تحت هذا العنوان، وفي العام 1991، وتحديدًا في تاريخ 22/3 منه، نشر المفكر القومي قسطنطين زريق في صحيفة الحياة اللندنية مقالًا درس فيه هذه المقولة التي راجت في تلك الفترة. ناقش -كمفكر وباحث- حقيقة وضع أمريكا إيجابًا وسلبًا، وتناول الرأيين القائلين بدخول أمريكا دور الانحطاط، والنافين.
وتساءل باستغراب: هل يمكن الحديث عن الانحطاط في وقت أحرزت فيه أمريكا نصرًا حاسمًا في حرب الخليج، وتبيَّن تفوق أسلحتها وعتادها الحربي، وحُسن تدريب جنودها، وجدارة قادتها، وتعمها فرحة الفوز، وانتهت حربها البرية بالنصر كقوة عظمى؟ مؤكدًا على مبالغة الأمريكيين في قوة العراق؛ ليبالغوا أيضًا في حجم انتصارهم.
ويشير إلى وطأة الانهزام في فيتنام، مشددًا على الركود الاقتصادي، وتفشي الفساد، وانخفاض مستوى التربية، وانتشار الجريمة، وتكاثر المشردين.
يشير إلى معركة حامية الوطيس بين عدد من الاقتصاديين، والمؤرخين، والسياسيين حول زعامة أمريكا، وانخفاض مستواها.
الكاتب هنري لوس، مؤسس مجلتي تايم ولايف الشهريتين، أطلق في أوائل الأربعينيات شعار “القرن الأمريكي”، معبرًّا بذلك عن المكانة التي احتلتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي ستمتد إلى مختلف أنحاء العالم، وتَسِم القرن بطابعها الخاص.
يتناول القنبلة الأولى التي أُطلقت في المعركة، وهو كتاب المؤرخ الاقتصادي والحزبي بول كينيدي، أستاذ في جامعة ييل، “صعود الدول الكبرى وسقوطها” – التغير الاقتصادي، والنزاع الحربي بين عامي 1500 و2000. ويتناول قيام الدول الحديثة: إسبانيا، هولندا، فرنسا، إنجلترا، ثم تدهورها الواحدة تلو الأخرى، مرجعًا ذلك إلى الخلل بين القدرة الاقتصادية والقدرات الحربية. ففي أيام الانبعاث والازدهار، تكتسب القوى الناهضة قدرات إنتاجية، وثروات طائلة، فتتوسع في بناء الجيوش، وفي احتلال الأراضي، ونشر النفوذ توسعًا يتجاوز قدرتها الاقتصادية، وتقوم عوامل جديدة تحط من هذه القدرة أو تنقلها إلى دول أخرى.
ويرى أنَّ أمام الدول الكبرى خيارين: الوفرة الاقتصادية أو التفوق العسكري، وجميعها اختارت الثانية؛ فتخلخل الميزان. ويستخلص من الكتاب أنَّ أمريكا سائرة في الطريق ذاته.
ونال الكتاب شهرة كبرى، وسرعان ما تبعته كتب أخرى، ومقالات متلاحقة، وصحف منقسمة بين مؤيد ومعارض.
يلاحظ المفكر زريق أنَّ السجال يدور حول الاقتصاد، ويكاد الصراع ينحصر في هذا المجال دون استخراج واضح لجذوره ومنابعه في المجالات الأخرى؛ مع الاعتقاد في العصر الصناعي أنَّ الاقتصاد هو أساس القدرة، ومعيار أي تقدم أو تأخر.
يناقش الباحث المحاور التي يدور الجدل حولها. فالإنتاج الاقتصادي، كانت حصة أمريكا في العام 1950، 50%، وتدنت في العام 1991 إلى 20%. ويتساءل: هل يعود ذلك إلى النسبة للدول الكبرى، أم إلى انكماش ذاتي؟
ويرى أنَّ الفريقين يتفقان على الانخفاض النسبي. ويضيف الناقدون الانخفاض الذاتي في الصناعات الثقيلة التقليدية، مثل: الفولاذ، والسيارات، والمراكب التجارية، وكذلك في الصناعات الجديدة الفائقة التطور كالحواسيب وغيرها.
ويرى أنَّ أمريكا -على الرغم من المنافسين- لا تزال أهم قوة اقتصادية في العالم، ومعدل دخلها الفردي السنوي يفوق المعدلات التي بلغتها ألمانيا، واليابان، وفرنسا.
وثانيًا: العجز التجاري يتجلى في زيادة الواردات على الصادرات فيما بين عام 1960 والثمانينيات؛ حيث نزل مجموع البضائع المصدرة إلى العالم من 25% إلى 12%.
يتفق الفريقان على أنَّ العجز المتزايد يعود إلى استمرار العجز في الموازنات السنوية للدولة؛ الأمر الذي اضطرها إلى استيراد الأموال من الدول الصناعية الكبرى، والاستدانة من شعبها ببيع السندات الداخلية.
ويرد المدافعون بأنَّ العجز قد مكَّنَ مواطني أمريكا من التمتع بمستوى استهلاكي رفيع، أمَّا رأس المال الأجنبي، فقد يسَّر القيام بمشروعات اقتصادية عادت بالفوائد، ولم يخفض من مكانة أمريكا التي لا تزال الأعلى.
ويتناول في المحور الثالث الدين، حيث يركز الناقدون على تصاعد الدين الخارجي. ففي الثمانينيات، كانت قروضها تفوق ديونها بحوالي 140 مليار دولار، وانقلبت النسبة في العام 1987 إلى 500 مليار دولار بزيادة المديونية.
وتزيد الآن بمعدل 100 إلى 150 مليار دولار سنويًّا، ويُقَدَّر الآن مجموعها بتجاوز 1000 مليار دولار.
وهكذا تحولت من مركز الدائن الدولي الأول إلى المدين الدولي الأول، وتضخمت الحصة في الموازنة السنوية المُخَصَّصة لدفع نفقات المديونية المرتفعة.
ويعيد الناقدون وبعض المدافعين هذه النقائص إلى عزوف الشعب عن الادخار، والانجراف إلى الاستهلاك، والتشجيع عليه من قوى الهيمنة؛ فتدني الادخار يؤدي إلى تدني الاستثمار، والذي بدوره يؤدي إلى الانكماش.
يُحدد ادخارها في السبعينيات، والنصف الأول من الثمانينيات بـ 18% من مُجمَل إنتاجها القومي؛ بينما بلغ في فرنسا وألمانيا الغربية وإيطاليا بين 21% و23%، وارتفع في ألمانيا إلى 33%.
يُقرُّ المدافعون بالآثار السلبية لهذه النقائص، ولكنهم لا يرونها عللًا راسخة، وينسبونها إلى “طيش” المجتمع والحكم؛ وخاصةً في عهد ريغان؛ عندما أغدقت الدولة الأموال الطائلة على الدفاع، وخفَّضتْ الضرائب على الأغنياء.
ويخلص المفكر زريق إلى أنَّ الموضوع فائق الأهمية، ولا يمكن أن يعالج في مقال صحفي؛ فهذا يتطلب معارف دقيقة ومتجددة: اقتصادية، واستراتيجية، وسياسية، لا تتوفر إلا لاختصاصيين، ولا تنتظم إلا بجهود علمية متعاونة، وكثير من هذه المعارف يبقى محصنًا في الملفات أو الحواسيب الرسمية ومخفيًّا حتى على المتابعين.
ويرى أن الاقتصاد -على أهميته في عصرنا- ليس المعيار الأساس للرقي أو الانحطاط. ويرى أنه -في نهاية الأمر- مظهر ونتيجة أكثر منه عاملًا وسببًا لرقي المجتمعات أو انحطاطها.
وينتهي إلى القول: “فما لم يُتناول الموضوع في إطاره الحضاري وعلى المستوى القيمي، تأتي المعالجة محدودة وناقصة، ولربما موهِمة وخادعة”.
………
ينشر لاحقا الحلقة الثانية من المقال للكاتب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news