اشتهر الشاعر اليمني عبدالله القاضي، الذي توفى يوم الإثنين الماضي، بتشرده وسكنه في بيوت الفقراء والمقابر أكثر مما اشتهر بسبب قصائده التي جمعت قبل 25 سنة وصدرت في ديوان يحمل عنوان “ندى العشب الجاف”.
ما إن ذاع خبر وفاته حتى ضجت الساحة الثقافية اليمنية بذكراه، وبادر كثيرون إلى إعادة نشر بعض نصوصه التي كان تنكر لها، أو بالأصح لم يحتف بها كما عمل في فترة شبابه حين كان يلقي قصائده وينشرها في المنابر الأدبية. كان عبدالله القاضي يذهب للسهر أو لزيارة أصدقائه ويضع بعض أشيائه عندهم ولا يعود لأخذها ومنها قصائده. قبل خمس عشرة سنة، أردت ترتيب مكتبتي استعدادا للانتقال إلى سكن جديد، فوجدت بين الصناديق كيسا لعبدالله القاضي لا أعرف متى تركه هناك. فتحته وإذا به يحتوي قصيدته الأخيرة “كمين” مكتوبة بخط يده وبنسخ متعددة مع قصائد أخرى للشاعر عبد الحكيم الفقيه، إلى جانب جوازي سفر قديمين باسمه، الأول يحتوي على تأشيرتي ذهاب وعودة إلى بغداد، حيث ذهب في منتصف الثمانينات للدراسات العليا في جامعة بغداد لكنه سرعان ما عاد، أما الثاني فيحمل تأشيرة سفره إلى دوشنبه، عاصمة طاجيكستان، حيث ذهب هناك لتدريس اللغة العربية وعاد بعد أشهر.
في الجوازين، بالتأكيد، معلومات عن تاريخ ميلاده، وهو ما لم نعد نعرفه الآن وليس من الممكن الوصول إلى المكتبة التي نقلت إلى أكثر من مكان بسبب الحرب في اليمن. على كل حال، يخمن أن يكون عبدالله أحمد سعيد القاضي الحمادي، وهذا اسمه الكامل، ولد في نهاية خمسينات القرن الماضي.
غنائية إنشادية
في فترة الثمانينات كان عبدالله القاضي يملأ الجلسات الأدبية صخبا بنقاشاته ونصوصه المتميزة بغنائيتها وصورها الشعرية المبتكرة، حتى إنه كان يختار للمشاركة في فعاليات ثقافية يمنية في الدول العربية. وكان الشعراء الشباب يتحلقون حوله ليراجع لهم نصوصهم سواء في تعز أو صنعاء. وإذ بقي ينشر قصائده في المجلات الثقافية في اليمن، فإنه لم يعد يعنى بالنشر أو الكتابة، بعد أن نشرت قصيدته الأخيرة “كمين”، التي بدا أنه كتبها على منوال قول مكبث في مسرحية شكسبير:
“غدا وغدا وغدا،
وكل غد يزحف بهذه الخطى الحقيرة يوما اثر يوم
حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب”.
وجاء في قصيدة عبدالله قاضي:
“غدا وغدا وغدا
كم من الوقت مر
وانت تقول:
غدا وغدا وغدا
كم من غد مر وانطفأت شمسه
كم غد صار أمسا
وانت تقول
غدا وغدا وغدا
وبين غد ذاهب
وغد آيب
تظل تعد الكمائن
تجدل من خيط وهمك وعدا
ومن خيط حلمك وعدا
وقد وهن العظم
واشتعل الرأس
والوحش محتفل
والرياح سموم
وما زلت تلقي بأوراق عمرك للريح
تحملها عنك وهي تنوح:
غدا وغدا وغدا”.
وهذا النص يمضي على منوال كل نصوصه المفعمة بالغنائية وكأنها امتداد لنشيد الإنشاد:
“أسأل عنك كالمجنون نجم الليل والطرقات
وهذي الريح والغرباء والأشجار
وأرجو كلما رف النسيم أراك تقبل طالعا فيه
فيا نجم السماء ويا مدى يا ريح يا طرقات ويا غرباء يا أشجار
قدن خطاي صوب طلعته
وقدن خطاي صوب تشردي المجنون في الأسحار
صوب حنيني الجبار
وصوب نداء هذا القلب”.
وفي نص آخر نقرأ:
“يا طير الألفة
يا قمر الفرح الأزرق
يا نجمي المتواري خلف غيوم الفرقة والهجر
بالله تعال
فأنا وحدي
في الليل وفي الريح وفي الأنواء
منفيا في خبت الكلمات
وغريبا تنكرني الأوجه والساحات
وتهرب من وقع خطاي الطرقات”.
غير مكترث
قبل أن ينكفئ على نفسه ويذهب إلى تعز بعيدا عن العاصمة صنعاء وصخبها، عرف عن عبدالله القاضي أسلوب حياته غير الملتزم بالأسرة والمجتمع، إذ لم يتزوج ورفض أي ارتباط عائلي، وعندما انتقل إلى مركز الدراسات والبحوث اليمني، الذي كان يرأسه الشاعر عبد العزيز المقالح، استمر يستلم راتبه دون أن يكون ملزما الحضور الوظيفي، شأنه شأن كثيرين من أدباء اليمن. حتى إنه حين انتقل للعيش في تعز كان يأتي إلى صنعاء لاستلام راتبه ثم يعود في اليوم نفسه. حين قرر صديقه الشاعر عبد الوهاب المقالح جمع قصائده ونشرها في ديوان وحيد كان عبدالله القاضي انسلخ تماما عن الحياة الثقافية. وكان أصدقاؤه، إذا أرادوا رؤيته، عليهم أن يذهبوا إلى غرفة مكدسة بالأوراق التي يلتقطها القاضي من الشارع ويهتم بقراءتها والاحتفاظ بها.
ليس من السهل القول إنه ذهب إلى حال من التصوف أو الزهد بالمعنى التقليدي، فتصوف عبدالله القاضي كان من نوع مختلف. ربما يمكن القول إنه جمع بين مختلف الثقافات الروحانية الشرقية مع لمسة وجودية عبثية بدا معها غير مكترث بأي شيء. كما أنه كان يستلم راتبه، قبل أن ينقطع مثل غيره من اليمنيين، ويغطي فيه احتياجاته اليومية، التي لم تكن كبيرة خاصة وقد صار يهمل ملابسه ومظهره وأمكنة عيشه.
الشعر والموت
في عام 2014 أجرى الصحافي والكاتب علي سالم المعبقي حوارا نادرا في صحيفة “الحياة” مع عبدالله القاضي الذي كان هجر الشعر. ومما قاله عن صلته بالشعر:
“ليست لي صلة بأي شيء. لا بالشعر ولا بغيره. صلتي الوحيدة بالموت. إنه الصديق الوحيد الذي أحاوره دائما. الشعر كان الوجه الآخر للموت. وقد تقابلنا الآن وجها لوجه. لقد توافقت مع الموت أكثر مما أتوافق مع الشعر”. وحين يقول له إنه شاعر معروف يرد: “ربما كان مجيئنا إلى الشعر مجرد خطأ محض. لقد جئنا الشعر من دون اختيار أو إرادة. الشاعر الذي تعدوني إياه لا أعرفه. بل أنا أبحث عنه”.
أما عن القصائد التي تحمل اسمه فيقول: “لم تعد تلك القصائد هي أنا.
والأمر لا يستحق كل هذا العناء. كان الأمر محض تسلية ربما وقد تجاوزها الزمن. لربما لم تكن قصائدي من تلك القصائد التي تستعصي على الوقت. بل هي قصائد بليت وماتت. لو كانت قادرة على البقاء لبقيت. المرء يجد نفسه في مأزق عندما يصدق ما يقال عنه. لسنا على تلك الصورة التي يرانا فيها الآخرون. ليس هذا تواضعا أو غرورا. فلا يمكن المرء أن يرى نفسه من بعيد”.
هذا الابتعاد عن الناس ربما كان التصاقا بالأشياء التي لا تغادرنا
مع هذا لم يفقد الشعر لديه أهميته، فالشعر “يكتسب الآن أهمية أكثر من أي وقت مضى. خصوصا في هذه الأيام. لم يحدث أن فقد الشعر أهميته في أي وقت. ربما كان الشعر هو الوجود ذاته. عملية الخلق ذاتها شعر. والكون قصيدة تمشي وتتحرك، الأوهام والأماني والأحلام قصائد، معظم الحقائق أو ما نعدها حقائق ربما كانت مجرد أوهام. لربما كان الوهم أم الحقائق وأباها أيضا”.
ولا يرى عبدالله القاضي إنه يعيش في عزلة أو زهد أو أنه ينفر من الوجود أو يشمئز من الحياة: “لا. ليست اشمئزازا. فأنا لا أشمئز من الناس ولا من الحياة إطلاقا حتى وإن ابتعدت. ربما كان الناس هم من يرون ذلك، فهذا الابتعاد عن الناس ربما كان التصاقا بالأشياء التي لا تغادرنا”.
ويرى القاضي أن الكتابة لعبة لم يستطع أن يكملها.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news