عدن توداي
كتب/ محمد المسيحي
في قلب مدينة عدن، حيث تتراكم الأزمات كطبقات من الغبار على وجه الحياة اليومية، تتجلى مشاهد قاسية تنطق بالبؤس وتصرخ بالمعاناة، مشاهد تُعيد إلى الأذهان صورة شعبٍ يقف في صفوف الانتظار، لا لأجل رفاهية أو ترف، بل من أجل أبسط حقوقه، من أجل “دبة غاز”.
مقالات ذات صلة
طاب صباحك المناضل احمد تركي . افضل محافظي المحافظات المحررة
اللواء عبدالحكيم موسى .. مشوار حافل بالعطاء والنزاهة والأخلاق
بينما كنت أسير في الطريق العام المؤدي إلى الشيخ عثمان، استوقفتني مشاهد لم يعد غريبًا أن تراها، لكنها رغم اعتيادها، لا تزال تثير في النفس حسرةً وأسى، طابور طويل، لا بداية له ولا نهاية، أكثر من مئة باص، وعشرات الشباب والشيوخ، كل منهم متيقظ، عينه على أسطوانته، حذرًا من أن تُسرق وسط زحام الانتظار الخانق.
لكن ما شدني أكثر، كان رجلًا مسنًا، ألقى بجسده المنهك فوق أسطوانة الغاز، وقد أسند رأسه إلى كفه، مستسلمًا لنومٍ ثقيل، وكأن السنين التي مرّت عليه لم تكن كافية لإرهاقه كما فعل به هذا الطابور الطويل ؛كان المشهد مؤلمًا، رجلٌ في سنه كان من الأجدر أن يرتاح بين أبنائه وأحفاده، لا أن يُصارع من أجل حقه في الحصول على شيء بسيط، لا غنى عنه في أي منزل.
تمر الدقائق، ثم الساعات، والجموع ما زالت تنتظر، تتناقل الأخبار فيما بينها، تتسلى بالحديث عن الأوضاع، تمني النفس بأن الفرج قريب، لكن تأتي الصدمة مدوية، حين يخرج صاحب المحطة ليعلن بصوتٍ بارد: “الغاز خَلَص!”.
تنتشر الصدمة كالنار في الهشيم، تتعالى أصوات الغضب، البعض يصرخ مستنكرًا، وآخرون يرمقون أسطواناتهم الفارغة بحسرة، وكأنهم فقدوا معركةً لم يكن لهم خيارٌ في خوضها، رجل يقف هناك، متكئًا على جدار، يضرب كفًا بكف، يتمتم بعبارات غاضبة، ثم يلتفت إلى صديقه قائلاً: “منذ المغرب ونحن هنا، والآن يخبروننا أن الغاز غير متوفر؟ أي قهر هذا!”.
لكن القصة لم تنتهِ بعد، فهناك في أحد زوايا المشهد، أبٌ يجرّ أسطوانته عائدًا إلى منزله، بخطوات ثقيلة، لا يحمل معه سوى الخيبة، يدق باب بيته، يفتح أطفاله الباب، وجوههم تضيء بالفرح، فقد ظنوا أن والدهم عاد حاملًا “دبة الغاز”، لكن الفرحة ما تلبث أن تتلاشى حين يقول لهم بصوت مخنوق: “لما وصلت للمحطة قالوا لنا الغاز خَلَص!”.
أي مشهد أقسى من هذا؟! أي إحساس أشد إيلامًا من أن يعود الأب إلى بيته خالي الوفاض، فيما زوجته وأطفاله ينتظرون ما يسد رمقهم؟ أي مرارة أشد من أن يصبح المواطن في وطنه متسولًا لحقوقه الأساسية؟
في هذه اللحظات، لا يمكن إلا أن نتساءل: أين القائمون على هذا البلد من هذه المعاناة؟ متى يستيقظ المسؤولون من سباتهم؟ إلى متى سيظل المواطن البسيط هو الضحية الدائمة للفساد وسوء الإدارة؟ في مدينة كعدن، حيث كان يجب أن تكون الحياة أكثر كرامة، بات الحصول على أبسط الحقوق معركة يومية، يخوضها المواطن بمرارة، ولا يدري متى ستنتهي فصولها القاسية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news