أحدهم أخبر رجل دين من منطقتنا أنني قاب قوسين أو أدنى من الإلحاد (والعياذ بالله) أتحدث عن سنة 1990، عندما زارني الرجل لينقذني من الضلال، لكنه وجدني أعامله بمحبة ودبلوماسية شديدة أظن أنني عُرفت بها حتى اليوم. وأمام تهذيبي وترحيبي الزائد به، تجاهل الرجل الهدف الذي جاء لأجله، وافترض أن ما بلغه عني كانت مجرد وشاية أو سوء فهم لا يستدعي الشروع في استتابتي.
ولأنني لا أحب الصدام، وخصوصاً مع من يعتبر نفسه وكيلاً من وكلاء الله المكلفين بالحفاظ على “بيضة” الدين، سايرته وخرجنا معاً ندور على متن سيارته المتواضعة، وفي الطريق راح يشكو لي انتشار كتيبات من أدبيات المذهب الجعفري أخذت طريقها بسلاسة إلى أوساط شباب الزيدية في صنعاء، وعندما مررنا بأحد الأحياء المجاورة للمستشفى العسكري ارتفع صوت الرجل كما لو أنه جهاز كشف المعادن، فأعاد الحديث بحسرة عن انسلاخ بعض الشباب عن زيديتهم وتحمسهم للإثناعشرية، وأوضح بأسى أن أحد مساجد ذلك الحي يضم مجموعة من حلقات الشباب (المتجعفرين) وقال إن مصدر الكتيبات سفارة إيران التي نشطت آنذاك وراحت تستقبل من يطرق أبوابها وتضخ المطبوعات والمنشورات والمنح الدراسية بسخاء.
قال لي أيضاً بغضب مخلوط بالحيرة إن كتب المصري محمد الغزالي أحق بالقراءة من كتب الجعفرية، فعجبت لانفتاحه وهو الزيدي المعتق على كتب عالم دين سني شهير يتداول كتبه الإخوان. وبعد فترة عرفت السر وسيتضح لي لاحقاً أن أسماء معروفة أسست صحيفة الأمة الناطقة باسم حزب الحق (مرجعية زيدية) كانوا ينشطون في جريدة الصحوة التي يصدرها تنظيم الإخوان في اليمن!
في الحقيقة كان بودي أن أكتب أو أن أتحدث بتوسع وتفصيل حول الزيدية في عام 1990 وما مرت به من الارتباك والرفض الخجول وصولاً إلى الاستسلام التدريجي والقبول بتثوير وتسليح السفارة للمذهب!
تلك كانت الفترة التأسيسية التي نمت فيها بذور سفارة طهران، ثم تحول كل من عارضوا (الجعفرة) التي استهدفت الزيدية إلى قادة وناطقين مبررين لذلك التحول ومستفيدين منه بشكل مباشر، ذلك أن الشخص نفسه الذي أخبرني أن كتب الإمام محمد الغزالي أحق بالقراءة من كتب السفارة الإيرانية أصبح في منصب كبير ضمن مناصب ما تعرف بحكومة صنعاء. والطريف أنه أعطاني كتاب الغزالي الشهير “هذا ديننا” وكان بالنسبة لي عملا لا عمق فيه مقارنة ببعض الترجمات التي كنت أطالعها آنذاك.
من الواضح أن مياه كثيرة جرت في “سايلة” صنعاء وتحت جسورها، بدليل أن بعض مساجدها استبدلت الصلوات البريئة للمؤمنين المشغولين بالسعي وراء طلب الرزق بالصرخات المسلحة والبطالة وقلة العقل والإنتاج معا.
وأعتقد أن ذلك الشخص الذي زارني لهدايتي من شبهة الإلحاد قد جدد مكتبته الشخصية بالكامل وسمح للكتيبات التي كانت تسبب له الغضب بالتسلل إلى رفوفها، وإن كنت أشك في أنه ما يزال يقرأ بعد أن تولى منصبه السياسي الذي يتطلب منه التفرغ وإثبات الولاء للجماعة على مدار 24 ساعة.
المصادفات والعلاقات الاجتماعية وحدها قادتني منذ مايو 1990 إلى عامين أو أكثر بعده لمعايشة ذلك السباق المحموم على استنهاض وإحياء تسييس الزيدية. كان نشاط التسييس حسب متابعتي يتحرك على مسارات متعددة، بعضها حاولت الإبقاء على المذهب في الجوامع وفي رؤوس صفوة العلماء بوصفه أقرب ما يكون إلى الهوية الاجتماعية التي لا تنقصها واجهة سياسية، في ظل وجود حزب المؤتمر الحاكم الذي استوعب كافة الباحثين عن المصلحة والحضور والتمثيل. إلا أن الضغط والإغراء الذي تحقق بعد الوحدة بفعل اقترانها بإقرار التعددية الحزبية شجع على إطلاق واجهات حزبية تمثل الزيدية مقابل الصوت العالي لتيار الإخوان والسلفيين والوهابيين ممثلاً بتجمع الإصلاح.
كانت التقية السياسية لسان حال كبار السن العقلاء من علماء الزيدية الذين قاوموا تطلع الآخرين من داخل المذهب واستشعروا خطورة تنشيطه سياسياً، وهؤلاء كانت ذاكرتهم طرية ويعرفون لماذا اندلعت ثورة 26 سبتمبر سنة 1962 وأن الانحناء لعاصفتها والعيش في ظلها فيه خير أكثر وأجدى من الطمع والسعي وراء المجهول. وفي أحسن الأحوال قبلوا بعد ذلك على مضض بنشاط سياسي محدود لا يتعدى الحضور في المشهد من بوابة ثلاثة أطر تنظيمية معلنة هي حزب الحق وحزب اتحاد القوى الشعبية والمسميات التي كان يطلقها ويمولها إبراهيم بن محمد الوزير صاحب صحيفة البلاغ، إلى جانب مؤسسات ومكتبات وأنشطة كانت تقودها بعض الجهود الفردية المدعومة، بما فيها إصدار وتحقيق الكتب وصولا إلى تقليد الإخوان في توفير مكتبات صوتية وتسجيلات على أشرطة كاسيت، وتطور الحال إلى إحياء بعض المناسبات الدينية التي ارتبطت بالزيدية في احتفالات مركزية، وكان للحضور الطاغي لخطباء حزب الإصلاح والسلفيين في بعض مساجد صنعاء رد فعل مواز يتجلى في ازدهار أنشطة توعوية ومحاضرات ودروس في مساجد زيدية لم تكن تعهد تنظيم مثل تلك الأنشطة من قبل.
بعد ذلك تعملق توجه تسييس الزيدية الجديدة التي امتزجت بنكهة إثناعشرية، وتعاظمت جهود إحياء نزعتها الطائفية إلى أن بلغت مرحلة الانتقال من التسييس في صنعاء إلى التسليح في صعدة وبدء مشروع التمكين الذي يعتقدون أنه مسنود من المولى مباشرة.
لم أستكمل كل ما لدي مما تختزنه الذاكرة، لان المقام هنا لا يسمح بالإطالة أكثر مما أطلت بالفعل. وبقي أن أختم بالإشارة إلى أن اقتران وحدة مايو 90 بالتعددية الحزبية رافقته خطيئة عدم تجريم إنشاء أحزاب أو منظمات على أسس مذهبية أو جهوية أو دينية في المجمل، ذلك أن الحزب السياسي معني في الأصل بالمجتمع المتعدد والمتنوع وليس بالمذهب أو الطائفة أو القبيلة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news