عزالدين سعيد الأصبحى:
أتذكر قول باولو كويلو: «إذا تشابهت الأيام، فذلك يعنى أنَّ الناس قد توقّفوا عن إدراك الأشياء الجميلة!».
والحقيقة أننا فى بلدان الحروب والنزاعات، ننسخ الأيام نسخا وليس مجرد تشابه، فهذا الموت اليومى لا يتكرر فقط ولكنه يصبح الحياة ذاتها. أى توحش هذا الذى يسير عليه عالم اليوم؟ عالم مضطرب عجيب بمفارقاته، تراكمت فيه معرفة التكنولوجيا والاختراعات الحديثة بشكل لم يشهد مثله العالم من قبل، ولكن أيضا تراكم الموت فى زواياه أكثر.
كأن العلم بدلا من أن يكون نافذة استقرار كونى، صار وبالا على البشرية تلاحقه عقدة ذنب منذ الفريد نوبل الذى اخترع البارود والجائزة الشهيرة وأضر العالم بهما أكثر مما نفع فى الغالب، كما يسخر الناس على ذلك بقولهم إن نوبل أضر الكوكب بباروده وجائزته، حيث مُنحت لأشخاص جعلت الناس تقول هذا.
وصرنا نقول ماذا لو عاد العالم ليراكم إنجازه من الفنون؟ لربما عاد جزء من إنسانيتنا التى نفقدها كل يوم مع سياسة تفتقد الأخلاق!. انظر لسماء الحروب المكفهرة لتعرف حجم جنايتنا على الأشياء الجميلة، ولنعرف حجم جريمة العالم.
مثلاً بحق الطفولة، انظروا لطيران الأطفال الذى كان فى البدء طيارات من ورق ملون، تجرى مع (عدو طفلين معاً فسبقنا ظلنا)، حسب قصيدة إبراهيم ناجى فى اطلاله مع أم كلثوم والسنباطي. ذاك الطيران المبهج فى لعب الأطفال تحول من لعبة معدن صغيرة وورق ملون، إلى لعبة موت أسود وحديد يطير بقنابل مدمرة.
تحول من تحليق كان بهجة للطفولة إلى تحليق يقتل الصغار وأمهاتهم، ويدمر مدارسهم ويحرق كراسات رسوماتهم. كانت فيروز تغنى (طيرى ياطيارة من ورق وخيطان) الآن صار اسمها طيران (الدرونز) يافيروز، وتحولت من لعبة للأطفال إلى قاتل لهم. وكل ما كان لعبة تحول إلى سلاح، ولم يعد بالضرورة يقود هجمات الحرب جنرال مفتول العضلات، بل شابٌ صغير نحيلٌ بنظارة طبية، يقتحم أسرار التكنولوجيا، ويجعل برامج جهاز التليفون المحمول سماعة تجسس أو عبوة تنفجر بكبسة زر من مكان خفي.
مشهد يومى يدمى القلب يتكرر بألوان مختلفة وموت واحد. وحده قرار المحكمة الجنائية الدولية بملاحقة بنيامين نيتانياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت، غير فى تركيبة أخبار الصباح الدامي. هو خبر لحدث أكثر من مجرد خطوة فى طريق العدالة وانصاف الضحايا، حيث هو قرار نقول عنه محاولة لإنقاذ منظومة القيم الإنسانية التى دمرها واقع الحرب الحالية. هذه الحرب لم تدمر غزة وتقصف بيروت فقط، لكنها ضربت منظومة القيم الكونية لحقوق الإنسان فى الصميم، وهى أكبر هزيمة قيمية للبشرية. فهذا الجيل الذى يتباهى منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، بأنه جيل حقوق الإنسان، أضحى يعيش نكبة قيم مفجعة من هول ما يجري. وفقدان المرء الإيمان واحترامه لذاته هو أكبر كارثة، لهذا يكتسب هذا القرار أهميته.
لن تنفذ الدول القرار ولن نجد مجرمى الحرب فى قفص الاتهام حتما، بل سنجد الحملة تشتد على المحكمة ومصدرى القرار بحيث ربما نجدهم فى قفص الاتهام قبل المجرمين المطلوبين للعدالة، فهذا عالم مختل، تقوده قوة مختلة، لكن لابد من محاولة لإنقاذ جزء من إنسانية العالم.
وبالعودة لقرار المحكمة الجنائية الدولية، فعلى الأقل هناك ملاحقة قانونية تعيد للحق بعض الاعتبار، والأهم تعيد للذات بعض الاعتبار. ولعل ذلك هو الحدث الفارق فى سيرة أيام للموت بألوان شتى يتكرر مشهدها المؤلم، وكأننا فى حالة مسلسل من القتل والتوحش اليومى يكرر نفسه.
والفارق الجديد منذ يومين هو فى الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار فى لبنان، وتلك قصة لم تكتمل فصولها بعد، فهل هى نهاية لحرب أم بداية مشهد خراب آخر. هل يؤمن الاتفاق عودة المهجرين؟ أم عودة حرب أخرى بعيدة عن إسرائيل؟. الأسئلة مشروعة ومفتوحة، ولكن على الأقل المشهد يخرجنا قليلا من منظر القصف اليومى المدمر وذاك هو الإنجاز، وهو إنقاذ لآدميتنا قليلا.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news