بقلم/فضل حنتوس
في التاريخ متاريس من وهج، ونوافذ من نار، ولحظات تصير فيها الأمم على مفترق وجود، إما أن تنهض إلى الشمس، أو تُسحق تحت رُكام العتمة، واليمن لم تعرف الحياة إلا حين التفّ أبناؤها على صعيدٍ واحد، لا صوت يعلو فيه على صوت الكرامة، يوم قرر الشعب أن الإمامة ليست قدراً، بل لعنة، وأن الكهنوت ليس إرثاً، بل عار، فهبت الثورة من جبال الشموخ ووديان العز، من صعدة حتى عدن، ومن تهامة حتى حضرموت، لا تسندها عواصم، ولا تزكيها سلالات، كانت تلك الثورة ناراً في خاصرة التاريخ، أطاحت بعمامة الوهم، وبعثرت صكوك الهيمنة، واسقطت عرشاً بُنِيَ على ظهر الجوعى، وحُرِسَ بفتاوى الظلام، لم تكن الجمهورية ميلاد نظام، بل انعتاق وطن من قيود القرون، و صفعة وعي، وسيف كلمة، وزلزالاً تكسرت على صخرته أوهام الطغيان، واليوم، بعد أكثر من نصف قرن، أعاد الحوثي بعث الإمامة من قبرها، كمنفذٍ لِعُقد الماضي، وفائضِ كراهيةٍ دفين، عاد من حيث سقطت الجذور، يرتدي عباءة الدين ويغتال الدولة باسم النسب، يختطف اليمن من رئتيها، يكمم فمها، ويطوق عنقها بسلسلة لا تكسرها إلا يدٌ واحدة، يد اليمنيين إذا ما تلاقوا على صراطٍ وطنيٍ مستقيم، عشر سنوات من الانقلاب كانت كأنها قرنٌ من الذل، جوعٌ يُرمِّل الأمهات، وليلٌ يُتيِّم الأطفال، وحصارٌ يخنق الأحلام، وتضييقٌ يُرهق الأرواح، حتى صار الشعب بين مطرقة الطغيان وسندان التخاذل، ولسنا بحاجة إلى شواهد، فكل بيتٍ في اليمن شاهد، وكل صرخة جائع دليل، وكل قبرٍ في اللحد توقيع على جريمة، لكن ما هو أخطر من كل ذلك أن نُمنّي أنفسنا أن يأتي الفرج من الخارج، وأن ننتظر من ينقذنا ونحن غرقى في مستنقع الخلاف.
إن المعركة مع هذا الكيان السلالي ليست معركة عسكرية فحسب، بل هي معركة وجودية، معركة ضد مشروعٍ يرى في كل حرّ خصماً، وفي كل جمهوري عدواً، معركة ضد جماعة تستمد شرعيتها من وعي غافل، وتتمدد في فراغ الاصطفاف، ولا سبيل لإجهاض مشروعها إلا بخلق جبهة وطنية تعلو فيها هوية الوطن على لوثة الحزبية، وتنتصر فيها راية الجمهورية على عبث الانقسامات، وإن لم نصطف اليوم فسنُؤكل فرادى، وإن بقينا أسرى الاصطفافات الضيقة سنُهزم دون طلقة، علينا أن ندرك أن الكهنوت لا يسقط بالنيات ولا بالشعارات، بل بتوحيد الإرادات، وأن لا الجنوب في مأمن من هذا المشروع ولا الشمال، فالمعركة ليست مناطقية بل مصيرية، ليست بين أطرافٍ سياسية بل بين اليمن والموت، ولذا فليكن الاصطفاف قرارًا لا خيارًا، ولتكن راية الوطن أولى من راية الحزب، ولتكن قوافل الكرامة أعلى من صدى الخلاف، ولن نستعيد الجمهورية إلا إذا آمنا أن الخارج لن يصنع لنا دولةً، وأن الغريب لا يبكي على وطنٍ باع أهله قضيته في مزاد المناكفات، وما الحوثي إلا وهمٌ تغذيه فرقتنا، وشبحٌ يتبدد عند أول صحوة، فليبكِ على وطنه من عرف طعمه، ولينهض من بين الركام من لم ينسَ تاريخه، ولتُكتب السطور بدماء العزم لا حبر الوهم، فإن الشعوب لا تموت إذا أرادت الحياة، ولا تُهزم إذا اتحدت، وكما أسقطت اليمن الإمامة بالأمس، فهي قادرة أن تُسقط أحفادها اليوم، فقط حين تعود إلى ذاتها، وتؤمن أن الجبهات التي لا تُبنى على الانتماء للوطن تنهار، وأن القضايا التي لا يحرسها وعي الناس تُغتال، فلتكن هذه اللحظة ميلاداً جديداً، ولتكن هذه الثورة وقفة عزٍ أخيرة، يعبر فيها اليمني جسر الصبر نحو الضوء، ويرفع صوته في وجه الطغيان قائلاً:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news