أتابع باهتمام ما يكتبه المحامي المتمكن الأديب المثقف والشاعر جلال حنداد. استوقفني مقاله «
انتفاضة 11 فبراير
»، وخطورة قراءتها بمضامين ومخرجات ثورية، والمنشور في «موقع النداء».
مَهَّدَ للمقال بقراءة لمسار الثورات، وأنَّ الأهداف لم تنجز دفعةً واحدة بمجرد إطاحة رأس الاستبداد، وتناول الثورة الفرنسية (أم ثورات العالم)، ومسارها الخطر المتعرج والطويل.
قرأ الثورة اليمنية سبتمبر، وأكتوبر، وقرأ مسار الثورتين وما دار فيهما وعليهما من صراعات وانحرافات حتى الوصول إلى الوحدة، ثم تناول انتفاضة 11 فبراير، فيرى أنها وإن كانت ضد الاستبداد السياسي، وأطاحت بالحاكم ومنظومته الاستبدادية، إلا أنها -في ما تلاها من تفاعلات وإضرابات وانحرافات- تختلف موضوعيًا وكليًّا عمَّا سبق أن أشرنا إليه. إذ إنه وبعد أقل من خمس سنوات طرأت مدخلات سياسية وأيديولوجية وانحرافات وممارسات جديدة في المشهد السياسي لا يمكن اعتبارها انحرافًا مسلكيًا ضمن فترة الثورة، إنما كانت مشروعًا جديدًا مناهضًا لفكرة ومضامين ومنهجيات وأدبيات ليس انتفاضة 11 وحدها فحسب، وإنما كل التراكمات والمكتسبات السياسية لخمسين عامًا، والثورات والعمل السياسي؛ إذ استهدفت ذلك المشروع اللاحق لـ11 فبراير في تفكيك الأرضية السياسية والبنيوية للدولة والنظام والمجتمع، وإعادة صياغة الوعي والهوية الفردية والمجتمعية للدولة والمجتمع.
حرصتُ على نقل رأي الأستاذ جلال كما هو؛ لأتمكن من مناقشته وإبداء رأيي المختلف وملاحظاتي المتواضعة.
أولًا في ما يتعلق بالثورة الفرنسية، فالأمر مختلف تمامًا عن الحالة اليمنية والعربية، وعن عالمنا ما بعد الثالث، ومع ذلك فالفرنسيون الآن رغم الاستمرار بالتمسك بالتنوير وعصور التنوير وإرث التنوير العظام: جان جاك روسو، ومنتسكيو، وفولتير، فالفرنسيون الآن يعيشون الجمهورية الخامسة، والصراع على أشده بين مختلف الأحزاب اليسارية والفكرية والمجتمعية. فهم يعيشون عصرهم، ولا علاقة لما يجري هناك بما يجري عندنا. فالتأثير والتأثر موجود، ولكنه محدود، خصوصًا في الراهن.
أمَّا الملاحظة، فهو وإن كان مصيبًا في تناول الحالة التي وصلنا إليها، إلا أن عدم الوقوف إزاء الانحرافات في الثورتين: سبتمبر 1962، وأكتوبر 1963، وصراعاتهما في صنعاء، و13 يناير الكارثة في عدن، وحربي 1972، و1979 بين الشطرين، وحروب الوسطى، والأخطر من ذلك كله حرب 1994 ضد الجنوب، والتي كانت بمثابة الإعلان عن الخلاص من الثورة اليمنية، والوحدة، فالوحدة المعمدة بالدم كانت إعلان نهاية الثورة شمالًا وجنوبًا.
ويا أخي العزيز، لا شيءَ يأتي من لا شيء. فالانحرافات الجزئية والصغيرة جدًّا جدًّا تتجمع وتتراكم؛ لتؤدي في النهاية إلى التحول النوعي والكبير؛ وهو متضمن في مقالكم.
أتفق معكم في التشخيص الصائب والدقيق للحالة البائسة التي وصلنا إليها، وأختلف في التقليل من أهمية الانحرافات الموصلة للكارثة.
يتناول الأستاذ جلال ما تلى 11 فبراير، فيقول: إن ما تلى 11 فبراير من ممارسات سياسية وانحرافات وحروب وأحداث خاصة في الجغرافيا الشمالية، كانت بمثابة ثورة مضادة جديدة في الفكرة والنهج والأسس والمرتكزات، ليس لانتفاضة 11 فبراير وأهدافها فحسب، وإنما لكل ما سبقها من ثورات ومنجزات سياسية ووطنية.
ورأيه دقيق وصائب في أنَّ ما جرى بعد الانقلاب على الربيع العربي في اليمن؛ وهو ما فات الأستاذ الإشارة إليه. فالربيع في اليمن رغم خصوصيته لم يكن معزولًا عن الربيع العربي الذي ابتدأ من شوارع تونس؛ ليغمر الشوارع والمدن العربية: مصر وليبيا، وسوريا، والبحرين، واليمن، والسودان.
للاحتجاجات السودانية فضل السبق منذ الاستقلال، والانتفاضتين الفلسطينية: 1987، و2000. يعرف أستاذنا المحامي القدير أنَّ القرن العشرين قرن حركات التحرر الوطني، والثورات الوطنية في بلدان العالم الثالث، وقد لعبت الثورات دورًا عظيمًا في تحقيق الاستقلال وإنجازات سياسية واقتصادية واجتماعية معينة وطيبة، ولكنها في الأغلب عجزت عن تحقيق طموح شعوبها في تحقيق الرخاء والازدهار واستكمال الاستقلال بأبعاده السياسية والاقتصادية، والتنمية المستدامة والبناء، والتحديث وعجز العديد منها عن الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الديمقراطية، والقبول بالنزول إلى الإرادة الشعبية في التداول السلمي للسلطة، واحتكم أغلبها إلى حكم القوة والقهر.
كل الثورات ابتداء من الثورات العظمى: الفرنسية، والبريطانية، والروسية، والتركية، والإيرانية، والمصرية، والهندية، كانت ثورات مطالب وطنية واحتجاجات سلمية أغلقت أمامها الأبواب، وقام الحكام الطغاة بقمع الاحتجاجات؛ فلجأت الشعوب المقهورة إلى السلاح والثورات وحتى الانقلابات العسكرية، وكان نصيب القارات الثلاث وافرًا، ونال الوطن العربي منها الكثير: الاحتجاجات السلمية، والعصيان المدني، والمطالب الشعبية هي الأساس في التاريخ منذ سبرتاكوس، وحتى الجروند، والجيل، واليعاقبة، وغاندي، ومحمد مصدق في إيران، وأحمد عرابي ومحمود سامي البارودي في مصر، وغاندي ونهرو في الهند، وصن يات صن في الصين؛ وصولًا إلى الزعيم العظيم نيلسون مانديلا؛ وكلهم آتون من الاحتجاجات السلمية، لكن الحكام الطغاة في كل ثورات الشعوب هم من دفع إلى العنف وبادر بالقمع واستخدام السلاح.
ثورة الربيع -أخي العزيز- هي أهم تغيير يعرفه التاريخ القديم، والوسيط، والجديد؛ فهو الخلاص من عنف الطغاة والمستبدين، ومن الثورات والانقلابات العسكرية التي تحولت إلى ظلم وطغيان واحتكام للسلاح واستنقاع فيه، وليست الأنظمة القومية والثورية العربية، واليمن ليست الاستثناء؛ فهي نماذج للطغيان والفساد في الحكم.
الربيع العربي امتداد للاحتجاجات السلمية عبر التاريخ البشري، ورد عميق على حكم الغلبة والقوة رجعيًّا كان أو ثوريًا.
ثلاث تجارب مهمة في التاريخ البشري هي: تجربة غاندي ونهرو في المقاومة السلمية، وتجربة جنوب إفريقيا في مواجهة التطهير العرقي والفصل العنصري، وتجربة إيران الثورية السلمية التي سطا عليها الآيات الطغاة.
في الوطن العربي حققت الانتفاضتان الشعبيتان الرائعتان في فلسطين أساس الاستقلال، ولكن اتفاقات مدريد وأوسلو، وانحرافات التنسيق الأمني، كانت بداية الكارثة.
تجربة السودان في الانتفاضة المتكررة منذ انتفاضة 21 أكتوبر 1964، هي البديل لكل الانقلابات والحروب التي يقودها العسكر والقوى الرجعية.
يعتبر الأستاذ جلال التغييرات السياسية التي تلت 11 نوفمبر جاءت بالضد من أهدافها، وناسفة وملغية لفكرة الجمهورية، وطبيعة النظام السياسي بمحدداته وأطره المنهجية الديمقراطية التعددية، ومستهدفة القيم والأنساق المشكلة للهوية الوطنية.
قراءة الأستاذ فيها قدر من التجريد والعمومية والتناقض؛ فهو يغفل الوقائع والأحداث. فالاحتجاجات السلمية منذ البدء كانت هبة حضرموت عام 2005 ردًا على إجراءات الرئيس علي عبدالله صالح لتقسيم حضرموت، ونزل في شوارع عدن الجنود والضباط الذين أقصوا من عملهم وقطعت مرتباتهم في العام 2007، واحتج الجنوبيون على حرب 1994، وتدمير تجربتهم وحرمانهم من المشاركة في الوحدة السلمية التي كانوا شركاءها وصناعها ودعاتها والمبادرين والمضحين في سبيلها.
على امتداد أسابيع وشهور، وأحمد سيف حاشد، وتوكل كرمان، وعشرات ومئات من شباب الأحزاب السياسية ومستقلات ومستقلين، يتجمعون أسبوعيًا أمام مجلس الوزراء في صنعاء ضد الفساد وضد حرب 1994، والحروب ضد صعدة، وتهجير أبناء الجعاشن الذين استضافتهم رحمة حجيرة لأشهر.
في اجتماع لمنظمة الحزب الاشتراكي في تعز دعا إليه المناضل أيوب الصالحي للتحرك، وهو المخفي قسريًا الآن، وتحرك بنفسه بسيارته ومعه ميكرفون يردد: الشعب يريد إسقاط النظام، وتحركت الجماهير في تعز.
وتحركت صنعاء بعد اجتماع في مقر التجمع الوحدوي، واجتماعات في منزل توكل كرمان، ومحمد إسماعيل النهمي، وميزر الجنيد، وهاني الجنيد، وعبدالرحمن صبر، وعز العرب، وآخرين لا أتذكرهم، هم من قرر النزول.
قيادة أحزاب المشترك كانت تساوم على إصلاحات محددة، وعلى حصص لها؛ فقلع صالح العداد.
انضمام قيادات المشترك، وانشقاق علي محسن الأحمر (قائد الفرقة الأولى مدرع)؛ ذراع صالح اليمنى، وتدخل دول الخليج كانت بداية الانحراف.
أما التالي للربيع العربي، فهو تصالح أطراف الحكم: المؤتمر، والإصلاح مع كل أحزاب المشترك؛ وذلك انقلاب كامل الأركان؛ ولا علاقة لـ11 فبراير به.
المهم إعادة اقتسام السلطة، والاحتراب بها وفيها، وضد الشعب وضد 11 فبراير كما أشرتم. والمبادرة الخليجية ليست نزيهة؛ فقد منحت أطراف الحرب والطغيان صك البراءة.
يصل الأستاذ حنداد إلى القول: “وتسعى أطرف هذه الحقبة إلى فرض أيديولوجيا سياسية دينية لاهوتية ثيوقراطية سلالية في الشمال، وانقسامية مناطقية مضطربة غوغائية في الجنوب. وعلى الضد من حركة التطور والصيرورة التاريخية، فإنَّ مقتضيات الحال وفق الاشتراطات التاريخية، والمنطقيات الوطنية تحتم علينا تجريد انتفاضة 11 فبراير من أي مضامين ثورية، وعدم اعتبارها فعلًا شعبيًّا ثوريًا: تغييرًا فاصلًا بين حقبة استبدادية وأخرى تلتها ثورية.
وكعب أخيل في التوصيف الدقيق للحالة الراهنة، إغفال الانقلاب على الانتفاضة الشعبية السلمية من قبل أطراف الحكم وأحزاب المشترك في التصالح الذي قادته السعودية ودول الخليج وأوروبا وأمريكا، واقتسمت هذه الأطراف الحكم، ثم تصارعت ليفسح السبيل واسعًا أمام انقلاب 21 سبتمبر 2014؛ فهو انقلاب تلى الانقلاب على الربيع العربي، وهو انقلاب أتاحه الصراع بين أطراف الحكم المنقلب على الثورتين اليمنيتين: سبتمبر، وأكتوبر، وعلى الانتفاضة الشعبية، ولكن بالاتجاه الذي أشرتم إليه بدقة وصواب تحليل وتشخيص، ولكن الخطأ تحميل الانتفاضة مسؤولية ذلك؛ وهو ما انتهى إليه رأيكم غير المتأني.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news