“خط المسند.. هوية الجزيرة اليعربية المنقوشة على جدار الزمن”
قبل 2 دقيقة
“في الـ21 من فبراير من كل عام، يحتفي اليمانيون اليعاربة بيوم خط “المسند”، ليس بوصفه مجرد مناسبة ثقافية، بل كتجسيد حيّ لاستعادة هوية ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ.
إنه يوم تُبعث فيه ذاكرة الحضارة من جديد، حيث يعيد اليمانيون الاعتبار لأحد أعظم منجزات أجدادهم، خط المسند، أقدم أبجديات التاريخ الإنساني، الذي لم يكن مجرد كتابة، بل لغة حضارة سطّرت ملامح اليمن القديم، ونقشت قيمه وتاريخه على جدران الزمن.”
المسند:
حجر الأساس في هوية اليمن الثقافية
يُعدّ خط المسند من أعرق الأبجديات التي عرفتها البشرية، إذ كان الوسيلة التي نقش بها اليمنيون القدماء مجدهم وحضارتهم في ممالك سبأ، حمير، حضرموت، قتبان، معين، أوسان، التهايم، الطود، وأعرابها.
بخطوطه المتناسقة وحروفه الصامتة البالغ عددها 29 حرفاً، التي تُكتب من اليمين إلى اليسار، شكّل المسند لغة اليمن القديم وأرشيفه التاريخي المنحوت على جدران الزمن.
أطلق عليه أجدادنا اسم “م س ن د ن”، والذي يعني “نص مكتوب”، تعبيراً عن تلاحم حروفه المتراصة على الألواح الحجرية والمعدنية، المنقوشة في المعابد والقصور والمباني، كشاهد خالد على عظمة أمة صنعت تاريخها بأيديها، وخلدته في أقدم أنظمة الكتابة الإنسانية.
يرى علماء الآثار والنقوش اليمنية القديمة، وفي مقدمتهم مطهر الإرياني، معمر الشرجبي، علي ناصر صوال، وأبو صالح العوذلي اليماني، أن المسند ليس مجرد خط قديم، بل هو حجر الزاوية في هوية اليمن الثقافية، وسجلٌ ناطقٌ بأمجاد الماضي، ومدعاة للفخر والاعتزاز بجذور الأمة.
ويؤكد هؤلاء الباحثون أن أي نهضة حقيقية لا يمكن أن تنبثق من فراغ، بل تستند إلى فهم عميق للماضي، واستلهام دروسه كأساس متين لبناء المستقبل، فكما نقشت حروف المسند على الأحجار، فقد نُقشت معها هوية اليمن وحضارته العريقة.
خط المسند بين الامتداد الجغرافي والانتشار التاريخي
لم يكن خط المسند حكراً على الجزيرة اليعربية، بل تجاوز حدودها ليصبح شاهداً على الامتداد الحضاري لليمنيين القدماء. فقد عُثر على نقوش مسندية في الأحساء، قرية الفاو، نجران، والعُلا، كما أمتد تأثيره إلى العراق وبلاد الشام، ومصر واليونان، ليؤكد حضوره في محافل الحضارات الكبرى.
كما حمله اليمنيون القدماء إلى القرن الإفريقي، حيث وُجدت مئات النقوش في إريتريا، الصومال، وإثيوبيا، خاصة في مناطق مثل تيغري ويحا، حيث قامت ممالك يمانية عدة، من أبرزها مملكة أكسوم، ما يعكس الدور الريادي لليمن القديم في نشر ثقافته ولغته وترسيخ بصمته الحضارية عبر العصور.
تاريخ المسند وتطوره:
إرث خالد في عمق الزمن
يعود خط المسند إلى عصور موغلة في القدم، حيث بدأ استخدامه قبل الألف الثاني قبل الميلاد، ليكون أول أداة مكتوبة تعكس قدرة اليمنيين القدماء على توثيق تاريخهم وحضارتهم العريقة.
خط المسند لم يكن مجرد وسيلة للتعبير، بل كان مرآة تعكس تطور الحضارة اليمنية العظيمة، مروراً بعصور طويلة شهدت فيها الثقافة اليمنية ازدهاراً رائعاً.
ورغم مرور الزمن وتغيرات العصور، استمر هذا الخط في الظهور على السطوح الحجرية، البرونزية، والألواح المعدنية، ليحكي للأجيال القادمة عن قصة قوة الإرادة وصمود اليمنيين أمام التحديات.
استُخدم المسند حتى القرن السادس الميلادي، أستمرت بعض النقوش في نجران وبعض مناطق اليمن حتى القرون الهجرية الأولى، مما يُظهر إستمرارية ثقافية نادرة لهذا الخط المميز الذي أرتبط بهوية اليمن وجوهرها العريق.
بين خطي المسند والزبور:
تنوع الخطوط اليمنية القديمة
الزبور:
خط مسندي آخر في تاريخ اليمن
إلى جانب خط المسند، الذي يعد أقدم وأكثر شهرة في التاريخ اليمني القديم، أستخدم اليمنيون أيضاً خطاً آخر يُعرف بالزبور.
هذا الخط اشتُق من المسند، لكنه كان يتميز ببعض الخصائص التي تجعله أكثر بساطة ومرونة، حيث كان يُكتب غالباً على عيدان خشبية.
ومن أبرز سمات هذا الخط سهولة تحرير حروفه واتصالها ببعضها البعض، مما جعله ملائماً للاستخدام اليومي.
وقد أُطلق عليه اسم “الزبور” استناداً إلى الفعل “زَبَرَ”، الذي ورد في بعض النقوش بمعنى “كتب”، ليشير إلى الكتابة بشكل عام.
تاريخياً، أثبتت النقوش أن الزبور كان مستخدماً منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد، مما يعكس تنوع الأساليب الكتابية في اليمن القديم، ويعطي مزيداً من الإشارات إلى الإبداع اليمني في تطوير وسائل التعبير الثقافي.
بين الإهمال والطمس:
خط المسند في مهب الضياع
على الرغم من القيمة التاريخية العظيمة التي يحملها خط المسند، فإنه يواجه تهديداً حقيقياً بالاندثار بسبب الإهمال المستمر وعمليات التدمير والنهب التي تطاله.
هذا التراث الثقافي اليمني الفريد، الذي يعتبر شاهداً حياً على حضارة كانت متقدمة بعصور عن غيرها، يجد نفسه اليوم في مواجهة الطمس في مناطق كانت تُعتبر مراكز حضارية هامة، مثل مأرب، الجوف، بيحان، حريب، وشبوة، وغيرها من مناطق الجزيرة.
لقد أصبح خط المسند، الذي كان يوماً رمزاً للهوية اليمنية، مهدداً بفعل قوى مختلفة تتسبب في تدمير الآثار والنهب المستمر للنقوش المسندية.
وهذه التهديدات المتواصلة لم تقتصر على المعابد القديمة أو النقوش الحجرية فقط، بل تشمل الموروث الثقافي بأسره، الذي بات مهدداً بالزوال إذا لم يتم التحرك سريعاً لحمايته واستعادته.
معبد أوام:
الأرشيف التاريخي المسروق ومأساة التراث اليمني في ظل السيطرة الحالية
في معبد أوام بمحافظة مأرب، الذي يعد أول مكتبة في تاريخ العالم، حيث تُخزن ذاكرة اليمن في نحو ألف نقش مسندي، تعرضت العديد من هذه النقوش لعملية سرقة مدمرة، ما شكل ضربة قاسية ومؤلمة للإرث الثقافي اليمني.
تلك النقوش، التي كانت ذات قيمة تاريخية عالية، لم تكن مجرد كتابات حجرية، بل كانت بمثابة أرشيف حي وثّق الحياة السياسية، الاجتماعية، الدينية، والتشريعية في اليمن القديم.
كانت تلك النقوش تشكل الذاكرة الجماعية لحقب زمنية من التقدم والازدهار، وتروي قصص الأبطال وملاحم التوحيد اليمني، بالإضافة إلى التشريعات القديمة التي ساهمت في بناء الدولة والمجتمع في العصر السبئي.
ولكن مع الوجود الحالي لـ جماعة دينية متخلفة تسيطر على المنطقة، أصبح هذا التراث الثقافي مهدداً أكثر من أي وقت مضى.
إلى جانب عمليات النهب والتدمير، يعزز هذا الوضع الفراغ الثقافي الذي خلفته الجهود العشوائية في الحفاظ على الإرث، مما يعرض الذاكرة التاريخية لمزيد من الضياع، ويهدد بفقدان أدوات الفهم والتوثيق التي كانت ستحقق لليمن إعادة قراءة ماضيه العظيم بصورة أوضح وأشمل .
كل هذا يحدث بتشجيع واغراء وتآمر من الدول المجاورة، بعد أن سرقت أراضيه، تسعى اليوم إلى سرقة تراث اليمن الغني بدلاً من الحفاظ عليه، في مكانه الأصلي، كأرث جمعي للعروبة والعرب، مما يجعل المأساة أكثر إيلاماً.
هذه المأساة الثقافية لا تقتصر على اليمن وحده، بل على الإنسانية جمعاء، إذ تمثل هذه النقوش جزءاً من تراث مشترك يحتاج إلى التحرك الدولي العاجل لحمايته من الضياع التام.
إحياء خط المسند:
جهود فردية ومبادرات رقمية
أن الباحثون والمختصون الأوائل، مثل المؤرخ اليمني نشوان الحميري والعلامة الأكبر لسان اليمن الحسن الهمداني، كان لهم الفضل في دراسة وتوثيق هذه النقوش القديمة، في حين قام عالم المسند الراحل مطهر الإرياني بدورٍ محوري في فك رموز المسند في العصر الحديث.
وقد أضافت المبادرات الرقمية والزخم الإلكتروني بعداً جديداً في نشر وتوثيق هذا التراث، حيث قام الدكتور سلطان المقطري ومجموعة من الباحثين والمختصين بنقل النقوش عبر الإنترنت، وإنشاء منصات رقمية تتيح للعالم الإطلاع على كنوز التراث اليمني بطريقة مبتكرة وفعالة.
وبالرغم من هذه الجهود الفردية، تبقى الحاجة إلى دعم مؤسسي وجهود رسمية لزيادة الوعي بأهمية هذا الخط التاريخي، لضمان الحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة.
المتخصصون في الآثار يدقون ناقوس الخطر:
يُحذر الخبراء في مجال الآثار من أن فقدان خط المسند ليس مجرد خسارة لحروف منقوشة على الحجر، بل هو ضياع جزء عميق من هوية اليمن والعروبة، التي تمتد جذورها عبر العصور.
هذا الخط لا يعد مجرد لغة، بل هو شاهد حي على حضارة غنية تجسد تاريخ اليمن العريق، وممالكه المتعددة والمتلاحقة، حيث كان خط المسند هو الوسيلة التي من خلالها عبر اليمنيون عن أنفسهم، عن تاريخهم، وعن قيمهم الإنسانية واخلاقهم النبيلة التي علمت كل شعوب الأرض.
في هذا اليوم التاريخي، وسط واقع البلاد الممزق جراء الحروب والصراعات الداخلية بالوكالة للأجنبي، التي أستهدفت الروح اليمانية، نطالب المجتمع الدولي، ونخص بالذكر منظمة اليونسكو للتراث والثقافة، بتحمل المسؤولية الإنسانية.
يجب أن تتخذ اليونسكو خطوة حاسمة من خلال إنشاء مؤسسة دولية متخصصة لحماية تراث اليمن، بهدف:
1- حماية نقوش خط المسند من النهب والطمس والتهريب.
2- استعادة القطع الأثرية المفقودة، التي هي عبارة عن مفاتيح تاريخية لفهم الماضي اليمني.
3- تعليم الأجيال القادمة أهمية هذا الخط العريق عبر برامج تعليمية وثقافية عالمية.
4- تفعيل تدابير عاجلة لتوثيق هذا التراث رقمياً لتسهيل الوصول إليه وحمايته من الضياع.
إن خط المسند هو أمانة ثقافية يجب أن نُصونها اليوم قبل الغد.
هو ليس مجرد أبجدية قديمة، بل شهادة حية على حضارة إنسانية مستمرة.
وإذا لم نتحرك الآن، سنكون قد خسرنا أكثر من مجرد لغة، بل قد نخسر شرف الأجيال القادمة في التعرف على تراثهم الثقافي.
إن النداء اليوم ليس مجرد دعوة، بل إصرار جماعي من كل محب لهذا الوطن، أن تكون الخطوات الدولية فاعلة وسريعة، لإعادة إحياء وتوثيق هذا الكنز الثقافي.
ختامًا:
المسند هو هوية لا تمحى.
إن يوم المسند ليس مجرد ذكرى عابرة أو احتفال عابر، بل هو خطوة رمزية عميقة نحو استعادة الهوية اليمنية، وتأكيد على عظمة الحضارة التي أبدعها أجدادنا في أزمنة بعيدة.
هو نداء قوي للأجيال القادمة كي تفتخر بماضيها، وتحافظ على كنوزها التاريخية، التي هي أساس قيمنا ومبادئنا.
إنه صرخة شرف ووفاء، تذكرنا بأن التراث ليس مجرد ذكريات بل هو البوصلة التي توجهنا نحو المستقبل.
فلا مستقبل لمن يفرط في تراثه، ولا نهضة حقيقية بدون جذور راسخة في التاريخ.
المسند ليس مجرد حروف منقوشة، بل هو نبض قلوبنا، ومرآة لِما كنا عليه، وشهادة على ما سنكون عليه.
في هذا اليوم الخالد، نؤكد معاً أن المسند هو هوية لا تمحى، وشرف لا ينسى، ورمز للحضارة اليمنية التي كانت وستظل راسخة في ذاكرة الإنسانية.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news