سؤال فرض نفسه وجهًا لوجه أمام المساحة المقارنة التي اشهدها مفتوحة على كل جهات هذا النكب المدعو رهشه، بهذه الإتساعات، وضيق قرى (حباجر والنجد والحساول وسرى)، التي انتقل إليها الأباء والأجداد.
كان آخر من غادر هذا المكان، هو نعمان سعيد مرشد. وهو الآن لديه عدد من الأحفاد، ومن سبقه في الخروج منها، ربما يكون لديه جيلا ثالثًا من الأحفاد.
تلك هي أسباب التساؤل ومسوغاته.
البداية:
فلنبدأ الرحلة من نقطة الإنطلاق، النجد، مايزال تجنبنا للطريق غير المسلوك على عاداته وكأن طرق السياحة في الذاكرة، توجب علينا ان نسلك هذا الطريق المغاير.
مع أولى الخطوات صعودًا أوكلنا مهمة التصوير إلى عبدالرحمن عبدالله غانم، الشاب الذي سقط اسمه سهوًا من التوثيق في أولى طرقنا السياحية (يهو، الجبيلين النكب).
حدقت فينا الطريق، أستذكرت ملامحنا قائلة: “ثمة بعض الوجوه الني لم أرها من قبل” وكانت تقصد الوجوه الصغيرة التي رافقتنا.
صعودًا بها، بدأت الطريق تستذكر ذاكرتها بأقوال بعض أعضاء الفريق التي يرونها بأدق التفاصيل وأدقها، تفاصيل رعي الأغنام، وكأن الأعشاب ماتزال خضراء في افواهها (الأغنام)، فهذا تعود به ذاكرة الجري وراء أغنامه التي تسبقه في العودة إلى البيت، وهذايتآلف مع اغنامه تآلفها بالمكان.
ثمة حواجز أو بالأصح خط طولي (حدودي) يقسم النكب كاملًا من أكثر من جهة حسب مساقط المياه، إذ أن كل مسقط يتبع مالك الارض التي تسقي منه وتسمى (مسافح).
الكريف ذاكرة الماء الحيوان:
من هنا تبدأ القرية تسرد ذكرياتها من الكريف وهو خزان مفتوح (حفرة كبيرة) تتجمع فيه مياه الأمطار، لسقاية الأبقار والثيران والأغنام، فلتصغ قليلًا لمدى تلك الأصوات المتداخلة ثغاء وخوار ونهيقا إلى آخره.
ولتعد البصر كرتين لتر الأخضرار والجمال ونشوة الرعيان بما يرعون، وقد ترى الآن هناك على بعد مرمى من الخطوات شجارًا ما قد ينشب بين الرعيان، أو نطاحًا ما بين الأبقار، أو مقارعة بين تيسين (كبشيين).
تلك أيام خلت عن أيامي هذه التي تشهدونها، وها هي الأيام قد كدست الأتربة في جوفي، حتى مياه الأمطار لم تعدني إلا لمامًا من ايام الموسم.
انظر ماذا ترى في هذي المساحة الممتدة بيني وبين تلك المساكن التي كانت تتوقد ألفة وأمانًا؟.
ستتلكأ في اجابتك، لأنك لا ترى سوى اشجار الحصم، التي يصعب المرور خلالها، يتهيأ لك أنك تسمع صوتًا يقول لك “إنه ثمن الجفاء والتباعد لاغير”
فلتواصل إذن سياحتك التي قد تجد فيها شيئًا ما غير ما كنت تجده سابقًا.
المعيان ذاكرة الجرة والأتناك:
عين الماء التي كانت تغذي القرية بكاملها، ها هي وقد أضر بها الهجر، وحاصرت طرقاتها أشجار ( الشهس)، تشكو الحال وسوء المآل بعين سكن فيها الماء وسكنت على سطحه الأوراق.
إنها ذاكرة الجرار التي كانت تستخدم (للسؤيب) جلب وحفظ الماء، مرورًا بذاكرة الأتناك ثم (الدباب) الزنك، وحتى هذه (الدباب) أواني الماء البلاستيكية بأحجامها المتنوعة أشكالا وألوانًا.
بعيني هذي مرت عيون كثيرة ذبلت وشاخت واغمضت جفن حياتها، وبعضها ماتزال شاهدة زهوي وألقي وتنهدات ذكرياتي.
لا أدري تستطرد عين المعيان قولها.. لا أدري لماذا سيظل هذا التراب والطين والأوراق الساكنة تحجب الرؤى عن عيني. هكذا صدعت بذاكرتي هذه الذكرى لزيارة قديمة قبل أعوام.
القرية الكانترهشه:
بعد الكريف، والإطلالة على المعيان، إجتزنا أشجار الحصم المتشابكة صعودًا إلى حيث كانت القرية مؤتلفة آمنة و منيرة بصبولها ودورها المتواضعة والمؤتلفة اجتماعيًا، مداميك بعض الجدران ماتزال قائمة حيث هي، عرشت الأشجار فوق بعض منها، تخطينا هذه الجدران في اتجاه الجنوب،
على يميننا كانت شجرة الإثآب تتربع عرش شيخوخة مكانها، وكانت لهذه الشجرة وظائف شتى مثلها مثل أشجار القرى، حيث تعقد تحتها اجتماعات فض النزاعات، والمقيل وغيرها.
فجأة تقفز إلى مسامعي زغاريد أول وآخر وليمة حضرتها في هذه القرية قبل أربعة عقود.
إنه الحنين المشترك بين ذكريات القرى وشواهد اطلالها، وبيننا وبينها، وها أنذا اتخيل القرية تشتاق الى حفيد ما يعيد إليها حنينها الماضي لآتي الحياة.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news