أراد عبد الله قاضي أن يعيش بعيداً عن الشلليات والنفاق السياسي، وداخل الوسط الثقافي الهش، فأحب العزلة بين القبور والأزقة المكتظة بالبائسين. أراد أن يهرب بنفسه من هذا “العالم السافل”، بتعبير الرفيق فوزي العريقي.
كنتُ كلما أسمع عن هذا الشاعر واللغوي، عبد الله قاضي، قبل أكثر من عقدين، أنه يعيش في المقابر، أشعر برهبة رجلٍ شخصَ الحياة بأنها لا تستحق أن نعيشها وسط هذا العالم القذر، الذي ليس فيه ما يستحق أن نحترم فيه أي جماليات.
ولو عدنا إلى إحدى إجابات الشاعر الراحل، رحمه الله، في حوار أجراه معه الزميل علي سالم لصحيفة الحياة اللندنية عام 2013م، لتوقفنا كثيراً، ولقرأنا رده عشرين مرة على الأقل، ولوجدنا أن الشاعر عبد الله كان يحاول الاحتماء من عالم لم يعد يحتمله.
تكورت وحدته في صدره، حتى شعر أنها ستنفجر كنجمة تلفظ أنفاسها الأخيرة
تكور الليل على المدينة كعباءة سوداء، تخفي ملامحها وتزيدها غموضاً
تكورت الأيام في ذاكرته، ككرات ضوء تتدحرج نحو الماضي بلا توقف
تكور الجسد النحيل تحت المطر، كزهرة ترفض أن تذبل رغم قسوة العاصفة
تكور الألم في قلبه، حتى بات يخنقه دون أن ينطق بكلمة
يقول القاضي في رده: “ليس ثمة حدث محدد، إنما هو حدث الولادة الذي سينتهي بحدث الموت. ويبقى وجودنا هو الحدث الأكبر والأكثر إبهاماً. لم نُخيَّر قبل أن نولد إذا كنا نريد أن نوجد أم لا. لو خُيرنا قبل ولادتنا، لما اخترنا أن نوجد، والأرجح أننا لم نولد بعد. قد تكون ولادتنا الحقة آتية في مقبل الأيام”.
انظروا ملياً إلى فلسفة الموت في حياة قاضي، الشاعر والزاهد، الذي هُزمت على يديه البلاغة، فلم تستطع أن تقول شيئاً عن رجل عاش حياته يحاور الموت، ولم يأتِه مبكراً، فأتاه وقد نال حياة لا تشبه سوى حياة أنبياء الشعراء الحقيقيين.
رحل الذي كانت كلماته صلاةً في محراب الوحدة، وكانت خطاه على الدرب أصداء قصيدةٍ لم تكتمل، رحل كما يرحل الضوء عن نوافذ المدن الحزينة، كأنما كان عابراً بيننا، لا منّا، وكأن الأرض لم تكن موطنه، بل مجرد عتبةٍ للغياب.
يالموسيقى الحزن التي تخترق مسامعي في هذا الليل البهيم!.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news