من المؤكد أن العالم يشهد تصاعدًا في وتيرة الرقابة والتضييق على حرية التعبير، وإن بدت لنا رقابة خفية ومبرمجة تعمل من تلقاء نفسها، ويمكن القول إننا في مطلع فترة مظلمة لكنها غير معلنة، يتخذ فيها الممنوع والمحظور أشكالا بعيدة عن الأخلاق والقيم والقوانين، وأقرب ما تكون إلى المحاذير السياسية والإعلامية المتصلة بالموقف والرأي وحق توصيف الممارسات التي تقوم بها بعض الدول والكيانات بما يليق بها ويناسبها، وخصوصا في أوقات الحروب والأزمات.
ما نعيشه من رقابة صامتة تدور في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي الذي أدركت حكومات لها سطوتها وسيطرتها مدى ما تمثله من قدرة هائلة على التأثير في الرأي العام.
نحن إذن وبلا أي شك في بداية فترة مظلمة من حيث حرية الراي والتعبير، لأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت المعادل الموضوعي لحياتنا في الواقع، والتضييق على طرح الآراء فيها بحرية لا يقل عن حجم ومستوى وشكل الممارسات التي كانت تواجه الناس في الواقع قبل أن توجد هذه الوسائل.
ما يحدث على منصات التواصل من حجب وتحكم مسبق بطبيعة المحتوى المسموح له بالنشر في مقابل منع غير المرغوب به، يراد منه ترسيخ ممارسات يعتاد عليها المستخدم ليتكيف مع هذه (المكارثية) الجديدة القديمة.
هذا السلوك الدولي الممنهج والمبرمج عبر خوارزميات جعل شرطي الرقابة يتحول إلى كود برمجي يراقب ما تكتبه المجتمعات التي لم تعد ردود أفعالها تعبر عن الغضب أمام كل رقابة، بعد أن صار الجميع يتعاملون مع ما يحدث وكأنه أمر اعتيادي وحق من حقوق الرقيب أو (الوصي) العالمي.
ولا تقتصر هذه الشراسة على الرقابة الحكومية المحلية في كل بلد فحسب، بل تمتد لتشمل القيود المفروضة على الفرد من خارج مجتمعه وثقافته، فصار لكل فرد أكثر من رقيب محلي وعالمي بفعل اشتراكنا في استخدام منصات التواصل الاجتماعي التي تديرها مركزية تقنية وسياسية واحدة لا تحترم خصوصيات الشعوب واختلاف مواقفها وثقافاتها وحقها في توصيف من يستهدفون حياتها ووجودها من الأساس.
نواجه كذلك تلك الرقابة الذاتية التي يدربنا الوقت على استعباد أفكارنا عبرها برضا تام فنحذر من البوح أو التمرد على السائد، وبذلك فنحن نواجه مجموعة من (الرقابات) التي تتخذ أشكالًا متنوعة، هذا بالإضافة إلى أشكال متعددة من الحجب والمنع المباشر، إلى التضييق الاقتصادي، وربما التشهير، وصولًا إلى الترهيب والعنف في بعض الأحيان.
ومع كل هذا التضييق، يصبح الحلم بحرية التعبير ضرورة إنسانية وحضارية، وشرط أساسي لأي فرد أو مجتمع يسعى لتطوير بنيانه العلمي والثقافي.
صحيح أن التاريخ مليء بالفترات التي شهدت قمعًا للحريات لكن التحدي في هذا الزمن يكمن في مواجهة العجز والشلل الذي يعيق المجتمعات المعاصرة عن رفض الهيمنة الاحادية البارزة على وسائل التواصل، وأحيانا ضد ما يجري في الواقع من بطش وقمع.
أصبحت مهمة الدفاع عن حق الإنسان في التفكير والتعبير بحرية وتوصيف الأمور التي من تجري حوله ضرورة مسكوت عنها، ومع الوقت تتضاعف المحاذير التي تفرض قوانينها وتعكس هشاشة عصرنا وتجبر بعض القوى التي تتحكم في مساره اقتصاديا وتقنيا. وهذا التسلط غير المرئي أو غير المستنكر بحاجة إلى وعي بالحقوق وإلى عمل مؤسسي يفضي إلى كسر القيود الالكترونية الموجهة للتضييق على مساحات التعبير، إذ يبدو أن الإنسان الحديث كلما اخترع وسيلة لتسهيل نقل المعرفة والحوار زادت مخاوفه منها وأرفقها بآليات للحد من الحوار والتثاقف ومن التعبير عن التنوع.
على المستوى الشخصي وفي ظل هذا العالم الذي يزداد شراسة ويتقدم في الرقابة والتضييق على الرأي، أحلم بالعيش في زمن أكتب فيه ما يحلو لي وما أعرفه وما توصلت إليه مما يصعب قوله الآن. نحن اليوم في الزمن المحاصر بنا وبالآخرين وبسلسلة من المحاذير التي لم نتخيل يوما أنها ستستمر وتتضاعف وتصل إلى ما وصلت إليه من بؤس.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news