أعد الحلقة لـ”واي دي” محمد العياشي
: يستعرض “يمن ديلي نيوز” في حلقته الثانية من سلسلة “المستشرقون واليمن” خلال أيام شهر رمضان رحلة المستشرق الفرنسي “جوزيف هاليفي”، الذي زار اليمن في عام 1869 بدعم من الحكومة الفرنسية.
كان الهدف من البعثة دراسة التاريخ العميق لليمن وجمع النقوش القديمة، وقد كان لهاليفي دورا بارزا في تسليط الضوء على الجوانب التاريخية والثقافية الغنية لليمن.
ويُعتبر “هاليفي” واحدًا من أبرز الباحثين الذين اهتموا بدراسة تاريخ وحضارة اليمن، خاصة من خلال رحلاته البحثية والاستكشافية في أواخر القرن التاسع عشر.
المستشرق الفرنسي جوزيف هاليفي، الذي درس وحده 800 نقشا في القرن التاسع عشر، دخل اليمن وتجول بأرجائها كيهودي متسول ليقي نفسه تحرشات القبائل.
تقول مصادر تاريخية إن زيارة “هاليفي” لليمن تزامنت مع غياب الدولة المركزية، حيث كان الإمام “المتوكل على الله محمد بن يحيى حميد الدين” يحكم أجزاء منها، فيما كانت الدولة العثمانية تسيطر على أجزاء أخرى، من بينها العاصمة صنعاء.
وقد تحدث هاليفي في كتاباته عن جوانب من النظام السياسي والديني الذي كان قائمًا آنذاك، مع التركيز على بعض السلبيات والظلم الذي رافق هذا الحكم.
وطبقًا لما ذكره “هاليفي”، فإن نظام الحكم حينها لم يكن مركزيًا، وكانت مدن اليمن تتقاسمها العثمانية والزيدية، إلا أنه لاحظ أن الحكم العثماني في اليمن كان محدود التأثير، حيث كانت الدولة العثمانية تسيطر على بعض المدن الكبرى مثل صنعاء، لكنها لم تستطع فرض سيطرتها الكاملة على القبائل، التي كانت تتمتع باستقلالية واسعة.
وذكر أن العثمانيين كانوا يعتمدون على سياسة التحالفات والاتفاقيات مع بعض زعماء القبائل للحفاظ على استقرار نسبي.
وتحدث هاليفي عن نظام الإمامة الزيدية، مشيرًا إلى أن الأئمة الزيديين كانوا يتمتعون بنفوذ ديني وسياسي قوي، وكانت لهم القدرة على حشد القبائل تحت رايتهم.
وأشار إلى أن هذا النظام اعتمد على الشرعية الدينية، حيث كان الإمام يُعتبر قائدًا دينيًا وسياسيًا في آنٍ واحد، مستندًا إلى البيعة والدعم القبلي.
ولاحظ هاليفي أن القبائل اليمنية كانت تتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلالية، وكان لها تأثير كبير على الحكم، حيث كانت بعض القبائل تقرر الولاء للإمام أو للعثمانيين وفقًا لمصالحها.
وأشار إلى أن العادات القبلية ونظام المشيخات كانا يلعبان دورًا محوريًا في تنظيم المجتمع وإدارة شؤونه.
ومع أن “هاليفي” ركّز بشكل أساسي على دراسة النقوش والآثار اليمنية، ولم يكن اهتمامه منصبًا بشكل رئيسي على النظام السياسي والعلاقات القبلية إلا بشكل محدود، إلا أنه تحدث عن أن نظام الأئمة الزيديين كان يعاني من الفساد والاستبداد، مشيرًا إلى استغلالهم السلطة الدينية لتعزيز النفوذ السياسي، مما أدى إلى معاناة بعض الفئات الاجتماعية من الظلم والاضطهاد.
على الرغم من انتقاداته لحكم الأئمة، إلا أن هاليفي أُعجب بالتراث الثقافي الغني لليمن، فقد وصف العمارة اليمنية التقليدية في مدن مثل صنعاء وعدن بأنها “تحفة فنية” تعكس براعة المعماريين اليمنيين.
كما لفت انتباهه كرم الشعب اليمني، الذي أبدى له استقبالًا حارًا. وقال هاليفي: “اليمنيون يرحبون بالغرباء ويعاملونهم باحترام، مما جعل رحلتي أكثر متعة”.
وفيما يتعلق بالطبيعة، وجد هاليفي أن اليمن تتمتع بجمال طبيعي فريد، من جبالها الشاهقة إلى وديانها الخصبة وسواحلها الجميلة.
وقال إن تنوعها الجغرافي يجعلها واحدة من أكثر المناطق إثارة في العالم. كما أشاد بتنوعها الثقافي، مشيرًا إلى أن الشعب اليمني حافظ على تقاليده العريقة رغم التحديات التي مرت بها البلاد.
أضاف هاليفي إلى كتاباته تفاصيل مهمة تعكس فهمه العميق لليمن وتفاعله مع شعبها وبيئتها. لاحظ اعتماد اليمنيين على الزراعة والتجارة، وأشاد بنظام الري التقليدي (السواقي)، الذي وصفه بأنه “نظام هندسي متطور”.
كما أُعجب بانتشار التعليم الديني والمدارس القرآنية، وأشار إلى اهتمام اليمنيين بالشعر والأدب وحفظ المخطوطات.
وصف طقوس الضيافة والأعياد وحفلات الزفاف، ولاحظ دور النساء في الحفاظ على التقاليد العائلية.
واجه صعوبات في التنقل بين المناطق الجبلية، ولاحظ انتشار الفقر والمرض في بعض القرى. وأكد أن اليمن كانت مركزًا لتلاقي الثقافات، مع تأثيرات من الحبشة والهند وفارس، وكانت بوابة للتبادل الثقافي بين الشرق والغرب.
من خلال دراساته، أكد هاليفي أن اليمن كانت مهدًا لعدد من الحضارات العظيمة مثل سبأ ومين وحمير.
وقال إن هذه الحضارات تقدمت في مجالات عديدة، خاصة في هندسة الري وبناء السدود، ومن أبرزها سد مأرب، الذي وصفه بأنه “إنجاز هندسي مذهل”.
وذكر أن الآثار اليمنية دليل على حضارة متقدمة امتلكت مهارات هندسية ومعمارية مميزة، وأن السدود والمنشآت المائية تعكس مستوى متقدمًا من التنظيم والإدارة.
كما أشار إلى دور اليمن الكبير في التجارة القديمة، حيث كانت تتحكم في طرق التجارة بين الشرق والغرب، خاصة تجارة البخور واللبان.
واعتبر “هاليفي” النقوش التي درسها “دليلًا على التطور الثقافي والفكري لليمن القديم”، مؤكدًا أنها تكشف عن حضارة متقدمة.
كما أشار إلى أن اليمن كانت مركزًا هامًا في الحضارات السامية القديمة، وأن تاريخها يشهد على عظمتها.
جمع المستشرق “هاليفي” أكثر من 680 نقشًا مسنديًا، ساهمت لاحقًا في تطوير فهم الكتابات واللغات القديمة في جنوب الجزيرة العربية.
أكد “هاليفي” أن النقوش اليمنية القديمة تمثل مصدرًا رئيسيًا لفهم الحضارات التي ازدهرت في المنطقة، مثل سبأ، قتبان، معين، وحمير. واصفًا النقوش بأنها “شهادات تاريخية مكتوبة” تقدم معلومات دقيقة عن الديانة، الاقتصاد، النظام السياسي، والحروب التي خاضتها تلك الحضارات.
درس “هاليفي” النقوش المكتوبة بالخط المسند، والذي كان يستخدم في اليمن القديم.
أشار إلى أن هذه النقوش تدل على تطور لغوي متقدم، وأنها تحتوي على نظام كتابي مستقل يختلف عن اللغات السامية الأخرى، مثل الآرامية والعبرية.
ورافق الرحالة الفرنسي “جوزيف هاليفي” حبشوش، حيث حصل على مبالغ مالية كأجور خلال رحلة تنقلاته بين المناطق اليمنية على مدى 23 عاماً. صار دليلاً ومرشداً له في توثيق النقوش، حيث صدر لهما مؤلف مشترك، عنوانه “رؤية اليمن بين حبشوش وهاليفي”.
حبشوش رافق الرحالة الفرنسي كدليل وكاتب لنسخ النقوش. لقد قاموا بنسخ 685 نقشاً من 37 موقعاً سبئياً، أي أنهم نسخوا ما يعادل 99% من نسبة النقوش اليمنية المعروفة.
قدم المستشرق الفرنسي “هاليفي” مساهمات في تفسير بعض المصطلحات والنصوص الغامضة في النقوش، وساهم في تصحيح بعض القراءات السابقة لها.
واستنتج هاليفي من خلال دراسة النقوش أن اليمنيين القدماء كانوا يعبدون مجموعة من الآلهة، مثل المقة (إله القمر)، وكانوا يمارسون طقوسًا دينية موثقة في تلك النقوش.
كما لاحظ أن النقوش كانت تُستخدم في المعابد، وعلى جدران القصور والمقابر، مما يعكس أهمية الدين في الحياة السياسية والاجتماعية لليمن القديم.
المصادر
:
1- تقرير عن بعثة أثرية في اليمن (سنة 1872).
2- كتاب “رؤية اليمن بين حبشوش وهاليفي”.
3- موسوعة ويكيبيديا – تاريخ اليمن القديم.
4- بلقيس نت
• تابعونا غدًا في حلقة جديدة من سلسلة “المستشرقون واليمن”، حيث نستعرض انطباعات مستشرق آخر عن هذه الأرض العريقة.
👇 سلسلة حلقات “المستشرقون واليمن”:
الحلقة الأولى: الألماني “نيبور” ورحلته إلى البلاد التي تحكمها التوازنات
مرتبط
الوسوم
لهاليفي دورا
المستشرقون واليمن
دراسة التاريخ العميق لليمن
نسخ الرابط
تم نسخ الرابط
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news