وأنت تطالع الدواوين الشعرية للدكتور سلطان الصريمي ستجد حالة وظاهرة الوفاء للأصدقاء راحلين ومقيمين بيننا تتصدر بدايات ومقدمات وافتتاحيات معظم قصائده في تلك الدواوين ، بدون استثناء بل هو في ديوانه “زهرة المهرجان”، يفتتح الديوان بهذا الإهداء:
“إلى الأسماء العظيمة .. والخالدة.. التي تصدرت معظم قصائد “زهرتي المرجانية” ، لم يكتف بالإهداء الذي يسبق كل قصيدة، بل جعل زهرته المرجانية هديته لهم.
كما جعل ديوانه(قال الصريمي)، هديته، للشهيد،جار الله عمر، ولاتخلو اغلب قصائده في دواوينه المختلفة من الإهداءات للأصدقاء وللوطن، وهو الوفاء الذي لا يكونه سوى الكبار في الروح وفي القيمة وفي المعنى، وهو تمام الوفاء ، فمن نذر نفسه لمحبة الناس ، لايحب النقصان، هو مسعى نحو الكمال، ذلكم هو ابن الصريمي، الشاعر والإنسان، رمز الوفاء الجميل.
الوفاء قيمة إنسانية عظيمة نادرة .. الوفاء فكر وثقافة وتربية وجدانية وجمالية تشكل على أساسها وعي وفكر وثقافة ابن الصريمي، وقد لمست وعشت هذا الوعي والفكر والسلوك بصورة حياتيه يومية معه منذ أكثر من نيف وخمسة عقود.
إن حالة وظاهرة الوفاء في أي إنسان كان إنما تكشف عمقه الوجداني الإنساني الطبيعي والسوي، بقدر ما تكشف روح المحبة في قلب من يعتمر وجدانه وعقله وسلوكه حب العطاء بالوفاء لمن حوله، والمحبة، كما في (لسان العرب)، لابن منظور (المجلد رقم (1)، ص544 المحبة : أحد أسماء الحب، أو هي أحد وجوهه، ومن يتسمون بالمحبة الحب، هم في الغالب الأعم من يتسمون بالتسامح، حيث التسامح أحد تجليات وتمظهرات الإنسان، الوفي، وكنت أرى، وأعيش حالة الوفاء السلطاني لجميع من حوله، ولذلك تميز الفارس والنبيل ابن الصريمي كما يقول صديق عمرنا المشترك عبدالباري طاهر، بأنه كان حمامة السلام بيننا”، بل ويزيد بأن حالة الصفاء والمودة والتفاهم والتقارب والتآلف في قلب الحركة السياسية والوطنية الديمقراطية، على طريق توحدها وتفاههما في مدينة الحديدة، كان للعزيز سلطان الصريمي، دور كبير في ذلك ، ومعه الصديق د. محمد عبدالجبار سلام، وهو الحديث الذي سمعته عن سلطان من الصديق الشهيد يحيى عبدالملك الأصبحي، الذي قتل في خميس مشيط / السعودية في حادث قتل أو موت غامض.
سلطان الصريمي كان حبل سرة المودة المفتوح والوفاء بلا حدود لجميع من حوله، لم أسمع في حياته من يذمه أو يقدح في شخصه حتى في قمة لحظات التوترات التي سادت الأجواء السياسية أواخر الستينيات وبداية السبعينيات والثمانينيات كان ابن الصريمي لحظة فرح بين الأصدقاء في السجن، لحظة هي تعبير عن لم الشمل وتوطيد لأواصر المحبة والوفاء بين الجميع.. الوفاء أحد أبعاد اسمه ووجوه هويته الشخصية والإنسانية.
وكل ذلك هو ما جعل منه شاعراً كبيراً وجميلاً ومحبوباً بين الناس. حين أسافر داخل البلاد أو إلى خارجها يكون السؤال عن مجموعة من الأسماء / الأصدقاء، وفي طليعتهم اسم، د.سلطان الصريمي ، ما يدل على مكانته ومحبته في قلوب من عرفهم.
الوفاء ظاهرة إنسانية ليست لصيقة بكل إنسان، وهي لا تكتسب بالجينات الوراثية بل تنمو وتكبر بالمحبة والعطاء وبالقبول بالآخر.
الغضب ظاهرة إنسانية كذلك، ولكن ما أقله وأندره في سلوك وحياة ابن الصريمي، والجميل هو غضبه الشفاف الذي لا تراه العين ولا يصل إلى سمع الآخر إلا كإشارة هي لمح رؤيه أو صدى لكلمات لا تكاد تسمع ولا تؤذي الأذن ولا تقلق الروح، ذلكم هو سلطان الوفاء، سلطان العشق.
الشاعر النبيل والكبير ليس هو فحسب صاحب الموهبة الشعرية والفنية واللغوية والجمالية، العظيمة، القادر على إنتاج وإبداع أرقى النصوص الشعرية، بل هو من يحضر المعنى الإنساني ليس في كلامه كتابته، بل وفي سلوكه الحياتي اليومي الإنساني، فما الفائدة أن يكون شاعرا مجيدا وكبيرا في الإنتاج الشعري، و صغيراً في المعنى الإنساني في الحياة، وهذا ينطبق على صورة المثقف الذي يدعي حمل راية التنوير والمدنية في المجتمع، وهو يفتقر لصفة الوفاء الإنساني.
إن الوفاء المتوحد بروح الشعر وفي حياة الشاعر بين الناس، هو من يجعل لشعره ذلك المعنى الرفيع والقيمة السامية في الشعر، وفي الحياة، فالشاعر ليس مجرد أدوات لغوية فنية جمالية تكنيكية، هو في الأصل حفر في معنى العمق الإنساني في الحياة.
ما يزال رفاقه – سلطان – واصدقاؤه يتذكرون روح التسامح والوفاء الذي كأنه. فقدت برحيله شيء من نفسي، ولكن لأحبه أكثر، ذلك أنه حضور عميق في الغياب، رحيل في الحياة.
فهو يقول وفاء عن البردوني :
“
وكنت كالغيث يحيينا إذا ضمرت
فينا العطاءات إحجاماً وخذلاناً
وكالكرامات إن شاخت عزائمنا
تعيد كل شيوخ العزم فتيانا
ويقول وفاء عن جار الله الشهيد التالي:
“
من يقل ان سراج الدار غاب
أو وقف قلب المدينة.. لا أصدق
هذا نور الكل .. قلب الكل
(جار الله) يأبى أن يغيب
ويكتب لرفيقه وصديق عمره عبدالجليل سلمان، أمين عام حزب الطليعة الشعبية التالي:
أبتعد ياحزن
هذا الراحل الباقي جليل
لم يعتده دمع الحزن
أو يعتده ضعف الأصدقاء
كان فوق الموت
فوق الخوف
فوق الانكسار
هكذا عشناه رمزاً شامخاً فوق الرموز
إنه الباقي جليل
ويقول عن صديقه الشاعر المغربي الكبير، إدريس الملياني:
هو الحلم أحضنه
وردة، وردة
ولي من مفاتنه أغنية
أطير بها فوق حزن البلاد
نهاراً
جهاراً
والثم من غيدها أمنية
* * *
هو الحلم
يجتاحني فيضه، فأغرق في راحتيه
ابتهاجاً وزهواً
كأني ملكت نياط القلوب، وتاه بي الوصل
سكراً وصحو
اً
ويقول عن الشاعر الرائد إبراهيم صادق:
كنت الماء
كنت النار
كنت الحرف والمعنى
بصدر الجملة الأولى
وكانت رحلة العصفور
في عينيك
مثل الدمع والمنفى
وكنت الملتقى الغافي
بعمق الافتراق
-الملتقى النازف-
وكنت الصدق والصادق
وفي وداع الفارس الرائد عمر الجاوي يقول:
إليك مفاتيح حزني مضرجة بدم القلب
محمولة بالفجيعة
عليك المحبة
أردت العلا
ورحت تحط على باسقات الأماني
كتاب الزمان
كسيف تعود أن ينشر الفجر
أنشودة للملا
رسمت على ومضة السيف
والصبر والخوف
كل التحدي المميت
وعن الشاعر القرشي عبدالرحيم سلام يكتب.
كيف لي أن أودع
فجراً أطل
بشمس أبت أن تغيب
وحرف توهج منذ بزوغ الجمال
على مقلتيه
وسيفاً يفوق الصباحات
إشراقة وابتسامة؟
وعن الشاعر والفنان عبداللطيف الربيع يقول:
تكبر فاجعتي عجزاً
عن التشكيل ، والتنقيط
في وجدان معشوقي
فأدمن أبتعادي عنه
مغصوباً على ألمي.
وعن المفكر والسياسي د. سالم عمر بكير يقول:
سالم بكير
تجف الينابيع حزناً
من العمق
عند مغيب النجوم
وحتى دموع القصيدة
* * *
و(دمون) تدفن أزهارها
زهرة تلو أخرى
حسرة تلو أخرى
وليل (الدمون)
يدمر في النفس
ما جمعته السنين
من الزهو والانتشاء
وعن صديقه القاص والروائي زيد مطيع دماج يقول:
يا (زيد) غير الدمع
يحتاج المقام
وغير الغمد يحتاج
الحسام
لكنها الأيام تكسرنا
فنشربها دموعاً
ونعزف أوتاراً من الآلام
نحسبها هجوعاً
تتشابه الأشياء في أحزاننا
الموت والوطن المطرز بالكفن.
ويكتب راثياً بدمع الوفاء، سيف أحمد حيدر:
تكحلت (سيفاً)
جرى في العيون
وكحل الولادة في حده
بلسم الفجرِ قبل البزوغ
وقبل حريق البخور
وقبل طقوس الريادة
* * *
له في جبين الصباح
مكان يطاول شمس النهار
ويلغي حدود المكان
وعن د. محمود سعيد (الوائلي) يكتب وفاء.
الفؤاد يعكس أحلامه
إلى اللا نهاية
* * *
و(محمود) كان إلى القلب أقرب
من تاجه
ولكنه الموت يختار من عشقنا
أفضله
ويتركني بين حزني عناداً
لكي ينتقي من فؤادي
أعز الفؤاد .
وعن زين السقاف الصديق والقاص والشاعر كتب:
كيف .. يا زين الصحاب؟
والهوى لا زال يشتاق الأغاني
مثلما يشتاق للنور الطريق
والمواويل التي تفرحنا
كنت لها الصوت الشارة
من عُلا حلمك كان الصبح يهدينا الألق
وعلى عشقك غنينا دموع الكبرياء
أنا يا زين من غيث
وأما أنت تحيا،
مثلما كل الصحاب الفارقونا
قبل أن يأتي الأوان
ومعاهم أنت تحيا
حاضراً كالفجر فينا.
تعمدت أيراد مقاطع قصيرة من كل قصائده الطويلة/ شبه الملحمية، في رثاء أحبته الراحلين فقط، من ديوانه “زهرة المرجان”، ولم أذكر اهداءاته “لطويلي العمر” ، المقيمين بيننا من الأصدقاء في ذات الديوان، متمنياً لهم حياة ملؤها العافية والسلامة.
وسترون أنها اهداءات خاصة، وجميع مفرداتها ومعانيها تدور حول ذات الشخص المعني بالوفاء، الرثاء، قصائد تتجه من أول حرف صوب ذات هوية المهدى إليه، المقصود بالرثاء/ الوفاء، لأننا تعودنا مع البعص من الشعراء حين لا يجد ما يقوله عن راحلٍ ما، فيهديه ما يتوافر بحوزته/ جعبته من قصيدة لا علاقة لها مباشرة برثاء الشخص المعني ، سوى عنوان الإهداء واسمه الملحق بالقصيدة، أما زهرة مرجان أبن الصريمي فهي ذروة التعبير الخاصة جدا، عن حالة الوفاء لمن حوله من الأصدقاء، وهو ذات الوفاء الحاضر في جميع دواوينه الأخرى .
وأنت تقرأ نصوص كلمته/ كلماته المهداة ترى المعني بالقصيدة منتصباً أمامك ترى ملامحه .. تراه يمشي ويتكلم ويكتب، تراه وهو في كل حالاته ترى صفاته يعاد تشكيلها أمامك بالكلمات، وبجميع ألوان خطوط الحبر/ الشعر، وكأنك أمام فنان تشكيلي يتفنن في رسم اللوحة بأبعادها الفنية، والروحية، والنفسية، والشخصية والتشكيلية الإنسانية، ذلكم هو سلطان الصريمي في اهداءاته الوفائية لمن يحبهم ولمن كانوا في حياته بسمة فرح.
الوفاء من صفات الأنبياء والرسل .. صادقون أوفياء بالعهود.
أن يكون المرء وفياً يعني أنه لا يغدر ولا يخون في السياسة، كما في الصداقة، ذلكم هو سلطان بن سعيد حيدر الصريمي.
قبل خمسة عشر عاماً، ونحن نتجاذب أطراف حديث المودة والصداقة والمحبة والرحيل لبعض من فارقونا قلت له مازحاً، يا سلطان هل سترثيني بقصيدة تليق بصداقتنا؟، فنظر إلي مستغرباً ومتأملاً وقلقاً ومرتبكاً، ومع ذلك فاجأني بالقول: أنت يا صديقي من سيرثيني، من سيكتب عني، أنت الأصغر سناً، والخالي من الأمراض، فرديت عليه سريعاً ممازحا،” أمسك الخشب”, من حينها فكرت في الكتابة عنه كتحية ونحن معاً على راحة بسيطة الأرض، تكريماً له، ووفاء لرحلة عمر مديدة، هي حتى رحيله تشكل – بالنسبة لعمري، ولعمره كذلك- ثلثي عمرينا، الذي لم يتبق منه سوى الثلث ، أجده بعد رحيله خالياً، خاوياً من المعنى، و ما تبقى من الوفاء، ومن ألق الروح الذي كنته وأنا معه وبجانبه، برحيله فقدت بهجة الفرح، وطعم الوفاء وروح الغناء الذي كان يطربنا به، حتى وهو في قمة التعب، كان يذكرنا بضرورة فعل الغناء، وكنا؛ أنا وأسرته، وهو على سرير التعب، نفتح شريط ذكرياتنا بأغانٍ كانت تطربنا وتجمعنا موسيقاها الطربية، وكلماتها الموحية والدالة، وذات الأثر فينا، وكان يردد بصوته المتعب والمحاصر بثاني أكسيد الكربون الخانق، بعض المقاطع متعمداً رفع الصوت، حين يستوجب ذلك رفع الصوت وكأنه يقول لي ولمن حوله من أفراد أسرته سأرحل عنكم تاركاً اسمي، هويتي في عنوانها البارز الذي بدأت به حياتي وهو الوفاء للغناء،وللاصدقاء، وللوطن، الوفاء لكم، ولكل من حولي، فخذوا عني ذلك وصية لا تخذلوني بالوفاء للوفاء .
حقاً، إن سلطان هو روح الوفاء العظيم، وهو الباقي منك أيها السلطان كمثال حياة كنتها، بعد أن غمرتنا بعطف وفاءك لنا ولمن حولك .
لك المجد، في صفحة الخلود أيها الوفي الجميل.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news