعال، ورجل الممكنات النظيفة في وسط مساحات المستحيل العابقة بالدم والفساد .
وفي مماته، تحوّل إلى مرآة يرى فيها اليمنيون ما كان يجب أن يكون، وما يمكن أن يكون لو أن الكفاءة سبقت الولاء، ولو أن الفكرة غلبت الغنيمة .
لقد أثبتت سنوات التيه بعد رحيله أن الأوطان لا تنهار فقط حين تُغزَى من الخارج، بل حين تفقد رجال الدولة من طرازه ؛ الذين لا يسرقون الضوء، بل يشعلونه للآخرين، ولا يعتلون المنابر، بل يُقيمون الجسور .
نحتاج اليوم أن نقرأ الإرياني لا كفصلٍ من الماضي، بل كدليلٍ للمستقبل .
فالأوطان التي تُنجب عقلاء مثل عبدالكريم، لا يليق بها أن يحكمها الجهلة .
واليمن التي أنجبت هذا الرجل، لا تزال قادرة على النهوض، إذا ما استعاد الناس البوصلة التي كان هو يحملها :
الدولة، لا السلالة .
الوطن، لا الغنيمة .
العقل، لا الانفعال .
لقد رحل الإرياني، لكن الضمير الذي مثّله لا يزال ممكناً… إن أردنا .
الخلاصة : رجلٌ لا يُكرره الزمن
لقد كتب عبدالكريم الإرياني سيرة نادرة لرجل دولة من طراز لا تراه كثيراً في جغرافيتنا العربية المُثقلة بالتناقضات .
لم يعتلِ المنابر ليمارس الخداع، ولم يختبئ خلف السلطة لينهب، ولم يستخدم نفوذه ليصادر أحلام الناس أو يساوم على مستقبلهم .
بل وقف، حتى اللحظة الأخيرة، في صف الفكرة :
فكرة الدولة، والعدالة، والسيادة، باعتبارها ليست شعارات مستحيلة، بل مشاريع ممكنة تنتظر عقولاً نظيفة وقلوباً مؤمنة .
عبدالكريم الإرياني لم يكن مجرد توقيع على قرارات، ولا اسماً عابراً في سجل الحكومات، بل كان ضمير وطنٍ حيّ، يفكر بعقل استراتيجي، ويشعر بقلب إنساني، ويتحدث بلغة لا تغدر بالذاكرة ولا تخون المستقبل .
كان ينتمي إلى فئة نادرة من القادة الذين يزرعون الفكرة في زمن الحطام، ويؤمنون أن الوطن لا يُبنى بالهتاف، بل بالحكمة، والتراكم، والصدق مع الذات والناس .
ولذا، فإن رحيله لم يكن مجرد فقد سياسي، بل خسارة معيار… ومعيار الرجال لا يُورَّث بسهولة، ولا يُكرّره الزمن كثيراً .
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news