اعتدنا على قراءات حول الأنا و”الآخر” البعيد وليس الآخر “القريب” الشريك في الهم والثقافة والجذور والتطلعات. لكن صديقاً أكاديمياً ينتوي فتح ملف “كيف ينظر العرب إلى اليمنيين” هنا على فيس بوك! وأعترف أنني أتوجس من كل تناول من المحتمل أن يتسبب في إثارة قدر -ولو ضئيل- من التحسس بين شعوب المنطقة، ومن الاستمتاع برفاهية ومزاج حس أنثروبولوجي أوكل إلى صاحبه مهمة لا تحتل أولوية ولا تخدم قضية علمية حساسة تحتاج إلى تصنيف الطبائع والقول باختلاف شاسع بين العرب من الناحية النفسية والثقافية، وهو ما دأب مغرضون على بحثه متذرعين بامتلاك مرجعيات التاريخ والجغرافيا والحضارات القديمة المتعاقبة التي نشأت هنا وهناك وما أفرزته من اختلافات ذات جذور.
حسنا، وهل علينا النفخ في جمرة الاختلافات، وبصيغة أخرى هل من المفيد بحث أي موضوع أم أن اختيار الموضوع لا بد أن يكون لهدف معلوم ويحمل فائدة بالضرورة؟.
أعرف أن البعض ينطلق بحسن نية في بحث مثل هذه الموضوعات، مدفوعاً بعناوين مماثلة من حصيلة مطالعاته، لكنها موضوعات مختلفة ومبررة ثقافياً وسياسياً، ولطالما فكرت على المستوى الشخصي بتناول صورة اليمني، لكني تراجعت بسبب الطرح الشعبوي (والشعوبي) الدائر بكثافة مشبوهة على منصة “تيك توك” وما يستدعيه هذا الطرح من شتائم وردود أفعال متوترة، وما يفضي إليه من استقطابات نفسية حادة ومن نفي لعروبة بلدان وحديث عن أصالة أخرى، في محاولات دؤوبة يشي بمصدرها ومنابع تحريكها ما تفصح عنه أهدافها الرامية إلى تكريس مصطلحات من قبيل: عرب الشمال وعرب الجزيرة، وتساؤلات بنفَس جهوي وعنصري بشأن العروبة المنقوصة في بلدان إفريقيا، بجانب طرح ذلك السؤال العريض -والمريض- الذي يتمحور حول من هم العرب الأصليون ومن هم المستعربون؟ وماذا تعني البداوة وما الذي تركته من رواسب لدى المنتمين لحواضنها؟ وكيف تختلف مناطق الحضارة التاريخية التي نشأت قديماً في جغرافيا ما يسمى اليوم بالعالم العربي؟.
ولشدة ما أزعجتني الأصداء الشعوبية وردود الأفعال المتشنجة والناتجة عن إثارة مثل هذه التناولات، لاحظت أن المتابع سرعان ما يدرك أنها مأجورة على “تيك توك” تحديداً؛ لذلك أصبحت أقفز على أي بث مباشر مكرس للنبش والتعريض ببعض العرب باسم العروبة.
وبالتأكيد كل الموضوعات قابلة للطرح والنقاش ولا وصاية على أحد في هذا العصر المفتوح سوى الضمير والوعي السياسي النبيه وحده، إذ أن بعض الموضوعات من الأفضل لها أن تكون محل دراسة ثقافية مخصصة للنشر في مجلة أو دورية، بدلاً من نشرها على رصيف فيس بوك وعالمه الشعبوي البائس، وغيره من المنصات والوسائل الاجتماعية التي يجري استخدامها لتهييج شعور مفتعل بالاختلاف والانقسام العربي، في ظرف نحن أحوج ما نكون فيه إلى التلاحم والنظر بجدية في صلب التحديات الراهنة التي تهدد وجودنا في العمق وتجعلنا متفرجين وشاهدين على استهداف بلداننا بضراوة من أذرع الاستعمار القديم الجديد.
أعتقد أن امتلاك بعضنا لرفاهية انتقاء موضوعات للكتابة وطرحها في فضاءات زمنية وأدوات نشر غير ملائمة ناتجٌ عن الشتات والاشتغال الفردي المعذور والفاقد لآلية تسمح له بالالتحام مع فريق عمل مؤسسي (مركز أبحاث – مجموعة بحثية في جامعة) ليسهم من خلالها في تفريغ طاقته وشغفه ويقدم قراءات وأبحاث أكثر ملاءمة لحاجة الواقع وذات رؤية تمتلك زمام الوعي بقيمة وخطورة وتأثير كل ما يمكن أن يتم طرحه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news