الغناء الصنعاني: إرثٌ يمنيٌ راسخ يمتد لأعماق التاريخ

     
بيس هورايزونس             عدد المشاهدات : 29 مشاهده       تفاصيل الخبر
الغناء الصنعاني: إرثٌ يمنيٌ راسخ يمتد لأعماق التاريخ

تحتفظ اليمن بتراثها العريق عبر الزمن، ويبرز الغناء الصنعاني كأحد أعمدة الهوية اليمنية، مترسخا بعمق في وجدان الشعب اليمني وثقافته. هو فن يحمل في طياته قصصا وحكايات، ويعتبر أقدم الفنون الغنائية في اليمن وشبه الجزيرة العربية. يعتمد الغناء الصنعاني على أسلوب شعري محلي يعرف بـ”الحُميني”، ويعود هذا الأسلوب إلى القرن الرابع عشر على الأقل، تقول المصادر. حيث ينسج بأسلوب شعري يعكس مشاعر الحب والغزل ويعبر عن حياة الناس وهمومهم. ويأتي هذا الشعر في قالب من البلاغة العاطفية، مما يجعل الغناء الصنعاني نموذجا فريدا في أدب الغناء اليمني.و “الحُمَيني” حسب إجماع البحاثة “شعر غنائي يمني يتوسط الفصحى والعامية، وقيل نسبة إلى منطقة “حُمن” في اليمن، والحميني هو الجذر الأول للموشح الأندلسي والمهد الأصيل له، إذ لا يلتزم بالفصحى وقواعدها؛ لذلك اقترح الأديب مصطفى الرافعي تسميته بالموشح الملحون لمزجه بين الشعر والموشح.”.

في بداية القرن العشرين، كان المطرب الصنعاني يؤدي أغانيه باستخدام آلة “الطرب” أو “القنبوس”، وهي عود ذو تصميم فريد، صنع من قطعة خشبية واحدة، وتُغطى بجلد يضفي على الصوت عمقا ودفئا يلامس قلوب المستمعين. يعود تاريخ وجود هذه الآلة إلى العصور القديمة، وهي شهادة حية على انتشار ثقافة العزف في المنطقة. وتشكل آلة القنبوس رمزا للترابط بين الموسيقى الصنعانية وبين التقاليد الموسيقية في شبه الجزيرة العربية، حيث يُعتقد أن هذه الآلة كانت شائعة على نطاق أوسع، قبل أن تحتفظ اليمن بها كجزء من تراثها الفني العريق.

ويحتدم الجدل بين المؤرخين حول تاريخ ظهور “القنبوس”، الذي انتشر بشكل أكبر في صنعاء القديمة وحضرموت، حتى بداية أُفول نجمه في أوائل القرن العشرين في صنعاء، إبان عهد الإمام يحيى حميد الدين الذي حرم الغناء. 

وبدأت صناعته التقليدية في شبام حضرموت خلال عام 1895.   

بينما يرى مؤسس ومدير “البيت اليمني للموسيقى والفنون”، فؤاد الشرجبي، أن “آلة “القنبوس” تمثل جزءا مهما من الهوية اليمنية، إذ تحمل رمزيتها عدة سمات تاريخية وفنية وحضارية؛ “كون عمرها يصل إلى أكثر من 3 آلاف عام، ووجدت في نقوش دولة سبأ، وهي تعكس حضارة اليمن القديمة، إذ لا ترتقي الفنون إلا بوجود دولة متحضرة ومتقدمة سياسيا،و ثقافيا، واقتصاديا واجتماعيا”.

يوافقه في ذلك الدكتور فارس البيل الذي يقول ” يكاد يجمع المؤرخون على أن الرعيل الأول من العرب المهاجرين من بلاد العرب الجنوبية بدأ يتحرك نحو القرن الثاني الميلادي؛ لذا بدأت الموسيقى العربية تزدهر وتنمو في مناطق ثلاث: سوريا والعراق وغرب الجزيرة العربية.. قادمة من جنوب الجزيرة، ولا تخلو المصادر التي تؤرخ للموسيقى العربية من ذكر اليمن ودور أبنائها في صناعتها، ولعل المستشرق البريطاني هنري فارمر قد خلص إلى القول بأن العرب في ممالك جنوب الجزيرة العربية بلغوا المراتب السامية التي بلغها الساميون من قبلهم في مجال الموسيقى”و برأيه  بحسب مصادر”لعل أول من غنى من العرب قبل الإسلام، كانتا جرادتي بني عاد، وتسميان تعاد وتماد، قدمتا من عاد اليمنية، وكذلك قينتا الحضرمي سيرين وصاحبتها، كما أن أول من غنى في الإسلام في المدينة كان “طُويس” وقد اشتهر بالغناء وصناعة الطرب، فذاع صيته واشتهر، وهو يمني كما أكد ذلك الباحث الكبير أحمد تيمور، وقد عُد طويس أبا الغناء في الإسلام، كما ذكر “الأصفهاني”، وطويس أول من أدخل الإيقاع إلى الغناء العربي، حتى تحول الغناء إلى فن متقن في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكان الغناء المتقن فنا يمنيا ما زال معمولاً به ويُغنَّى في اليمن حتى اليوم، وبناؤه الموسيقي يقوم على استهلال غنائي خال من الإيقاع، يُؤدى بأسلوب الموال، ثم يتحول في جزئه الثاني إلى الأداء بمرافقة الإيقاع الثقيل؛ ليصير هزجا سريعا بمرافقة الرقص في جزئه الثالث.”.

ويسطترد موضحا”على منوال طويس أخذ أعلام الموسيقى والغناء العربي في عصر الأمويين والعباسيين مثل “إسحاق الموصلي” و”زرياب”وأشاعوه، ونقله الأخير إلى الأندلس وطوّره، وكان الأصفهاني في مؤلفه الأضخم “الأغاني”قد عدّ ثمانية أصوات يمنية أو هي الألحان والكلمات المنسوبة إلى اليمن والقادمة من جهته، ووردت في الأشعار العربية بمنهج إيقاعي معين.

كذلك بحسب البيل “اشتهر المغنون اليمنيون في عصور مختلفة، ففي نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي اشتهر منهم “ابن طنبور” الذي عُرف بالغناء الخفيف المسمى الهزج، ووصفه المؤرخون أنه كان أهزج الناس وأخفهم غناء، كما ورد في ‘المستطرف”.

على أن فن الموشحات التي اشتهرت بالأندلس، هو بالأصل من اليمن، إذ إن جذور كلمات الموشح وتراكيبه ومذاهبه تشبه الأصل اليمني، وقد رأى ذلك الكثير من الباحثين مثل الرفاعي في كتابه  “الحميني الحلقة المفقودة في امتداد عربية الموشح الأندلسي”، ومن قبله المؤرخ محمد عبده غانم، كما أكد ذلك الباحث والفنان اليمني محمد مرشد ناجي بقوله إن أول من قال الموشح الشعري هو مقدم بن معافر المقبري وهو أيضاً من اليمن من  بلاد المعافر جنوب غرب مدينة تعز. ومنها كنائب كثيرة شاركت في وصول الدولة الإسلامية إلى إسبانيا.

والثابت ان ” الغناء الصنعاني يمثل جزءا لا يتجزأ من حياة اليمنيين اليومية، حيث ينغمس الناس في ألحانه أثناء مزاولة أعمالهم أو خلال جلساتهم المسائية المعروفة بالمَقيل. وتُعد هذه الجلسات مناسبات اجتماعية لتبادل الأحاديث والاستمتاع بالموسيقى، حيث يجتمع الأصدقاء وأفراد العائلة ليقضوا وقتا مميزاً في الاستماع للألحان التقليدية. أما “جلسات الهيلمانية” و”الساعات السليمانية” – وبحسب الباحث محمد علي ثامر”فهي تجمعات ثقافية واجتماعية يحتفي فيها اليمنيون بالألحان الصنعانية في جو من الدفء والألفة، حيث يتمازج الصوت العذب مع الكلمات العميقة التي تتناول الحب، والحزن، والأمل”.

لم يقتصر اهتمام اليمنيين بالغناء الصنعاني على الأجيال السابقة فحسب، بل امتد ليشمل المحافل الدولية، حيث أدرجت منظمة اليونسكو الغناء الصنعاني ضمن قائمة التراث الإنساني غير المادي في عام 2003، “نظرا لقيمته الثقافية والتاريخية”. يُمثل “هذا الفن الغنائي ركيزة من ركائز الهوية اليمنية، ويعتبر عنصرا أساسيا في تشكيل الذاكرة الجماعية للشعب اليمني”. و”من هذا المنطلق، انطلقت جهود كبيرة للمحافظة على الغناء الصنعاني، وأرشفة جوانبه الفنية والثقافية، وتوثيق مسيرته التاريخية”. تمثل هذه الجهود خطوة هامة في حماية التراث الصنعاني من الاندثار، وفي تأكيد مكانته كجزء لا يتجزأ من التراث الثقافي العالم.

يتسم الغناء الصنعاني بشكل خاص بلغة شعرية بليغة، تبرز فيها قوة المفردات ودقة التعبير، وقدرة الشعراء على رسم لوحات فنية تجسد مشاعرهم وأحاسيسهم. و”يتجلى ذلك من خلال الحُميني، الذي يُعد من أرقى وأعذب الأساليب الشعرية المستخدمة في هذا الفن’. -حسب تعبير للأستاذ وشاعر اليمن الأكبر الراحل عبد الله البردوني. تلتقي هذه الكلمات الراقية مع ألحان عذبة تتناسب مع معانيها، ما يمنح الأغاني عمقا كبيرا يجعلها تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتبقى حية في ذاكرة اليمنيين وقلوبهم.

لم تكن الموسيقى في اليمن منفصلة عن السياق الديني والاجتماعي؛ فقد ارتبط الغناء الصنعاني بجوانب روحية أحيانا، كما أن بعض الطقوس الدينية والمناسبات الخاصة كانت تتضمن أشكالا من الإنشاد الديني الذي يضفي على الأجواء روحانية مميزة. تميز هذا الفن بمزيج بين الجانب الجمالي والجانب الروحي، إذ يعكس التراث الموسيقي الصنعاني تفاعلا بين ثقافات اليمن الشعبية والموروث الإسلامي، ويحتفي بالوجدان اليمني من خلال إشراك عناصر دينية وروحانية في تكوينه.

ماهو مؤكد أن الغناء الصنعاني يشكل جزءا مهما من الهوية الثقافية اليمنية، فهو ليس مجرد فن عابر، بل هو تعبير عن الذاكرة الجماعية للشعب اليمني، وجزء من تكوينه الاجتماعي. بالرغم من تأثيرات العولمة ومحاولات غزو الموسيقى الأجنبية، ظل الغناء الصنعاني محافظا على مكانته بفضل ارتباطه العميق بجذور الثقافة اليمنية. يعد هذا الفن من الرموز الوطنية التي تعزز الهوية اليمنية وتمنح اليمنيين شعورا بالفخر والانتماء. كما أن المحافظة على التراث الموسيقي ونقله من جيل لآخر يعتبر مهمة وطنية، تساهم في حماية الثقافة المحلية من الانقراض.

ولطالما كان للغناء الصنعاني مكانة اجتماعية رفيعة في المجتمع اليمني، فهو ليس فقط لونا من ألوان الموسيقى، بل يمثل أيضا تعبيرا فنيا واجتماعيا عن الروابط والعلاقات الإنسانية. كان ومازال يرافق العديد من المناسبات الاجتماعية، مثل حفلات الزفاف والمناسبات الدينية، حيث يجتمع الناس للاستمتاع بالموسيقى والتعبير عن الفرح والسعادة. وإلى جانب الطقوس الدينية، فإن الألحان الصنعانية ترافق الاحتفالات الاجتماعية، وتبث روحا من البهجة والألفة، ما يجعل هذا الفن جزءا من الحياة اليومية والتقاليد الاجتماعية للشعب اليمني.

انه ” طب النفوس” حسب وصفه من قبل العالم الفرنسي جان لامبرت  ، الذي يشدد على أن فن الغناء الصنعاني “كنز وطني عريق تقع على اليمن مسؤولية الحفاظ عليه” .يتحدث جان لامبرت في كتاب صدر عام ٢٠٠٤ بترجمة متميزة أجراها الدكتور علي محمد زيد يتحدث جان لامبرت “عن واقع الحركة الفنية في المجتمع اليمني ، ويكاد يكون هذا الحديث هو الموضوع الرئيس في الكتاب رغم ثرائه بالمعلومات حول الأغنية الصنعانية ، والتوثيق لبعض فنياتها ، وحكاية تجربته معها واختيار عنوان الكتاب لم يكن منفصلا عن ثقافة المجتمع الذي يتحدث عنه الكتاب ، ففي صنعاء يطلق على الجلسة الموسيقية اليومية بعد الظهيرة : طب النفوس أو دواء الروح ، إذ يتسم مقيل الظهيرة بالشجن والغناء العاطفي الرقيق ، فالهدف المعلن كما يقول لامبرت هو : رعاية موج النفس ، وتدفق الروح ، لذلك يمكن المراهنة على أن الموسيقى عبر هذه العلاقة تساعد الإنسان على معرفة مكانه في العالم ، وتمنح لوجوده معنى.”.ويرى لامبرت أن “للغناء الصنعاني أبجديته الخاصة التي ينفرد بها ، ومن أهمها مميزات تقنية إيقاعية وجمالية إضافة إلى تميز شعره الوجداني الرقيق فضلا عن العود اليمني الذي يطلق عليه محليا ” الطربي ” أو ” القنبوس “.ويتحدث عن”

تميز اللون الصنعاني وأنه لا ينافسه من الألوان اليمنية الأخرى سوى اللون اللحجي ، نسبة إلى لحج مدينة قرب عدن جنوب اليمن” … كان جان لامبرت اكمل دراسة الدكتوراه عن الموسيقى في اليمن ونشرها في كتاب حمل عنوان “طب النفوس”، الذي ترجمته وزارة الثقافة اليمنية إلى اللغة العربية .

ولطالما كنت استمتع بعزف جان لامبرت على القمبوس حين كان يستضيفنا كاصدقاء صحفيين وشعراء في صنعاء .واشهد أن جان لامبرت بذل جهداً كبيراً في التواصل مع هيئات عالمية فرنسية وألمانية حتى يتم إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التراث خصوصا في ظل الظروف الحالية لليمن.

خلال أكثر من 30 عاماً بحث فيها جان لامبرت في اليمن عن كنوز اليمن الموسيقية والأدب الشفاهي، وهو بحق عاشق صنعاء فنا ومكانا .. وحين يسمع المرء جان لامبرت وهو يغني فلايظنه إلا فنانا يمنيا قديما .انه المستشرق الفرنسي ‘ اليمني!” من يعود له الفضل الكبير في إدراج الأغنية “الصنعانية” في قائمة التراث العالمي للإنسانية 2003، كما أقام المؤتمر الأول للموسيقى اليمنية في 1997، الذي على إثره تم تأسيس مركز التراث الموسيقي اليمني.

و هكذا بما أن الغناء الصنعاني أيقونة للهوية الثقافية اليمنية، فهو يعكس عبق الماضي وحب اليمنيين لتراثهم وتقاليدهم. وفي زمن العولمة وتدفق الثقافات الأجنبية، يمثل الغناء الصنعاني جزءا من جهود الحفاظ على التراث والهوية الوطنية، خاصة مع جهود تسجيل وأرشفة هذا الفن وضمان انتقاله إلى الأجيال القادمة. وعلى الرغم من التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها اليمن، بقي الغناء الصنعاني حيا و محافظا على مكانته وسط التحديات، مما يعزز قيم الوفاء والاعتزاز والتواصل الثقافي.


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

الغموض يكتنف اقتحام السفارة الإيرانية بصنعاء.. هل تغيرت معادلة الصراع في اليمن؟

المشهد اليمني | 2370 قراءة 

دول كبرى تتدخل لانقاذ الحوثيين !

العربي نيوز | 2095 قراءة 

جريمة هزت اليمن وخلفت صدمة عارمة.. مواطن يقتل والده ووالدته وشقيقه وشقيقه بالعاصمة صنعاء

يمن الغد | 1717 قراءة 

القبض على عصابة في صنعاء تقوم بالزنا والشدود و تتاجر بالفتيات الى عمان

كريتر سكاي | 1569 قراءة 

تفاصيل جديدة عن ”المشرف الحوثي” الذي أحرق نفسه بميدان السبعين بصنعاء بعدما غدرت به قيادات الجماعة ”شاهد”

المشهد اليمني | 1471 قراءة 

كمين يدمي المليشيا بمشارف العاصمة 

العربي نيوز | 1250 قراءة 

السعودية تبدأ التخلي عن الشرعية !

العربي نيوز | 1204 قراءة 

عاجل : في تطور خطير... اقتحام السفارة الإيرانية في صنعاء "تفاصيل"

اليمن السعيد | 988 قراءة 

عاجل : رئيس هيئة الأركان بالجيش اليمني يعلن رسميا الجاهزية القصوى المعركة التحرير ويصدر هذا البيان

اليمن السعيد | 987 قراءة 

بسقوط مدوي.. قيادي حوثي يقذف مواطن بشرفه ببث مباشر ويهدده في صنعاء

كريتر سكاي | 959 قراءة