أخبار وتقارير
(الأول) متابعة خاصة:
أثار تفاعل مكثف من المغردين تساؤلات مؤلمة عن مصير عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين الذين اختفوا في زنازين نظام بشار الأسد، حيث أشارت الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن عددهم بلغ نحو 96,103 أشخاص، من بينهم 2,327 طفلاً و5,739 امرأة.
ومن بين أكثر السجون رعباً في سوريا، برز سجن صيدنايا العسكري، الذي يقع شمالي دمشق ويشتهر بتحصيناته الشديدة. تداول النشطاء مقاطع فيديو صادمة لمعتقلين محررين منه، بينهم شخص ظهر فاقداً للذاكرة وغير قادر على الكلام، في صورة تعكس وحشية التعذيب الذي تعرّض له المعتقلون.
وثقت تقارير حقوقية فظائع سجن صيدنايا، بما في ذلك الإعدام الجماعي، الاختفاء القسري، والتعذيب الذي لم يستثنِ رجالاً أو نساءً أو أطفالاً. ورغم تحرير الطوابق العلوية للسجن من قبل قوات المعارضة، تبقى الطوابق السفلية – المعروفة بالسجن الأحمر، الأبيض، والأصفر – محاطة بالغموض والسرية، مع معاناة المعتقلين من نقص حاد في المياه والطعام وسط أبواب معقدة وأبواب سرية تعيق الوصول إليهم.
يستمر الأهالي وفصائل المعارضة بمحاولات البحث والحفر حول السجن للوصول إلى المعتقلين، وسط نداءات متزايدة للمنظمات الدولية بالتدخل. وفي حين رُصدت غرف تعذيب ومشانق وآثار دماء حديثة، ما زال الأمل معقوداً على العثور على معتقلين أحياء في هذا المكان الذي يوصف بأسوأ سجن في تاريخ البشرية.
شهادة أحد الضحايا (شبح صيدنايا) من أول ليلة حتى آخر ليلة!
الليلة الأولى
جاء في كتاب (سجن صيدنايا خلال الثورة السورية) بشهادة منير الفقير.. دون أن أعلم، كان يوم 9 أيلول 2012 آخر أيامي في فرع الدوريات (216) الملاصق لفرع فلسطين. كنت قضيت هنا ثلاثة أشهر، بعد أربعة سابقة تنقلت فيها بين فرع المداهمة (215) والفرع الإداري (291). وهذه الفروع كلها تابعة لشعبة المخابرات العسكرية.
في هذا اليوم نادوا أسماءنا، أنا و”أولاد دعوتي” كما نطلق على مجموعة المعتقلين على ذمة قضية واحدة، وأعادونا إلى الفرع 291 حيث كانت بانتظارنا حفلة استقبال وحشية، ثم أنزلونا إلى الذاتية في القبو حيث أجبرونا على التوقيع على أوراق لا نعرف محتواها، وأعطونا “الأمانات” التي كانت موجودة مع كل منا عندما اعتقل، وأودعونا في غرفة وجدنا فيها كمية كبيرة من السكر الذي سررنا بلعقه بعد جوع.
جاء أحد المساعدين ليقتادنا إلى المهجع فلاحظنا أن وضع الفرع قد تغير خلال هذه الأشهر القليلة. كانت البلاد قد دخلت حالة الحرب. ففي حين كان عدد المعتقلين في المهجع الواحد في السابق من 60 إلى 70، فإننا وجدنا الاكتظاظ شديداً إلى درجة وجود 120 شخصاً في المهجع. أما نحن فوضعونا في الممرات وكان السجانون يركلوننا أثناء ذهابهم وعودتهم وهم يتوعدوننا بالإعدام في هذا اليوم ويشتموننا بألفاظ مقذعة.
لم نكن نعرف مصيرنا. كنا قد صدفنا أحد المعتقلين القادمين من سجن صيدنايا للتحقيق معه منذ عدة أشهر، وحكى لنا عن الوضع هناك فلم نصدقه. من وجهة نظرنا كان بعيداً جداً أن يتكرر ما جرى في سجن تدمر إثر أحداث الثمانينات.
بعد قليل نادوا علينا وقيدوا أيادينا إلى الخلف وأركبونا في سيارة نقل متوسطة (فان) حيث تعرضنا للضرب بأعقاب البنادق طيلة الطريق الذي كنا نأمل أنه سينتهي بنا في القضاء العسكري الذي توقعنا أن يفرج عنا كما جرت العادة في بداية الثورة. أنا ابن دمشق وأستطيع تقدير حركة السيارة التي وصلت بنا أخيراً إلى مقر الشرطة العسكرية في حي القابون. تحدث المسؤول عنا مع عناصر الحاجز ففهمنا أننا حُوِّلنا إلى المحكمة الميدانية. كانت هذه كارثة رفضنا تصديقها، فأقنعنا أنفسنا أن المقصود جماعة أخرى أو أننا سمعنا خطأً، لكننا وصلنا إلى باب هذه المحكمة المريعة حيث جرى لنا استقبال وحشي. أدخلونا إلى ذاتية المحكمة وأخذوا بصماتنا على أوراق لم نعرف محتواها أيضاً، فقد كانت أيادينا مقيدة إلى الخلف وكانوا يستعملونها للبصم! قبل أن يُدخلونا إلى غرفة القاضي الذي سأل كلاً منا بشكل مقتضب جداً، لا يتجاوز دقيقتين أو ثلاثاً للشخص. ثم أنزلونا إلى سجن الشرطة العسكرية حيث وجدنا مهجعين يحويان حوالي 200 شخص كانوا ينتظرون تحويلهم إلى أماكن أخرى، فهذا السجن مقر مؤقت أو موزِّع.
يدور حديث المعتقلين في العادة حول محورين؛ الوضع في الخارج والمصير. بعد أن غاب تفاؤلنا بالإفراج عنا تبادلنا الحديث مع بعض الموجودين لنبحث عن حالة مماثلة نستطيع القياس عليها وتبيّن مصيرنا، فقيل لنا إن تحويلنا إلى صيدنايا وارد جداً لكننا كذبنا على أنفسنا مرة أخرى: لماذا يأخذوننا إلى صيدنايا ونحن معارضون سلميون؟! لكننا سمعنا هنا معلومات أكثر عن هذا السجن على كل حال. لم يكن لدينا مانع في معرفة الفرق بين المبنى الأحمر والمبنى الأبيض رغم أن هذا الأمر “لا يعنينا”، فقد “قررنا” من عندنا أننا سنذهب إلى مكان آخر، كسجن دمشق المركزي (عدرا) أو ما يشبهه.
في الصباح التالي أذاعوا أسماء جميع الموجودين في المهجع ثم قسمونا إلى مجموعتين؛ قُيِّدت أيادي الأولى إلى الأمام وظلت رؤوسهم مرفوعة بشكل طبيعي واقتادوهم، أما نحن، وكنا 27 شخصاً، أولاد “دعوتنا” وأبناء قضايا أخرى تتعلق بالثورة ولكنهم قادمون من فروع أخرى، فقد قيدونا إلى الخلف وأجبرونا على حني رؤوسنا ثم طمشونا. كان الشاب الذي أمامي شجاعاً فتجرأ على سؤال أحد عناصر الشرطة العسكرية: “نحن لوين رايحين؟” فأجابه: “على صيدنايا، الله يعينكن”!
عندما جمعونا لانتظار دورنا في الصعود إلى “سيارة اللحمة”، ذات الصندوق المغلق المخصصة لنقل السجناء، أبلغت رفاقي بالخبر. كانت صدمة لي وللجميع، وبدأنا نقتنع أننا عدنا إلى سنوات الثمانينات.
في السيارة كنا نبكي، وأخذنا نستعيد ما كنا سمعناه عن هذا السجن ولم نصدقه. كان معنا أحد نزلائه، وهو في طريق عودته من المشفى، فصار يخبرنا معلومات أكثر تفصيلاً. كنت أكبَر رفاقي، إذ إنني من مواليد 1979 بينما كان أكبرهم من مواليد 1987، فحاولت التماسك وأخذت أقول لهم: “شدّوا حيلكن، خليكن قوايا”، واقترحت أن نردد بعض الأذكار وندعو الله خلال الطريق الذي طال وتعرّج.
في السجن
وصلنا إلى البوابة الأولى فسمعنا صوت الطاقة يُفتح. شعرنا أنهم نظروا إلينا وأغلقوها، ثم أخذت السيارة تصعد باتجاه المباني حتى توقفت على حاجز أعتقد أنه يتبع للسجن الأبيض، ثم توقفت أخيراً أمام الأحمر الذي كنا قد عرفنا أنه الأسوأ.
كان الهدوء مرعباً حتى قطعته جلبة تراكض وخطوات تقترب باتجاه السيارة، ثم تصعد درجها المعدني. فتح أحدهم الطاقة وقال: “انزلوا يا شراميط…” وكلمات أخرى مشابهة. تدحرجنا على الدرج فمنّا من وقع على وجهه أو ظهره أو يده، ومنّا من تمزقت ملابسه أو انخلع حذاؤه من قدمه. كان الضرب قد بدأ لكن همنا الأساسي كان ألا تفلت الطماشة عن أعيننا، فقد انزاحت عن عينيّ أحدنا فتلقى ضرباً مضاعفاً.
أذكر أننا مشينا حوالي خمسة أمتار ثم صعدنا درجتين ودخلنا إلى بهو. في الداخل أمرونا أن نتخذ وضعية السجود ونضع رؤوسنا على البلاط، وأخذوا يضربوننا بشكل وحشي بأنبوب التمديدات الذي يسمونه “الأخضر الإبراهيمي”. كنا قد سمعنا عنه بالأمس لأول مرة، وكان مؤلماً للغاية.
فك عناصر الشرطة العسكرية، الذين صحبونا من المقرّ في القابون، الكلبشات عن أيادينا بكل هدوء، سلّمونا إلى عناصر السجن التابعين أيضاً للشرطة العسكرية، وانسحبوا. فيما تولى الأخيرون ضربنا بعدما أمرونا أن يطمّش كل منا نفسه بكنزته. بدأنا نتلقى تعليمات القواعد هنا: يطمِّش الواحد نفسه برفع كنزته من طرفها الأسفل في الخلف الذي يُقلَب ليغطي الرأس، وبعد ذلك يضع السجين يديه على عينيه، لا من طرف الأصابع بل من راحة الكف، كي لا تكون هناك فرصة لأن ترى أحداً. كان التطميش هنا ذاتياً، ومن يفتح عينيه سيُعاقَب باقتلاعهما!
أجبرونا على خلع أحذيتنا ثم أمرونا بتسليم “الأمانات”. كان الضرب يصاحب هذه العملية التي تترافق أيضاً مع أخذ “الذاتيات”، أي المعلومات الشخصية: اسمك؟ اسم ابوك؟ اسم الشرموطة؟ وهنا يجب أن تذكر اسم أمك وإلا ستتلقى الضرب. عندما خاطبني بهذه الصيغة أول مرة أجبته: “نعم؟!” فضربني بالأخضر الإبراهيمي وكرر السؤال. تجاهلت الجواب فضربني مرة ثانية وكرر السؤال، فقلت اسم أمي.
أثناء “الاستقبال” يُعامل بعض السجناء بطريقة خاصة، كالأطباء والمهندسين تحديداً، وبدرجة ما المحامين والضباط والصحفيين، إذ يتعرضون لتعذيب متفنّن نتيجة ما يشعره السجانون تجاههم من نقص. في الحقيقة أنك تلحظ لديهم مجموعة من العقد؛ فهم طائفيون، مناطقيون، حاقدون طبقياً نتيجة الفقر، غير متعلمين، صغار في السن إذ تتراوح أعمارهم بين 18 و20 عاماً، وتظهر آثار كل ذلك في تعاملهم مع السجناء من حملة الشهادات العلمية أو الموقع الاجتماعي أو الميسورين مادياً أو الأكبر سناً… حتى صاحب الجسد الرياضي كان يثير غيظهم فيسعون إلى “كسر رأسه”!
صرّح بعض زملائي بمهنهم فتلقوا ضعفين من العذاب، أما أنا فتهربت من شهادتي في الهندسة بأن صرّحت أن عملي “كهربجي كمبيوتر”، وهكذا سجّلوا!
كان علي، أحد أبناء دعوتنا، لاعباً متمرساً في كرة السلة. كان ضخماً فلم يُدخلوه معنا إلى الزنزانات في البداية بل استبقوه ليتفننوا فيه. ضربوه بشدة ثم ركبوا فوقه وصاروا يتنقلون عليه. كان طيباً ومحترماً ورقيقاً للغاية فكسرته هذه المعاملة. بعد شهرين تقريباً سيستشهد بعد أن رفض جسده الطعام وقرر أن يموت.
كان واضحاً أن إدارة السجن تطلق للعساكر العنان في التعامل معنا، لأن ما عرفناه من رحلتنا في الأفرع وصيدنايا أن كل شيء ممنهج وبأمر أو تعليمات.
أنهينا تسليم الأمانات وتسجيل الذاتيات وحان الوقت لنتلقى درس “القطار”، وهو أن يتخذ السجناء وضعية الركوع ثم يمسك كل منا بخصر المعتقل الذي أمامه ووجوهنا إلى الأرض. أنزلونا درجاً قاسياً، ارتفاع الدرجة حوالي 20-25 سم. ربما كانت هذه هي الحالة الوحيدة التي لا يتلقى فيها السجناء الضرب في صيدنايا، أثناء اتخاذ وضعية القطار ونزول الأدراج أو صعودها، نتيجة ما قد يحدث من فوضى لو تعثر أحدنا وهوى بالباقين.
في الزنزانة
ظلوا يكررون “انزل درج… انزل درج” حتى وصلنا إلى الزنزانات التي تكون في العادة أول مكان يُودَع فيه سجناء صيدنايا. في الفسحة بين الزنزانات أمرنا أحدهم بخلع ملابسنا قائلاً: “بخلال 3 عدّات بدكن تكونوا متل ما نزلتوا من (….) أمهاتكن”. ريثما عدّ إلى الثلاثة كنا عراة، ومن لم يخلع كل ملابسه دمّيَ من الضرب. أمرنا السجان بالانبطاح على بطوننا ورفع أقدامنا وقال إن حصة كل منا عشر ضربات، فإن أصدر صوتاً نتيجة الألم سيضاعف العدد إلى 100. لا أعتقد أنهم اكتفوا بضرب أحد منّا عشر ضربات فقط. ربما لم يصل العدد إلى 100 ولكنه كان رقماً ضخماً ومتفاوتاً.
تختلف منهجية التعذيب في صيدنايا عما يجري في الأفرع. فهناك يهدف التعذيب، في الغالب، إلى الحصول على المعلومات، ويحدث أحياناً بقصد الإهانة والإذلال والتشفي، أما هنا فلا يهدف التعذيب إلى غير ذاته. صيدنايا مكان خُصِّص لمعاقبة الثورة السورية. الأمر الثاني هو أن السجان في الأفرع يستمر في الضرب حتى يحصل على ما يريد من معلومات حقيقية أو اعترافات كاذبة في حال التحقيق. فإن كان الضرب للعقوبة على عدم إطاعة الأوامر أو لمشكلة حدثت في المهجع أو لأي سبب آخر فإنه يستمر حتى يصرخ السجين الذي يُعدّ امتناعه عن الصراخ تحدياً. أما في صيدنايا فعلى العكس، يُفترض أن تتلقى الضرب وأنت صامت، وكلما صرخت زادت عقوبتك.
بعد حفلة التعذيب أمرنا أحدهم: “الكل واقفاً” فنهضنا. حشروا كل تسعة منا في زنزانة مربعة، مترين في مترين كما أتصور، فيها مرحاض يحتل ثلث المساحة ويفصله جدار عن باقي الزنزانة. في الليلة الأولى حشرونا في المرحاض فقط، بعد أن أبلغونا بمنع الكلام. على كل حال سيستمر معنا هذا الحظر طيلة بقائنا في صيدنايا. كانت ملابس كل مجموعة قد جلبت ورميت على باب زنزانتها، وكانوا يفتشونها عندما سمعوا صوتنا الخفيض من الداخل ونحن نحاول أن نتدبر أمر وقوفنا، نحن التسعة، في هذه المساحة الخانقة. فأمرونا بمد أيادينا تباعاً من “الشرّاقة” الصغيرة التي في أسفل الباب وتلقينا عقوبة إضافية بالضرب عليها.
صرخ صوت منهم مخاطباً السجناء الجدد ليتعرفوا على تعليمات السجن: هنا كل شيء بأمر… تأكل بأمر وتشرب بأمر وتنام بأمر وتستيقظ بأمر. أي تصرّف من عندك ستكون عقوبته شديدة. الكلام ممنوع والهمس ممنوع. عندما تسمعون حركة في الممر يجب أن تأخذوا فوراً الوضعية “جاثياً” داخل الزنزانة. أما عندما يُفتَح بابها فيجب أن يكون الجميع قد صاروا بهذه الوضعية داخل المرحاض، لا واقفين هناك. من اليوم فصاعداً أنتم “ولاد شرموطة”. وهنا يسأل كل زنزانة وكان على الموجودين فيها أن يجيبوا “نحن ولاد شرموطة”. لم يخرج هذا الجواب قوياً ومتحمساً كما اللازم من إحدى الزنزانات، فعوقبوا بشدة على ما رآه السجان تراخياً!
في كل زنزانة “قصعة” للطعام، يخرجها السجناء فارغة في الصباح وعندما يُوزَّع الأكل يتلقون أخرى، أو ربما يتلقونها نفسها بالصدفة. عندما دخلنا إلى زنزانتنا وجدنا قصعتها مليئة بالماء الذي يخالطه شيء من الصابون. كان أحد السجناء قبلنا قد وضع قميصه ليغسله فيها.
مرت الليلة الأولى. كان مستحيلاً أن ننام جميعاً داخل المرحاض الضيق الحاصر، ولذلك “خرج” بعضنا إلى المساحة المتبقية في الزنزانة وناموا هناك. كان هذا ممنوعاً الآن لكن أحداً لم ينتبه.
في اليوم التالي فُتح الباب ورموا لنا ملابسنا. كانت تلك من لحظات الفرح. بعد قليل صرنا نسمع صوت رمي ربطات الخبز على أبواب الزنازين ثم أمرونا بإخراج القصعات من الطاقات في أسفل الأبواب. توليت هذه المهمة فأمرني أن أمد يدي من الشرّاقة وتلقيت عليها ضرباً لأنني لم أكن سريعاً كفاية. كنا نتعلم، وكان تعلم نظام صيدنايا يتم عبر الضرب دوماً. بسبب تعرضي لإصابة سابقة في يدي قرر زملائي أن عليّ ألا أكرر إخراج القصعة الفارغة أو إدخال الممتلئة، لأن ذلك يكون مصحوباً بالضرب على يد من يفعل ذلك غالباً. رفضتُ، وفي اليوم الثالث حرصت على إخراج القصعة بأقصى سرعة فنجوت. أما عند استلامها ممتلئة ففشلت. كان عليك أن تفعل ذلك خلال أجزاء من الثانية، وقد تمكنت من ذلك، لكنها كانت تحوي ذلك اليوم بطاطا في الأسفل، وفوقها رز، وفوقه مربى. أثناء إدخالها علق بعض المربى بالحافة العلوية للطاقة فقال السجان: “مد إيدك”! ضربها ثم قال: “نضّف” فأخذت أمسح الحديد من الخارج وهو يهرس ببوطه يدي التي صارت تنزف.
تبيّن أن نظام صيدنايا أن أي وافد يجب أن يقضي في الزنزانات مدة تتراوح بين أسبوعين إلى ستة أشهر، ثم يُحوَّل إلى المهاجع فوق. قضينا في الزنزانة أكثر من خمسة أشهر كانت صعبة للغاية. كان للقادمين من سجن عدرا المدني استقبال خاص مكثف مع العبارات: “جايين من عدرا يا كلاب؟ مبسوطين كنتو؟ والله لننسيكن عدرا”، وهو ما انعكس علينا، فرغم أننا كنا قادمين من الفرع إلا أن المجموعة التي قدمت معنا كانت محوّلة من عدرا، وبعضهم كان متهماً بمحاولة القيام باستعصاء هناك، فحسبونا عليهم وأصابنا ما أصابهم من استقبال ومن طول إقامة في الزنازين.
يوميات الزنزانة
انتخبني الزملاء رئيساً للزنزانة، ومنذ يومنا الثاني قررنا أن نضع خطة لحياتنا التي لا نعرف كم ستستمر هنا. في اليوم الأول لم نصلّ، أو صلّينا عراة فرادى واقفين، وفي اليوم الثاني قررنا أن نصلي على الشكل التالي: صلاة الفجر منفردة، وصلاتي الظهر والعصر جمعاً، وكذلك المغرب والعشاء. لم نكن نعرف اتجاه القبلة فاجتهدنا في تقديرها. سيأتي يوم نزور فيه سجن صيدنايا ونتأكد إن كانت قبلتنا صحيحة أم لا. اجتهدنا بحسب الظرف في الحقيقة، إذ قررنا أن نصلي جلوساً، وأن تكون القبلة باتجاه الحائط كي تكون ظهورنا للباب، فإن أتى السجان وجدنا جالسين في الوضعية المطلوبة أصلاً. كنا نصلي جماعة. كانت تلك الأيام من الأكثر قرباً إلى الله. حافظنا على الأذكار. نظمنا برنامجاً لتبادل تحفيظ القرآن الكريم ومراجعته، حفظنا كثيراً من السور. وكانت كثير من معانيها تنسجم مع حالتنا، في رفع المعنويات وشد الأزر والحض على الصبر والثبات والإصرار على حمل الحق، مما كان يعطينا قوة رهيبة.
كنا نواظب على تكرار بعض السور، كسورة “المُلك” في الصباح و”الواقعة” مساء و”الكهف” يوم الجمعة. أذكر أننا نسينا قراءة سورة الملك في إحدى المرات وغفا صديقنا علي قليلاً فرأى في نومه سجاناً يهم بضربنا بأنبوب “الأخضر الإبراهيمي” فلا يستطيع ذلك حتى قال حانقاً: “كفوا عن قراءة سورة الملك فهي تمنعني من ضربكم”. بعد هذا دأبنا على تكرار هذه السورة بالتحديد. وسبحان الله؛ في المرات القليلة التي سهونا فيها عن قراءتها كان أحدنا يتلقى عقوبة!
لاحظنا وجود مياه في التمديدات وقطعة صابون صغيرة فتناوبنا على الاستحمام في المرحاض. كان يجب أن يتم هذا بسرية أيضاً، فلو سمعوا صوت صب الماء سيكون عقابنا شنيعاً لأننا استحممنا دون إذن!
عند النوم اضطررنا أن يبقى علي في المرحاض بسبب ضخامة جسمه، وكان بالإمكان أن ينحشر ستة في أرض الزنزانة بطريقة “التسييف”، وهي أن ينام الواحد على جنبه ونتتالى متعاكسين بالرؤوس والأقدام، ويبقى اثنان واقفين، وهكذا نتناوب. تلصق هذه الطريقة الأجساد ببعضها مما يبعث قليلاً من الدفء، لكن النوم لساعات على طرف واحد، دون إمكانية التقلب إطلاقاً، كان مرهقاً.
مع استمرارنا في الزنزانة صارت أمورنا تتطور فأخذتُ، وشابين آخرين، نقوم ببعض التمرينات الصباحية بقدر ما تسمح مساحة البلاطة التي يقف عليها كل منا، كي نحافظ على لياقة أجسامنا قليلاً. كان هذا ممنوعاً أيضاً وكان علينا أخذ الحيطة.
يؤمن كل المعتقلين في سجون الأسد بالأحلام، أو فلأقل معظمهم، مهما كانت درجتهم الثقافية أو التعليمية، لأن السجين يبحث عما يدعمه. وفي كل زنزانة أو مهجع يظهر “مؤول” للمنامات أو مفسر لها، حتى لو لم يمتلك أي خلفية سابقة في هذا المجال، لكنه يرث هذه “الخبرة” غالباً من شخص كان هنا ثم انتقل، ويأخذ بتأويل الأحلام وفق بعض الثوابت، فإن رأيت أنك في مدرسة أو جامع فهذا يشير إلى السجن وإن خرجت منهما فهذا يعني الإفراج عنك… والكثير من التفاصيل التي يعرفها السجناء السابقون.
في حالتنا بقي “مؤولنا” في الفرع. كنا قد تعلمنا منه بعض الأشياء فأدرجنا في برنامجنا فقرة يومية باسم “شفت بمنامي” تأتي بعد الإفطار. كان كل منا يروي ما قد يكون شاهده في الليلة السابقة وكنا نتبادل التفسير جميعاً، بسبب عدم وجود “مؤول”، بالاستناد إلى ما سمعناه من هذا الشخص أو ذاك في الأفرع. كانت فقرة مسلية. كنا نشترط في الحلم المرشح للتأويل ألا يحوي طعاماً أو شراباً، لأننا اعتبرنا وجودهما دليلاً على مجرد انشغال بال الحالم بهما. وكذلك أسقطنا الأحلام التي يرى فيها المرء نفسه يخرج من السجن، لأنها نابعة من هذه الرغبة بشكل مباشر. كنا نفضّل المنامات التي تحوي رموزاً من خارج حياتنا اليومية.
كنا نتلقى زاداً إيمانياً بالصلاة والأوراد عندما نستيقظ، ثم زاداً جسدياً بالطعام، فزاداً نفسياً من هذه الفقرة. بعدها كان أحدنا يدرّس الآخرين موضوعاً يعرفه؛ فأجرينا دورة في التجويد، ودورة في تاريخ سورية المعاصر الذي كان كثير من شباب الثورة يجهلونه نتيجة عدم تحدث أهاليهم في موضوع كهذا لأسباب أمنية. كنا نتناقش يومياً حول الثورة وحول تقييم المرحلة السابقة منها. كان كل ذلك يجري همساً بالطبع. لم يكن كل ذلك يستغرق وقتاً طويلاً، ربما ربع ساعة أو نصفها للفقرة، لكن وقتنا كان مستهلكاً بالحذر والترقب والانتباه وتحليل الأصوات الآتية من الخارج واتخاذ الوضعية جاثياً في أي لحظة يُفتَح فيها الباب.
من لحظات الرعب التي يعيشها السجين لحظة سماع صوت الباب، أو سماع صوت فتح الشرّاقة السفلية الذي سيليه صوت السجان: “يلا… عرصة عرصة كل واحد يمد إيده”. وهنا كان علينا أن نمد أيادينا بالتتالي لنتلقى عليها الضربات. كان السجانون يخلعون أبواطهم الثقيلة أحياناً ويسيرون بهدوء كي يسمعوا إن كان أحد ما يهمس، وفجأة يقطع الصمت المطبق صوت الشرّاقة وهو يُفتح مع الأمر: “مد إيدك”، ويبدأ الضرب. كان صوت فتح أي زنزانة ثانية أمراً مرعباً أيضاً، فهو يعني اقتياد نزلاء منها إلى مكان لا يعلمه إلا الله.
أحياناً كان السجان يأمر بمد الرأس من الشرّاقة لا اليدين، ويأخذ بضرب المعتقل. وأحياناً كان يأمر بمد الرجلين فيربطهما ويشدهما إلى مقبض الباب في الأعلى بقوة فتصبح الحافة العلوية للشراقة على الساقين مما يسبب ألماً مضاعفاً يضاف إلى ألم الضرب. وفي إحدى المرات أمر زنزانة مجاورة بمد أياديهم بالتتابع فجاءه صوت من أتى دوره من الداخل، وهو رجل من بانياس سنتعرّف عليه لاحقاً في المهجع حيث سيتوفى رحمه الله، يقول: “يا ابني أنا زلمة كبير… عمري 55 سنة” فأجاب السجان: “إذا كبير على عيني… عن كل سنة كبل”، وهكذا فعل.
رغم ذلك كانت هناك أصوات جميلة، كصوت خلخلة المياه عندما تعود إلى السريان في التمديدات بعد انقطاع، وصوت ربطات الخبز وهي تُرمى على أبواب الزنازين صباحاً. كان هذا الصوت موسيقى قائمة بذاتها في أسماع السجناء الجائعين، ولحناً ما بعده لحن! كنا نحمد الله يومياً على هذا الصوت، ففي بعض الأيام جرت اشتباكات طاحنة على الطريق المؤدي إلى السجن فانقطع تزويدنا بالطعام. بالتدريج أخذنا نعرف إن كانت ربطة الخبز كاملة (ثمانية أرغفة) أو ناقصة من صوتها وهي تحط على الأرض بعد أن يرموها. من الأصوات الجميلة جداً أيضاً صوت العصافير الذي كانت يُسمع أحياناً فيخرجنا مما نحن فيه من عزلة. للأسف، كانت بعض الزنزانات في الجهة الأخرى محرومة منه. ومنها أيضاً صوت طقطقة أو تحميص البوشار الذي كان المجرمون في الخارج يعدّونه لأنفسهم. كان جميلاً من جهة ومزعجاً من جانب آخر، فقد كنا نتذكر البوشار، ونشم رائحته أحياناً، ونحن نتضور جوعاً بسبب كميات الطعام القليلة جداً جداً. إذ غالباً ما تكون حصة الواحد من الرز، على سبيل المثال، مقدار ملعقتين من الرز المطهو بشكل سيئ، حتى أننا نسمع صوت سكبه في القصعات وكأنه رز قاس غير مطبوخ. كانت حصة الواحد من الزيتون نصف حبة، أو حبة في أحسن الأحوال، مطعّمة بالمازوت في الغالب. كنا نعاني من مجاعة حقيقية. كان ما يحضرونه لنا، نحن التسعة، يكاد أن يكون نصف ما يأكله الشخص المعتدل يومياً عادة. ولذلك صرنا نأكل الأوراق الخضراء التي قد تأتي مع الزيتون أو البرتقال، وقشر البيض الذي اكتشفت أنه طيب جداً، وكذلك قشر البطاطا.
لم يكن في الزنازين أي شيء يمكن أن يشغلنا أو يسلينا، فقط جدران صلبة وأرض مبلّطة، وكان عليك أن تخترع شيئاً ما. باعتبار أن اختصاصي معلوماتية كنت أكتب بإصبعي على الجدار بعض المعادلات والبرامج، وإن استطعت الاستفراد بمساحة لو ربع بلاطة كنت أكتب عليها مذكراتي، كتابة وهمية طبعاً إذا لا توجد لدينا أي وسيلة للكتابة فكنا نتخيلها ذهنياً.
في الزنزانة التي بجوارنا، ورغم ندرة الطعام، اقتطعوا منه جزءاً أعادوا عجنه وصنعوا منه أحجاراً للعب الضامة ليملأوا الوقت قليلاً. ولما كشف السجانون ذلك عوقبوا بإغراق زنزانتهم بالماء في ظروف شديدة البرودة. استمر ذلك لثلاثة أيام ولم يُرفع إلا بعد أن توفي أحدهم. في زنزانة أخرى كان هناك شاب يكثر من رجاء السجانين ألا يضربونه، وكلما أمره السجان بمد يده كان لا يفعل وينطلق في القول: “كرمال الله يا سيدي”. في كل مرة يذكر هذه الجملة أو مرادفاً لها كان السجان يشتم الله. ضجر هذا أخيراً وأخرجه قائلاً: “بدي آخدك على عزرائيل”. وبالفعل، اصطحبه ولم يعد به أبداً. وعندما رجع السجان قال لزملاء زنزانته: “شايفين اللي بيحكي شو بيصير فيه؟ بيروح عند عزرائيل وما بيرجع. ومنّه بيفضّي محل بالزنزانة لرفقاته”.
كانت لزنزانتنا ميزتان عظيمتان؛ الأولى هي الثقب الذي كنا نرى من خلاله وجوه المجرمين، والأعمدة الملطخة بدمائنا ودماء من أتوا قبلنا وبعدنا. ما زلت أحتفظ برقم الزنزانة سراً حتى الآن كي لا يشيع، فربما كان هناك من يستفيد من هذا الثقب حتى الآن. الميزة الثانية هي أجواؤها الإيمانية التي كانت تمنحها حماية خفية. في إحدى المرات قرروا أن يعذبوا كافة نزلاء الزنزانات، كنا في الشهر الأول وكانت درجة الحرارة – 5. كان الوقت ليلاً عندما نزلوا وصاروا يفتحون طاقة الزنزانة ويقولون لرئيسها: “يا عرصة الزنزانة… خلي الكل يشلح بالزلط وجمّع تيابهن، وبعدين أنت اشلح وطالع التياب لبرة”. بعد أن يصبح السجناء عراة كان يأمرهم بالاستلقاء على أرض الزنزانة متعاكسين. كنتُ قلتُ إن المساحة لا تكفي الجميع ولذلك كنا ننام بالتناوب، لكن السجان كان يأمرهم هذه المرة بالتراصّ حتى يصبحوا جميعاً مستلقين في أرض الزنزانة مهما صعب الأمر، ثم يوعز إلى رئيس الزنزانة أن يفتح الحنفية لإغراق الأرضية بالماء البارد. حتى لو ذهب السجان وعاد كان يجب أن يستمر جريان الماء الذي لا يتوقف في العادة إلا بموت أحد السجناء. عندما أخذنا نسمع الأصوات يومها همستُ لمن معي أن نتوجه بالدعاء إلى الله ليحمينا. وبالفعل، عندما وصل إلى زنزانتنا فتح الطاقة ونظر إلينا. كنا مستيقظين ولكننا تظاهرنا بالنوم الكامل. تأملنا السجان طويلاً ثم أغلق الطاقة وذهب.
بين التسعة في الزنزانة كنا سبعة من دمشق وتلقينا العديد من الزيارات. وفي كل منها كنا نطلب من أهالينا كميات مضاعفة من الملابس لتكفي الكل، فكنا مكسيين بشكل جيد وبعدة طبقات. في أحد الأيام رموا لنا عبر الطاقة ماكينة حلاقة موصولة بكابل إلى الخارج وأمرونا أن نحلق لبعضنا. خلعنا ملابسنا أثناء ذلك فوصلت إلى السقف بسبب كميتها. ولما فتح السجان الطاقة ورآها استغرب. كان من المنطقة الشرقية، وكان يتحول إلى مجرم عندما يكون مع السجانين العلويين، أما عندما يكون وحيداً فكان يبدو لنا معقولاً إذ يكتفي بالشتم دون الضرب. سألنا عن مصدر هذه الملابس وأظهر الغضب وتوعّد بمنعنا من الزيارات، وهو الأمر الذي كان أكبر منه على كل حال، ثم قال إنه سيطلب منّا في المستقبل ملابس لمن لا يملكها فوافقنا بحماس. كان أكثر سجناء الزنزانات عراة أو شبه عراة، وربما ظلوا لأشهر على هذه الحال. في الأيام التالية صرنا نضع ما يمكن أن نستغني عنه من ملابس في الزاوية، وكنا نسمع هذا السجان وهو يفتح طاقة إحدى الزنزانات ويقول لأحدهم: “ولا ليش مانك لابس؟” ثم يأتي إلينا فيطلب كنزة أو قميصاً. الحمد لله تمكنا بذلك من مساعدة آخرين في الزنازين المجاورة.
في أحد الأيام خرج أحدنا إلى الزيارة فاستغل الفرصة وقال للسجان نفسه: “سيدي نحن صرلنا 5 أشهر هون بالزنزانة، وأنتو قلتولنا رح ننسيكن عدرا، ونحن مو جايين من عدرا أساساً. نحن جينا بالصدفة مع سيارة اللي جايين من عدرا”. ذهب السجان وأبلغ رئيسه فقرروا نقلنا إلى المهاجع بعد أن مدحوا سلوكنا خلال الأشهر الماضية ووصفوا زنزانتنا بأنها “مثالية”.
كنت قلت إننا كنا في الزنزانة سبعة من “أولاد دعوى” واحدة، واثنين قدما معنا من القابون ودخلنا الزنزانة سوياً حيث تعرّفنا عليهما. خلال خمسة أشهر من الإقامة اللصيقة عرفنا عنهما كل شيء تقريباً وأدق التفاصيل والخصوصيات والسير العائلية، لكننا لم نعرف شكليهما ويعرفوا وجوهنا بدرجة كافية إلا في المهاجع. هناك صرنا نسأل بعضنا: مين أنت؟ أنت فلان؟ وذلك بسبب الظلام شبه المطلق في الزنزانة.
معركة الجوع
اقترحت على زملائي أمراً أسميته “إدارة معركة الجوع”. فهم يجوّعوننا وعلينا أن ندير هذا الصراع بحكمة كي ننتصر فيه أيضاً. ورغم أن شهيتي كانت أعلى منهم، وكنت أكثر بدانة من معظمهم قبل السجن، لكنهم كانوا أقل صبراً بسبب أعمارهم الصغيرة نسبياً، فلم يكونوا يطيقون ادخار شيء من هذا الطعام القليل. أما أنا فقررت تأجيل بعض الخبز إلى الليل، فكانت عندي وجبة عشاء كل يوم. كانت لحظات انتظار العشاء، المكون من الخبز فقط في الغالب، من أمتع اللحظات! وقتها كنت أفكر: بعد قليل سآكل! وكأنني تلقيت دعوة إلى وليمة في أهم مطاعم دمشق.
في أحد الأيام كنت قد ادخرت نصف ربع رغيف للعشاء. كنت وضعته في كيس من النايلون وخبأته وراء خزان المياه كي لا يلمحه السجان إن دخل، ولأنه لا يوجد مكان آخر في الزنزانة. كنت قد قلت إننا ننام بالدور. كان معنا شاب سلفي، سيستشهد لاحقاً أيضاً، وجاع يومها. هل قلت “جاع”؟ الأصل في حياتنا هناك هو الجوع، لكن فلأقل إن الجوع بلغ منه مبلغاً شديداً وهو ساهر، فيما كنت بين النائمين أحلم بنصف ربع الرغيف الذي سأتناوله. عندما صار وقت استيقاظي نهضت وذهبت إلى الحمام وأخرجت الكيس فوجدته فارغاً. في الصباح سألت الزملاء فلم يجب أحد، أما هو فسعى إلى تغيير الحديث. قلت إنني لن أسامح من حرمني من القطعة التي كانت معدتي تتقطع وأنا أحلم بها، فحاول إسكاتي ثم صار يبكي. لم يعد عندي كلام، فلو لم يكن مضطراً لما أكل الخبزة.
يُتطلّب في من سيقسم حصص الطعام أن يكون عادلاً ودقيقاً ونظيفاً، لأنك لست على استعداد للتخلي حتى عن ورقة الليمون أو لحاء حز البرتقال. تحتاج إلى كل شيء كي تستطيع الاستمرار في الوقوف على قدميك. كانت الكثير من الخلافات تنشب نتيجة الاعتراض على قسمة الأكل. في إحدى المرات غضب اثنان منا وقررا أن يأكلا وحيدين، في زنزانة طولها متر ونصف كانا يأخذان زاوية، ثم عادا فندما وقررا أن يهديا شيئاً من حصتهما كل يوم لأحد. ففي هذه المرة يهديان فلاناً صندويشة رز بطول الإصبع، وفي المرة القادمة يهبان آخر زيتونة، وهكذا.
بسبب الجوع الشديد، سواء في الزنزانات أو لاحقاً في المهاجع، صرنا نحلم بالأكل. ثم تطور الأمر إلى أننا صرنا نتداول سيرة الطعام عبر تعلم الطبخ. لم أكن أجيد طهو شيء في حياتي، لكننا قررنا هنا أن يعلّم كل منا الآخرين ما يجيده من طبخات. كنا نحلم بالطعام، واعذرني في هذا التعبير، كمن يمارس العادة السرية. كنا نتخيل الطعام ونكاد نتلمظه، وفي الليل كنا نشعر بطعم الوجبة الخيالية في أفواهنا. مثلاً أنا من عشاق “الشاكرية”، ولشدة ما كنا نتحدث عنها ونتغزل بها ونتخيلها كنت أستيقظ أحياناً شاعراً بطعمها وكأنني تناولتها للتو!
في الزنزانة كان معنا شاب من اللاذقية، سيستشهد لاحقاً، وفي المهاجع كان معنا عدة شباب من اللاذقية وبانياس، فصاروا يحدثوننا عن طرق الصيد وأنواع السمك وأساليب طبخه. كنا بحاجة إلى هذا كي نشغل يومنا أيضاً. وكنا نخوض جدالات في تفضيل طبخ كل مدينة أو منطقة على الأخرى وهكذا. كانت المنافسة الأقوى بين المطبخين الشامي والحلبي، ولا سيما في النقاش حول “شيخ المحشي”، وقد تعلو الأصوات ويشتد السجال، لكننا كنا نعدّ هذه اللحظات من أسعد أوقاتنا لأننا نعيشها مع حديث الطعام. في مرحلة معينة يتوقف تفكيرك في الخروج من السجن، وتغيب عن بالك النساء، وتبقى فيك رغبة واحدة: “أريد أن آكل”!
في إحدى المرات كنا نتخيل كيف يطهو الحلواني المبرومة والبقلاوة وغيرها من الحلويات الشرقية. لم يكن أيٌّ منا يعرف الطريقة لكننا صرنا نتوقع. يومها جاءت لأحدنا زيارة، ولما سأله أهله عن أحواله أراد أن يطمئنهم فقال إنه بخير لدرجة أنه كان يتبادل الحديث مع رفاقه منذ قليل عن البقلاوة والمبرومة والهريسة. كانت زيارتي بعده، ولما جاؤوا لإخراجي كان في رحلة العودة. بطحوه على باب الزنزانة وصاروا يضربونه، فالكلام ممنوع في الزنزانة أصلاً، عدا عن أن هذا “الوقح” كان يتخيل البقلاوة والنمورة!!
لم نذق أي نوع من اللحم طيلة وجودنا في الزنزانة، أما في المهاجع فكانوا يضيفون أحياناً بعض الدجاج الغريب، إذ لا أذكر منه سوى الجلد والعظم.
في أول يوم لنا في المهجع رأيت شخصاً يغطس رأسه في كيس القمامة الموجود في الحمام وسط صوت خشخشة، وتبينت أنه كان يأكل بقايا العظم. فوجئت وقتها لكننا لاحقاً سنأكل العظم ونبيعه ونشتريه، كما سأبين في ما بعد.
عندما تُخرج الزنازين قصعاتها كانوا يجمعونها في وسط الممر ويبدأون بسكب الطعام فيها، الرز والمربى والبطاطا معاً، وهكذا. كانت القصعة صغيرة ويجب أن يكفي محتواها تسعة أشخاص.
يتولى “السخرة” توزيع الطعام، وهم سجناء المخالفات العسكرية الموجودون في المبنى الأبيض. في إحدى المرات لمحنا من ثقب في الباب أحد هؤلاء وقد انتهت كمية المربى في التنكة التي بين يديه ولا زال عليه أن يسكب منها لقصعتين. احتار قليلاً ثم بصق في التنكة وأخذ يحرك بصاقه في ما علق فيها من مربى جامد حتى تحصّل على كمية صبّها في القصعتين. لم ندرِ إن كانت القصعة التي وصلت إلينا إحداهما ولكننا أكلناها طبعاً، إذ لا يمكن الاستغناء عن المربى كمادة أساسية تحوي السكريات التي تساعدنا على الاستمرار. كانت الوجبة التي تحوي مربى عرساً، لكنه لا يقارن بالعرس الحقيقي الذي يكون عند وجود الحلاوة. كانت من نوعية لا يمكن أن تتناولها في الخارج لشدة رداءتها، لكنها كانت كنزاً هنا. أما العرس الأكبر فكان في المرات النادرة التي جلبوا فيها “بقلاوة” في بعض المناسبات الوطنية، كعيد الجيش أو ذكرى استيلاء حزب البعث على السلطة في الثامن من آذار. كانت حصة الواحد نصف قطعة، وكانت سيئة جداً، لكنها كانت لذيذة!
علي، الشاب الضخم الذي حكيت عنه سابقاً، والذي كان يملك محل ألبسة نسائية في أحد أرقى أحياء دمشق، وكان منعّماً؛ لم يتأقلم مع الطعام بسبب قذارته، وأصيب بصدمة نتيجة ما مر عليه، فعانى من تجفاف وإسهال شديدين، وصار يتقيأ كل ما يأكله، حتى استشهد.
في المهاجع كانوا يتعمدون أن يسكبوا الطعام على الأرض ويدعسوا في وسطه بأبواطهم ليقهرونا أو بسبب غيظهم مما يحصل خارج السجن. معنا صيدلاني كان يشغل منصباً مرموقاً في فرع شركة أميركية للأدوية بدمشق، وكنا قد وكّلناه بتقسيم الطعام بسبب حرصه على النظافة قدر الإمكان. في أحد الأيام أدخلوا الطعام. كنا في الوضعية “جاثياً”، وجوهنا إلى الحائط وأيادينا على عيوننا، لكنه لمحهم يضعون القصعة إلى جانب الحمام الذي كان هنا أعلى بحوالي 10 سم، ثم يقشطون الماء الموجود في أرض الحمام والمرحاض فيصبونه على طعامنا الذي في القصعة، ثم خلطوا الماء الملوث بما في القصعة من مرقة شوربة العدس والرز، وبعدها رموا الطعام في الأرض وداسوا عليه وفعسوا البيضات الست التي أحضروها لحوالي 25 شخصاً، وخرجوا. التفتنا بعد قليل. لم يكن أحد منا قد رأى شيئاً باستثناء هذا الشاب الذي انشغل بأداء مهمته في قسمة الحصص وتوزيعها كالعادة. وبعد أن تأكد من أننا أنهينا طعامنا أخبرنا. غضب البعض لأنهم لم يعرفوا قبلاً ولكنه أجاب: كنت مضطراً لإخفاء الأمر كي تستطيعوا تناول الطعام، فإن لم تأكلوا ستموتون.
في إحدى المرات أتى سجان وسألنا: “مين مو عاجبه الأكل؟”. كانت تلك أول مرة نسمع أحداً يخاطبنا بلهجة لطيفة في صيدنايا، مما أغرى واحداً منا أن يتكلم. أومأنا إليه فأسكتناه لأننا لا نأمن مكر السجانين، استغرقنا بعض الوقت حتى هدّأناه وأجبنا بدلاً منه أن الطعام جيد. في زنزانات أخرى تورط البعض فأعربوا عن عدم رضاهم ودفعوا ثمن ذلك غالياً بمد أيديهم وأرجلهم من الطاقة وتلقي الضربات.
كان الحرمان من الطعام أمراً سهلاً عليهم ولأوهى الأسباب، فإن تأخرت قليلاً في سحب القصعة تتلقى الضرب على يديك ويأخذونها منك وتُحرم الزنزانة كلها من الطعام حتى الغد، وربما ليومين.
كما قلت، تميزت زنزانتنا بوجود ثقب غير مرئي في بابها، كنا نرى منه أنهم يعطون زنزانتين مواجهتين لنا قصعات أكبر وكميات طعام أكثر بقليل. في المهاجع سنعمل على مقاطعة معلوماتنا مع آخرين قالوا إن فيهما سجناء خاصين أو مميزين أو خطرين. هناك شك في أن يكون المقدم حسين هرموش، الضابط المنشق الشهير، في إحداهما.
انقطاع المياه
كانت المياه تنقطع كثيراً، وعندما تأتي كنا نستحم في المرحاض بالماء شديد البرودة هناك. كان الصابون نادراً، فقد يعطون الزنزانة كلها ربع لوح من الصابون.
انقطعت المياه مرتين لمدة طويلة في الزنازين، ومرة طويلة أو مرتين في المهاجع. في المرتين في الزنزانة شارفنا على الموت عطشاً. امتلأ المرحاض بالفضلات وصرنا ننظف أنفسنا بقطع قماشية من قمصاننا. لكن الجيد في الأمر هو أن برازنا كان قليلاً جداً بسبب نقص الطعام!
في إحدى المرات ازداد العطش ووصل إلى درجة غير مسبوقة. في صمت الزنزانات الرهيب سمعنا صوت أحد السجناء وهو يستغيث ببطء: “مي”، فجاوبه ثان من زنزانة مجاورة: “مي”، وردد ثالث من مكان آخر: “مي”، وتجرأ أحدنا فصاح “مي… مي… مي”. صار الجميع يصرخون بهذا النداء الخالد! سارع السجانون إلينا، وشعرنا بحضور شخصية مهمة، لعلها مدير السجن أو نائبه، الذي قال: “اخرس ولاك. والله لخليكن شهر بلا مي، والله لتموتوا من قلة المي…”. ظننا أن هذا ما سيحدث بالفعل، لكننا صرنا نسمع، بعد ربع ساعة، قرقعة التنكات يحملها السخرة وينزلون بها الدرج إلينا. أمرونا بمد القصعات فمددناها وملأوها ماء. من سوء حظنا في ذلك اليوم، وقد قلت إن القصعات تدور الزنازين دون تحديد، أن تلك التي عندنا كانت مكسورة. تشرشرت نصف كمية الماء على الأرض وشربنا النصف الباقي، ثم قرّبنا وجوهنا من البلاط القذر المبلل وأخذنا نلحسه!!
عندما كانت المياه تنقطع لهذه المدة كانت تتبقى كمية قليلة جداً في التمديدات، فكانت المعركة بين الزنزانات تحتدم ويفوز فيها من يستطيع الشفط أقوى من خرطوم المرحاض ليجتذب هذه القطرات.
كانت الكثير من المراحيض تتعطل فتُسدّ ويتعثر تصريفها لسبب أو لآخر، وخاصة في الزنازين، فتفيض على داخل الزنزانة. قد يستمر هذا الوضع لأشهر حتى يُخرجهم السجانون يوماً فيضربونهم لأنهم تسببوا بهذا العطل، ثم يقومون بإصلاحه. كُسرت حنفية المرحاض بيد أحد المعتقلين بالصدفة فتعرض لعقوبة وحشية.
في بعض المرات كانت المياه تنقطع بتعمد من الإدارة، وفي مرات أخرى كان الانقطاع اضطرارياً بسبب أذية أصابت خط التمديدات الواصل إلى السجن أو إلى المنطقة. في إحدى المرات كان القطع متعمداً وطال حتى تعبنا من العطش، وكان السجان يريد معاقبة زنزانة مجاورة، لسبب ما، بإغراقها بالماء. يجري ذلك بأن يفتح الشراقة ويأتي بتنكات مياه ويأخذ بسكبها إلى داخل الزنزانة التي لا تحوي بالوعة. هكذا حتى تصل المياه في الداخل إلى مستوى المرحاض، وأرضه أعلى من أرض الزنزانة بحوالي 5 سم، ثم تأخذ بالارتفاع فتدخله وتصل إلى حفرته، وهنا تختلط المياه الملوثة في الحفرة بالماء الذي ملأ أرض الزنزانة وتسبح الفضلات. عندما يفعل السجان ذلك يكون منهمكاً بجلب التنكات ودلقها عبر الشراقة ولا يشاهد ما يجري في الداخل المظلم. في هذه المرة كان في الزنزانة شاب حاذق عمد إلى وضع القصعة على الشراقة من الداخل، فكانت المياه المسكوبة من التنكة تصب في القصعة مباشرة، فيأخذها السجناء ويتناقلونها ويشربونها بسرعة ثم يعيدون وضعها مواجه الشراقة ليستقبلوا الدفعة التالية التي كان السجان يروح ويغدو حاملاً لها، وهكذا. صاروا يشربون بشراهة غير اعتيادية، نتيجة تراكم العطش ولمنع ملء أرض الزنزانة بالماء وما يترتب عليه. عندما أتى السجان بالتنكة الأخيرة اكتشف الأمر فقال: “عم تعبّي مي يا عرصة!!!”. ضرب الشاب حتى أدماه ورغم ذلك فقد أحس، وأبناء زنزانته، بالنصر.
نعم، في بعض الحالات كنا نشعر بالنصر! في إحدى المرات، مثلاً، كان وضع النظام سيئاً في الخارج، ووصلت المعارك إلى أبواب سجن صيدنايا، حتى أن قذيفة وصلت إلى داخله. كانوا متوترين وصاروا يفتعلون أي سبب لضربنا. انقطعت الكهرباء عن السجن نتيجة إصابة التمديدات في الخارج بقذيفة فأتى أحدهم وسأل غاضباً: “مين قال ليش مقطوعة الكهربا؟!”. لم يكن أحد منا قال شيئاً! كنا في المهاجع وقتها فقلنا: ربما من المهجع المجاور. صار يثبت التهمة على كل المهاجع، ودخلوها واحداً واحداً في حفلة ضرب شديد. رغم ذلك أخذنا نضحك في سرنا ونحن نتلقى الضرب الذي قد يؤدي إلى موت بعضنا، لأننا كنا نعرف أن سبب غيظهم هو أننا، “نحن” الذين في الخارج، نتقدم ونشدد عليهم الخناق.
تجارة الطعام
بدأت هذه القصة منذ آخر أيامنا في الأفرع وانتقلت معنا إلى صيدنايا، ووجدت في مهاجع أخرى. وهي شراء السجناء من بعضهم شيئاً من حصصهم الغذائية وفق عملة هي الخبز الذي ترتفع قيمته أو تهبط بحسب كميته في “السوق”! إذ كانت حصة الواحد اليومية منه تتراوح بين النصف رغيف إلى الرغيف وربع. مرة واحدة جلبوا كمية أكبر، لا أدري لماذا، فكانت حصة واحدنا رغيفين، لكن هذا لم يتكرر.
كان الطعام يأتي، كما أسلفت، بقصعة صغيرة في الزنزانة، وبقصعتين، كبيرة ومتوسطة، في المهجع لأنه يحوي عدداً أكبر. توضع في القصعة الكبيرة كمية من الرز لا تكفي 25 إلى 30 شخصاً في المهجع، وفوقه تُسكب مرقة الشوربة وعدد من حبات البطاطا والبيض. في القصعة الثانية ربما عدس الشوربة نفسها وبرتقال.
يتولى توزيع الطعام في المهجع اثنان، يُختاران بناء على الدقة والنظافة. يكون النزلاء مقسّمين في مجموعات طعامية لسهولة التوزيع، ويتولى كل رأس مجموعة التقسيم بين أفراد مجموعته بشكل يحصل فيه الجميع، في النهاية، على الحصة نفسها. ومن هنا تنشأ التجارة. فالمربى مرغوب لشدة حاجتنا إلى السكريات، لكن البعض قد يريد بيع حصته منه، إن تضمنته الوجبة، وهي في حدود ملعقة، وكانت تباع بما يصل إلى رغيف. بينما تباع حصة الحلاوة برغيف ونصف… كانت باهظة الثمن، وكذلك قطعة البقلاوة في حال تضمنتها الوجبة نادراً. كان الدجاج غالياً أيضاً، وكانت حصة الرز بحوالي ثلاثة أرباع الرغيف، حسب “السوق”. ونتيجة الخلافات التي نشأت عن التجارة كان لا بد من تدخل الشاويش لحسم بعض القضايا؛ مثل توحيد الأسعار داخل المهجع وضبط المنافسة!
كان أحدنا تاجراً بالأصل فتوكل عملية التقييم. فمثلاً تأتي برتقالة واحدة لكل المهجع، وأحياناً اثنتان، وقد تكون صغيرة أو كبيرة حسب الصدفة، فكان عليه أن يعّين سعر حصة البرتقال في هذا اليوم، وهكذا. كان تقييمه معتمداً وكانت التجارة تتم وفق أسعاره. اغتنى البعض وافتقر آخرون! صار المحترفون يبيعون بالدين حتى أن أحدنا حسب رصيده مرة فقال: “عندي بالسوق ربطتين”… كانت هذه ثروة حقيقية! وبالمقابل كان البعض يكثر من شراء الطعام بالدين وتناوله فوراً حتى يقع في عجز ويضطر إلى قضاء أيام جائعاً للتسديد. وهنا تدخل رئيس المهجع أيضاً فحظر التداول مع بعض الأشخاص الذين عجزوا عن إدارة مواردهم بحكمة، فمنعهم من البيع والشراء كي يأكلوا بشكل عادي منتظم.
تطورت التجارة إلى البيع المركّب، كصندويشة حلاوة، مثلاً، أو “طبخة” يجترحها المرء من مكونات الوجبة ويعرضها في السوق، كخلط البيض بالدجاج أو مزجه باللبن المروّب بالماء. كانت هذه المعروضات مغرية ومربحة. ولما منعها الشاويش صارت تباع سراً تحت البطانيات، حتى كُشف الأمر.
ابتدعت بعض المجموعات ما أسمته “مشروع الطعام”، وهو أن تقتصد في الأكل لمدة وتراكم السلع ادخاراً وشراء، حتى يوم محدد تشتري فيه بالدين كذلك، ويكون يوماً متميزاً بكمية طعام متخِمة! كان عرساً وكأنك خرجت من السجن.
آخر ما أذكره في موضوع الطعام هو الدور على القصعة، فبعد توزيع الطعام يأخذ أحدنا القصعتين ويمسحهما بعناية فائقة لتحصيل بقايا عالقة من أي شيء، سمنة أو ملح، ثم يتناولها مع “فتة” خبز. كان هذا الأمر دورياً بيننا وكان محل تنافس.
مهما بلغت درجة الأخوّة وحياة السجن المشتركة والإيمان بقضية الثورة لا بد أن تحصل الخلافات حول أشياء تافهة لكنها هنا أساسية، كحصة الطعام أو المساحة التي يحتلها الواحد. يصعب الإيثار في أحوال كهذه إلا عند من امتلك سوية رفيعة من الأخلاق.
من يومياتنا في المهجع
في حال كان باب الجناح مفتوحاً والعساكر يتحركون بين المهاجع كان علينا أن نتخذ الوضعية “جاثياً” ووجوهنا إلى الجدار المقابل للباب فربما فتح أحدهم الطاقة، فإن رأى أنك ستأخذ وضعيتك المطلوبة الآن سيعتبر أنك لم تكن مستعداً وستصيبك عقوبة شديدة جداً جداً. عندما يُغلق باب الجناح كنا نتحرك قدر ما نستطيع ونمارس ما أمكن من الرياضة.
الصلاة في صيدنايا ممنوعة حكماً، فردية كانت أو جماعية، وعقوبتها شنيعة. فإن كان المصلي في المهجع عاقبوه بالنزول إلى الزنزانة، وإن كان في الزنزانة أصلاً ربما قتلوه. ولذلك كنا نصلي سرّاً كما قلت، بأعيننا أو بحد أدنى من الحركة، وأحياناً نصلّي بشكل طبيعي ليلاً بعدما نأمن أنهم ناموا. كنا نصوم رمضان وسواه، بل إن حياتنا هناك كانت صياماً مستمراً، ففي كثير من الأحيان كانت وجبة الطعام الوحيدة تصل بعد المغرب. لم يكن الصوم خطِراً كما هي حال الصلاة الموحية بالتدين السنّي.
كان يتم اختيار الشاويشية (رؤساء المهاجع) من قب
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news