تختزل الفنانة أمل كعدل الفكرة الأعمق حول الفن بكلمات بسيطة وتلقائية. لا تترك لك شيئاً لتقوله ، أكثر مما لمسته بخفة أنيقة، وكأنها تلخص جوهر الفن وفكرته الرفيعة:
«لم أكن أبحث عن مجد، أو شهرة، أو ثروة، بل أن أُغَنِّي. ولولا حبي الشديد للغناء لم استطعت أن أكمل مسيرتي الفنية”.
هذا ما قالته في مقابلة صحفية قبل سنوات. وهكذا هو الفنان الكبير: الفن وحده هو الغاية.
بهذه العبارة، اختصرت فلسفة الفن كما فهمها كبار الفنانين والفلاسفة عبر العصور: الفن غاية في ذاته، لا وسيلة لشيء آخر.
لا يعيب الفنان ان يسعى إلى المجد والشهرة والثروة ، لكنها ان أصبحت غاية انتهى كعبد لها. ما تهتم به هو ما يحدد شخصيتك.
“النابض الأساسي” في شخصية أمل كعدل ، وما تهتم به وتراه حياتها، هو شغفها بالغناء. تريد أن تُغني.
كأنها ولدت لِكي تُغني. الغناء جزء طبيعي وعميق من تكوينها الشخصي وحياتها اليومية.
هكذا تحدثت بنت عدن الدافقة بالحب والإنتماء ، عن تعريفها وفهمها لما أمتلأت به وعاشت من أجله. تقولها ببساطة شديدة: «لم أكن أبحث عن مجد، أو شهرة، أو ثروة، بل أن أُغَنِّي».
كلماتها تستدعي صدى مقولة قرأتها ليوجين يونسكو:
«إذا لم يفهم المرء فائدة العديم الفائدة، وعدم فائدة المفيد، فلا يستطيع أن يفهم الفن».
وكأن أمل عاشت هذه الحقيقة بكل جوارحها؛ غناؤها كان اندفاع فطري للتعبير عن شيء تمتليء به الذات المحتفية بالوجود نفسه، لا طلباً لشيء خارجها.
ولدت وفي داخلها موهبة متحفزة للغناء، ظهرت باكرا في طفولتها ، وبداية تفتح وعيها بالحياة من حولها. موهبة نمت في شخصية جريئة ومتمردة ولديها ما يكفي من القوة للمضي بعيداً في اختياراتها.
في سن السابعة طلعت في تلفزيون عدن تقلد الفنان المرشدي في أغنيته ” دار الفلك دار “. وفي الابتدائية شاركت في حفل عيد الإستقلال وأنشدت ل ” الذئاب الحمر في أعلى الجبال.”
وفي الثانوية غنت في برنامج ” مواهب ” في اذاعة وتلفزيون عدن أغنية “أسألك بالحب يا فاتن جميل” أمام لجنة تحكيم تضم كبار الفنانين ، بينهم محمد سعد عبدالله والمرشدي ، ومنحوها المركز الاول ونالت صدى جماهيري واسع.
– الوقفة الأولى: بين سحر البدايات وبريق الاستقلال الفني
كانت الثقة تسكن نظراتها، وقوة الأداء تسبق صوتها. بدت كأميرة وبجانبها وصيفاتها.
وسط فرقة الإنشاد الوطنية، بلباسهن السماوي الأنيق، شاهدت الفنانة أمل كعدل لأول مرة من تلفزيون عدن.
أتذكر أنها أغنية ” يا من هواه أعزه وأذلني “
وقفتها تلك كانت نقطة انطلاق مهمة لموهبة غنائية غادرت الثانوية لتلتحق بمعهد الفنون، ووجدت نفسها موضع اهتمام كبار فناني عدن وملحنيها. بالأصح فرضت نفسها عليهم بموهبتها وقوة صوتها وأداءها الممتليء بالثقة.
في فرقة الأنشاد الوطنية صُقلت موهبتها وشاركت في حفلات ومهرجانات غنائية داخلية وخارجية وطافت البلدان العربية والأجنبية ، ومعها فناني اليمن الكبار حينها.
بجانبها وسط فرقة الإنشاد كانت تقف الفنانة ماجدة نبيه. تزوجت الفنان أحمد فتحي وأنتهى مشوارها في الزواج. انطفأ وهج الفن داخلها ، ليجد نفسه لاحقا في ابنتها بلقيس. لم يكن اختيار الفن أصيلا ومحسوماً كوحهة نهائية لحياتها.
امل كانت تملك شيئا مفقودا لدى كثير من بنات جيلها: روح المغامرة، والقدرة على الذهاب بعيداً في اختيارها.
خرجت من إطار الانشاد باكرا. وجدت سريعا مساحتها الفردية كمطربة مستقلة.
سمعتها وشاهدتها تغني أمام الجمهور : مرايا الشوق ، بلادي أحييك فلتسلمي ، يا النسيم المسافر ، أقسمت بالحب يا محبوب ، الحبايب غيروا طبعهم، وأغاني أخرى عاطفية ووطنية ، بنفس قوة الصوت والأداء والوقفة الواثقة وسط فرقة الإنشاد الوطنية.
هيئتها واقفة على المسرح تختزل كل مميزاتها كفنانة. قوة صوتها وموهبتها وشخصيتها الشغوفة بالغناء ؛ تتجلى كلها في فنانة يمتزج فيها الجمال والفن.
حيوية متدفقة بالحياة.
ذات عاشقة تضطرم داخلها قوة فطرية متحفزة للغناء والتحليق في رحابة عوالمه البهيجة.
كل قول أو فعل جميل تقوم به يرفع منسوب القوة والثقة داخلك.كذلك الفن والموسيقى. تقفز جملة كهذه في خاطري كلما شاهدت أمل كعدل واقفة تُغني والفرح يشع من عينيها ويلتمع من هيئتها وحركاتها والتفاتاتها ، لا فحسب من نغمات صوتها.
– من مرايا الشوق إلى بلادي أحييك فلتسلمي: تجلّيات الصوت الأصيل
هناك شيء خام في صوت أمل كعدل، دفق طبيعي لم يصقله دأب المجتهد عديم الموهبة بل صقلته التجربة والوهج الداخلي.
قوة الصوت عندها ليست فقط في ارتفاعه، بل في قدرته على الامتلاء.
حين تغني جملة مثل «أنا بعض ما في ثراك الطهور ومن ذا إلى الأرض لا ينتمي »، تشعر أن الكلمات تنبعث من قلبها وروحها ووجدانها وكل خلية في جسدها .
وهذا ما يجعل أدائها للأغاني الوطنية ممتلئا بإحساس صادق غير مفتعل ، كأن صوتها صدى للبلاد وناسها وتاريخها وأرضها وبرها وبحرها وجبالها.
صوت أمل كعدل قوي وعاطفي في آن. تصهل بحيوية خيل وتهمس بعذوبة عصفور. صوت يتجاوز التصنيف السطحي ، فهو يحمل طاقة وقوة تتجاوز التوقعات النمطية للصوت بناءاً على نوع الفنان ” رجل أو إمرأة “
في الأغنية الوطنية، يعلو صوتها مثل نداء جماعي أوبرالي، كما لو كانت تحكي بلسان أمة بأكملها. طبقاتها العالية تكون مشبعة بالاعتزاز، والنبرة مشدودة كوتر مشحون بالإصرار.
أما حين تدخل عوالم الغناء العاطفي، يصبح صوتها أكثر ليونة ودفئاً.
في أغنية “بلادي أحييك فلتسلمي”،تنطلق طبقاتها العالية دون توتر، تفتح الصوت بكامل طاقته، لكنها تحافظ على النبرة الصافية، دون أن يتحول الارتفاع إلى صراخ أو افتعال، وهو أمر يحتاج إلى حس دقيق وتحكم نادر.
ما يميز أداءها هنا هو إحساسها الداخلي باللحن. تصعد مع الكلمات وتروضها أحياناً، وكأنها تخلق اللحن من جديد أثناء غنائه.
حين وقفت امل كعدل على المسرح تؤدي هذه الأغنية مع الفرقة الموسيقية قبل ثلاث سنوات « أكتوبر 2022 » في حفل تكريمها من مؤسسة توكل كرمان ، كانت تحمل بين نبرات صوتها روح اليمن كلها.
وبين أداءها لأول مرة منتصف الثمانينات ،وأداؤها في هذا الحفل ، ظهر صوتها بنفس قوته وصفاءه ورنته المصقولة.
في داخلها قوة تبحث عن فضاء لتتجلى فيه. لم تخفت تلك الشعلة يوماً.رغم المرض والسن، ظلت أمل كعدل محتفظة بذات البريق؛ وقفت على المسرح ممتلئة بالثقة وبمزاج رائق ومبتهج بتصفيق الجمهور اليمني في مدينة أسطنبول التركية، وكأنها تؤديها لأول مرة في مطلع ثمانينات القرن الماضي في مدينة عدن.
شاهدتها في ” قناة بلقيس ” واقفة تغني. بدت وكأنها لم تغب يوماً عن المسرح؛ صوتها لا يزال طرياً، ندياً، مشعاً بالحياة كما في بداياته.
وقفت بكل كبرياء، لا تكسرها السنين ولا ينال منها الألم. كان شعورها دافقاً ووجهها مضيئاً وهي تتأمل جيلاً جديداً من اليمنيين يحتفي بها، يغني أغانيها، ويبادلها الامتنان والحُب.
توهجت شعلة الفن في روح أمل كعدل مرة أخرى في عيد رمضان الماضي قبل شهر ونيف ، في لقاء تلفزيوني في ” قناة الجمهورية “، سمعتها تغني “مرايا الشوق” ، في سن الخامسة والستين ، وكأنها لا تزال شابة تؤدي الأغنية في عدن قبل أربعة عقود من الزمن.
صوتها ما زال قوياً وصافياً ومصقولاً.
لا أحد بلغ سنها وبقي صوته بهذا الصفاء والتوهج.
فنانين كبار بأصوات متميزة ، بدا وكأن وهجهم انطفأ، أو أن الزمن أثقل أصواتهم حتى خفتت. تهالك نظامهم الطاقي وخمد باكراً. اسمعهم اليوم: بالكاد يلفظون الكلام، والتعب واضح عليهم.
فنانين شباب من جيل الألفية اصواتهم أصبحت اليوم مجهدة، وتفتقد ذلك الدفع الرباعي القوي والنهضة اللي يتوقعها المستمع من مطربين في سن الاندفاع والصعود.
في أغانيها العاطفية لا تحلق نغمة صوتها نحو الطبقات العالية باندفاع، بل تلتف برقة أنيقة حول الكلمات، تلامسها بعذوبة وتمنحها إحساس حميمي نابض بالحياة.
تعرف كيف تخفف من حدة طبقته العالية دون أن تفقد وهجها، وتسمح للمشاعر بالمرور عبر الحروف ببطء من يتأمل في منظر جميل.
هذا التحول بين الحالتين، يكشف عن ذكاء فني فطري لدى أمل كعدل: تعرف متى تحتاج القوة، ومتى تحتاج الهمس. تعرف أن الأغنية الوطنية تطلب المجد الجماعي، بينما الأغنية العاطفية تطلب حميمية الذات.
وفي الحالتين، يظل صوتها محتفظاً بميزته الأهم: قوته وصدقه الداخلي.
لا يبدو أداؤها تمثيلاً ولا استعراضاً، بل يجسد صوتها التجربة كما هي: صافية، حقيقية، بلا قناع.
أغنية “مرايا الشوق” علامة فارقة في بداية بروز أمل كعدل، إذ شكلت أول ظهور جماهيري لافت لها مطلع الثمانينات، وأسهمت في ترسيخ حضورها في المشهد الغنائي العدني، واليمني عموماً.
ظهرت في هذه الأغنية قدرتها على التدرج ، من الهدوء المتأمل إلى الانفعال الحزين.
كان ملحنها الفنان أحمد بن غودل قد اختار الفنانة ماجدة نبيه لتغنيها. لكن أداءها لم يرق له واختار بدلا عنها الفنانة امل كعدل.
وغنتها في احتفالات ثورة 26 سبتمبر في عدن عام 1982 ، وحققت نجاحاً كبيراً.وكانت اول اغنية اشتهرت بها.
اغنية “أقسمت بالحب يا محبوب” اغنيك اخرى من ألحان الفنان احمد بن غودل ، وهو بمثابة المعلم الذي رعى امل كعدل وقدم لها الألحان والأغاني الجديدة التي ساهمت في بروزها كفنانة لها أغانيها الخاصة.
النص الشعري لقصيدة ” أقسمت بالحب يا محبوب ” مكتوب على نمط الشعر الحميني : تعدد القوافي ، واستخدام مفردات عامية من الحياة اليومية ، تجاهل الحركات الإعرابية والتزام التسكين.
اداء امل كعدل أكثر حيوية في هذه الأغنية. العتاب ممتزج بنغمة تحدي بلكنة عدنية محببة ، تنتقل من نبرة العتاب إلى نبرة “الدلع ” ثم إلى القوة:
ذي جاب لي منكم مكتوب
يا ليته لا جا .. لا جا .. ولا جابَه
لأمل كعدل اغاني كثيرة عاطفية ووطنية ومتنوعة الألحان والألوان. منها ماهو خاص بها ، وأخرى كانت نتاج مشاركتها لفنانين اخرين في أداءها أو إعادتها لأغانيهم.
لم تلتزم بنمط واحد، بل أدت الأغنية اللحجية واالعدنية ، والأغنية الجديدة والتراثية ، وبرعت وأجادت الأغاني الوطنية، بنفس إجادتها للاغاني العاطفية. مما جعلها قريبة من جمهور أوسع.
إذا سألت عن أهم 7 أغاني من أغانيها الخاصة بها ، سأرد بأنها التالية :
بلادي أحييك فلتسلمي. مرايا الشوق أقسمت بالحب يا محبوب، ،مهما غبت عني ، طمنونا عن الحال ، الحبايب غيروا طبعهم ، حبيبي لا تعذبني
غنت لفنانين آخرين، وبمشاركتهم في اغانِ اخرى.
غنت مع أحمد قاسم” من كل قلبي احبك يا بلادي ” ، ومع المرشدي ” نشوان “. وغنت له ” با معك شلني ، ليه يا بوي. يا نجم يا سامر ، لقيت يا مه “، وللفنان محمد سعد ” محل ما يعجبك روح ” ، وغنت لأيوب طارش : حرام عليك ترمي الغزال يا رامي.
وللفنان عبدالباسط عبسي : ” يا مه أبي باعني ، انا قلبي ما يبتاع ، مسعود هجر ، مشتيش دنيا قافرة بلاحبب. “
تألقت أمل كعدل في أغاني عبد الباسط كأنها تغنيها لأول مرة ، ووسعت انتشارها، ليس فحسب لأنها مناسبة للصوت النسائي، وكُتِبت بلسان امرأة. بل لأنها أجادت غناءها.
– عدن… زمن الفن والحرية
في بداية حياتها الفنية، وجدت أمل كعدل نفسها في بيئة عدن المزدهرة، المدينة التي كانت تنبض بالحياة والفن، وتزهو بحرية إجتماعية وفنية نادرة في المنطقة ، والمواهب تتخلق في فضاء إبداعي مفتوح.
نشأت أمل كعدل في هذا المناخ ، وبرزت سريعاً بفضل موهبتها وشخصيتها الجريئة ، وإصرارها على الغناء كخيار حياة.
من المعهد العالي للفنون، إلى فرقة الإنشاد الوطنية، إلى المسارح المحلية والعربية، كانت تسير بخطى واثقة نحو ترسيخ اسمها في مشهد الغناء اليمني.
لنصغي إليها تتحدث عن الزمن الجميل :
” في عدن كان هناك فنانين محترفين ليسوا هواة، وكانت الحرية عالية، وكأننا في بلد أجنبي، مهرجانات واحتفالات داخل وخارج البلد، لدرجة أننا لم نكن نستطيع التقاط أنفاسنا؛ موسكو، مصر، الإمارات، الكويت، أوروبا..”
اليوم، ومع انهيار الدولة، وتمزق البلد ، وصعود ثقافة متشددة تُعادي الفن والغناء والمرأة، تصبح الكتابة الاحتفائية عن فنانينا ضرورة أخلاقية وثقافية.
لم تعد المسألة مجرد تقييم نقدي أو تحليل جمالي، بل أصبحت دفاعاً عن ذاكرة ثقافية مهددة بالضياع، وفضاء إنساني يتآكل وتضيق مساحته يوماً بعد الآخر .
فنانو اليمن، بما قدموه من أغانٍ ومشاعر وصور وجدانية، كانوا وما زالوا ذاكرتنا الزاهية التي تعيد تعريفنا بأنفسنا وإنتماءنا الإنساني ، وتوحدنا وسط هذا الشتات المريع .
الاحتفاء بهم، في هذا السياق، محاولة إنقاذ لذاكرتنا الثقافية، وإعادة إحياء لقيم الجمال والحرية والإنتماء في زمن فترة برزخية لا شيء يزدهر فيها سوى الكراهية والتشظيات.
ثم ماذا بعد ؟
“إذا فقد الانسان صراط الجمال، مرض.
إن ميزة الشفاء هذه هي قاعدة الفن كله.
ولولاها لكان الفن مجرد دغدغة وتضليل وخديعة.
بهذه الكلمات العميقة صور ألكسندر إليوت جوهر الفن ، الفن الذي يرأب الصدع بين الإنسان الواحد وبقية الخلق.
واغاني امل كعدل ، كانت على الدوام محاولة لرأب هذا الصدع بيننا وبين العالم، في بلد أنهكته الحروب ، ولم يبق له سوى ذاكرته الفنية ، وأصوات من غنوا للحب والجمال والإنتماء.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news