٢- الأمثال الشعبية في حضرموت
مسعود عمشوش
يؤكد كثير من الكتاب والأدباء الحضارم أنهم جمعوا كثيرا من الأمثال المستخدمة في مدنهم أو قراهم، لكنهم لم يتمكنوا من نشرها لهذا السبب أو ذاك. كما اهتمّ بعض الباحثين الحضارم بتوثيق الأمثال الحضرمية ودراستها. ويأتي في مقدمة من بادر إلى الكتابة عن الأمثال: الأديب المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف الذي انتهى سنة ١٩٦٧ من وضع كتاب مهم بعنوان (معجم الأمثال والاصطلاحات العامية المتداولة في حضرموت)، ضمنه دراسة قارن فيها بين الأمثال في عدد من الأقطار العربية، ووثق لكثير من الكلمات والتعابير العامية المستخدمة في اللهجة الحضرمية. وخلال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي نشر بامطرف أجزاء منقحة من الكتاب في شكل دراسات في بعض المجلات المحلية. لكن الكتاب لم يصدر بشكل كامل إلا سنة ٢٠٠٨ عن دار حضرموت للطباعة والنشر، وذلك بعد بعد عشرين عاما من وفاته سنة ١٩٨٨.
وفي الواقع للكتاب أبعاد متعددة؛ فهو إضافة إلى توثيقه لعدد كبير من الأمثال والتعابير الدارجة في حضرموت، يتضمن دراسة لغوية واجتماعية وأدبية واسعة يصعب العثور على شبيه بين الدراسات القليلة التي كرست للأمثال واللهجة الحضرمية.
وقد كتب بامطرف في مقدمة كتابه: "علمت وأنا أعد العدّة لتأليف هذا الكتاب، وكان ذلك في شهر يونيو عام ١٩٦٦، أن بعض الأدباء الحضارم وعلى رأسهم الأستاذ محمد بن هاشم بن طاهر، وكانوا حينئذ مهاجرين في أندونيسيا في الثلاثينيات من القرن الميلادي الجاري؛ قد جمعوا بعض الأمثال والاصطلاحات العامية المتداولة في حضرموت ونشروها في كتاب مطبوع. ولم يسعدني الحظ بالإطلاع على تلك المجموعة رغم إتصالات مضنية أجريتها مع أصدقاء في حضرموت وأندونيسيا. ولقد ساعدني الأخ جعفر بن محمد السقاف مشكورا في البحث عن تلك المجموعة. ولكنه بكل ما كان لديه من اهتمام وحماس عاد مثلي بخفي حنين من بحثه. واعترافاً مني بفضل الرواد الكرام في مجال حفظ جانب من التراث، فإن كتابي هذا لا ينبغي أن يُعد أول محاولة من نوعها لجمع الأمثال والاصطلاحات العاميّة المتداولة في الجهة الحضرمية، وهو كتاب على كل حال لن يكون المحاولة الأولى في مجاله كما اعتقد. وأبادر بالقول إن الأمثال والاصطلاحات العامية التي يشتمل عليها هذا الكتاب ليست كل الأمثال والاصطلاحات المتداولة عندنا بحضرموت: ولكنها تمثل العدد الأكبر من المشهورات منها. وقد بوبت الأمثال والاصطلاحات طبقاً لترتيب حروف الهجاء ليسهل الرجوع إليها. وعند الترتيب اكتفيت فقط بالاهتمام بالحرف الأول الواقع في بداية الكلمة الأولى المتصدرة للمثل أو للاصطلاح. وأهملت أداة التعريف المتصدرة لبعض الكلمات المتصدرة للمثل أو للاصطلاح وجعلت ترتيب الكلمة على الحرف الأول فيها، وإذا بحث القارئ عن المثل اللقب يطرد الاسم فإنه سيجده في حرف اللام".
ويقارن بامطرف في كتابه بين الأمثال الحضرمية والأمثال المناظرة لها في الأقطار العربية الأخرى. ويؤكد أنه لم يترر في تضمين معجمه تلك الأمثال التي يمكن أن تخدش حياء القارئ؛ وقد كتب في المقدمة: "وبما أن الأمثال والاصطلاحات تعكس بصورة صادقة مناهج التفكير لدى قطاعات معينة في اليمن فإنني أوردت في كتابي هذا بعض الأمثال والاصطلاحات السوقية أو الشوارعية التي يتظاهر المتزمتون باستبشاع الإتيان بها نزولا عند حكم الحياء المصطنع والوقار المزيف, وإنني لعلى يقين أنهم يستعملونها في مجالسهم الخاصة في طلاقة واستمراء. وعلى العموم فإن هذه الأمثال والاصطلاحات السوقية جزء من تراثا الذي لا مهرب لنا منه، وهي في قلتها تستعمل أحيانا تعبيراً عن أغراض ومقاصد بعيدة كل البعد عن الكلمات التي صيغت بها وذلك على أساس القول الشعبي: إن وراء الكلام كلاما".
ويكرس بامطرف جزءا من الكتاب لسرد الحكايات التي نشأت عنها الأمثال ويعلل ذلك قائلا: وبما أن غرضنا من إيراد بعض الحكايات لدى تفسيرنا بعض الأمثال هو التدليل على وجود بواعث للأمثال المضروبة: فإن الحكايات القليلة التي نبعت منها الأمثال، والتي استطعنا تلقيها من أفواه العامة» ربما أغنتنا عن ذكر الكثير منها لأغراض هذا الكتاب.. هذا مع العلم أننا لا نقلل من أهمية تقصّي حكايات الأمثال جميعها كجانب مهم من التراث الشعبي". ومثالا على ذلك يشرح لنا المثل (٤٧ - إذا سلم العود كله يعود) على النحو الآتي: "العود: النخلة... أي إذا ما فاتك خريف نخلتك في هذه السنة، فإنك سوف تناله إذا طالت الأعمار إلى العام القادم وبقيت نخلتك سليمة. ولهذا المثل حكاية يرويها العوام وهي أن لصوصاً سطوا على نخيل لشخص وقطعوا ما كان عليها من ثمر وفروا هاربين بالثمر. وعندما شعر صاحب المال بما حدث حاول الخروج لمطاردتهم واسترجاع ماله المنهوب. فاستوقفته زوجته قائلة له "إذا سلم العود كله يعود"، أي أنه ليس هناك ما يتوجب مخاطرتك بنفسك وحيداً خلف قوم ربما استداروا فتغلبوا عليك فقتلوك".
وفي سنة ٢٠١٤ أصدرت مكتبة تريم الحديثة الطبعة الثانية من كتاب (400 مثل من حضرموت) للأستاذ حسن أحمد بن طالب العامري التي قام بجمعها وشرحها في 560 صفحة من الحجم الكبير. ويأتي هذا الإصدار بعد نفاد نسخ الطبعة الأولى من الكتاب: (200 مثل من حضرموت)، الذي ظهر سنة 2000. واعتمد بن طالب في هذه الطبعة الجديدة على شرح المفردات العامية مبينّا الحالة أو المناسبة التي يضرب المثل فيها، ورتبه حسب الأحرف الهجائية مستبعدا (الـ) التعريفية من ترتيبها فيه على اعتبار أنها ليست جزءا من الكلمة.
وذكر الأستاذ حسن العامري في مقدمة كتابه، أنه أعتمد في التجميع على ما جادت به ألسن العامّة من كبار السن والمهتمين من أصدقائه الذين رفدوه بما يحفظونه من أمثال وحكم متعددة بمختلف لهجات مناطق حضرموت.
وفي سنة ٢٠٢٠ أصدر مركز حضرموت للدراسات والبحوث والنشر كتاب الفقيد محمد عوض محروس (سياحة مع الأمثال الحضرمية)، الذي يقع في 389 صفحة. وقبل عام واحد نشرت المعلمة شفيقة مزود كتابها (الأمثال والتعابير الحضرمية)، الذي سلكت فيه نهج عبد القادر بامطرف مع التركيز على الأمثال والتعابير المرتبطة بحياة المراة الحضرمية.
ومن خلال قراءتنا لتلك الكتابات، نلاحظ أن معظم الباحثين الحضارم يميلون إلى مقارنة الأمثال في حضرموت بالأمثال العربية القديمة التي صيغت باللغة الفصحى، (أي إحدى لهجات العربية الشمالية التي كانت متداولة في الحجاز عند القرن الخامس للميلاد)، وبالمقابل يهملون مقارنتها بالأمثال المتداولة في عصرهم في المناطق المجاورة لهم.
وإذا كان باستطاعتنا اليوم العثور على عدد لا بأس به من الدراسات التي تناولت علاقة الأمثال المتداولة بالأمثال العربية القديمة، فنحن لم نلمس -بالمقابل- حماسا لمقارنة الأمثال الشعبية في منطقة ما أو قطر ما، بما يقابلها في المناطق العربية الأخرى، أو في اللهجات المحلية أو العربية الأخرى، وسنحاول القيام بذلك في الجزء الثالث من هذه الورقة: (النخلة في الأمثال الأحسائية والحضرمية).
يتبع..
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news