نهاية أستاذ كبير

     
عدن توداي             عدد المشاهدات : 224 مشاهده       تفاصيل الخبر       الصحافة نت
نهاية أستاذ كبير

بقلم / مصطفى النعمان

حين وجدت أستاذي الدكتور خالد عبد العليم في أحد الأماكن العامة لم أكد أعرفه، ترددت في الذهاب إليه والسلام عليه، وبقيت أسأل نفسي:

ــ هل هو الدكتور خالد عبد العليم أم شخص آخر يشبهه؟!

إن كان هو فهذه مأساة، لقد شاب شعره وهزل جسمه كثيراً، ظهره محدودب يتوكأ على عصا غليظة، كأنه عجوز في أرذل العمر.!

اصفرار لونه يؤكد لي أنه مريض طحنته الآلام.

لقد عرفته قبل 15 عاماً، كان يعطينا المحاضرات وهو يفيض بالحيوية والنشاط ويتدفق بالأمل والتفاؤل، أما الآن فقد أنتقل إلى شيخوخة مخيفة.!

هل أذهب إليه أم أظل أتشاغل بهاتفي وإن كان هو فسوف يعرفني؟

بقيت مترددا لدقائق ثم قررت الذهاب إليه، وإن لم يكن هو فسوف أعتذر له.

اقتربت منه وصافحته فمد يدا معروقة مرتعشة يصافحني.

وجهه الذي تهلل أكد فرحه برؤيتي:

ــ أهلاااا يا عمراني.. أين أيامك وأخبارك؟

جلست بجواره وبقينا نتحدث لدقائق. ثم أعطاني رقم هاتفه ووعدته بزيارة عما قريب.

حين عدت إلى البيت كان حزني عليه قد جعلني شاردا أفكر في أمره، لكن ماذا عساي أن أصنع له؟!

وقلت لنفسي:

ــ على الأقل أزوره بعد غدا، وأحمل إليه بعض الفواكه.

ذهبت إلى منزله، ذلك المنزل الذي كان فيه منذ 15 عاماً.

دخلت من البوابة المفتوحة ثم ضغطت الجرس. فتح الباب وأطل ولد صغير برأسه ونظر إلي مستغرباً:

ــ بابا موجود ؟

عاد إلى الداخل.

بعد قليل خرج أحدهم بملابس النوم، سألته:

ــ الدكتور خالد موجود؟

ــ لا لا. قد نقل من هنا من زمان.

ولأني كنت أعرف أن هذا المنزل يمتلكه الدكتور سألته:

ــ يعني أجر لك البيت؟

ــ باع لي البيت.

اعتذرت له وانصرفت. ثم اتصلت بالدكتور فجاءني صوته واهنا كأنه في يتحدث من أسفل بئر عميقة.!

سألته عن عنوانه الجديد فدلني عليه.

ذهبت إليه.

عندما وصلت كان قد نزل من شقته إلى باب العمارة ليستقبلني.

وحين صعدنا الدرج أدركت كم هو مريض ومجهد، يصعد عدة درجات على مهل ويتوقف ويلتقط أنفاسه ثم يواصل، لم نصل للدور الرابع حتى كان العرق قد غشيه وأرتفع صوت أنفاسه. تمنيت أنه لم ينزل.

يسكن وحيدا في شقة صغيرة جدا، الكتب متناثرة على المقاعد والنوافذ، وعلى الطاولة علب الدواء وملفات طبية.

سألته:

ــ أين الأهل يا دكتور؟

ــ أرسلتهم إلى القرية.

وأضاف:

ــ القرية ستر.

ذهب إلى الداخل لدقائق وبقيت اقرأ عناوين الكتب وأقلب بعضها.

عاد يحمل بيديه المرتعشتين صحنا فيه ابريق شاي وأكواب مزينة بوريقات نعناع، اسرعت واقفاً وأخذته منه، وضعت الصحن على الطاولة فأسرع قبلي يصب لي الشاي ويسألني عن أحوالي.

وبدأ يتحدث:

ــ يا أستاذ محمد ماذا أقول لك؟ الحمد لله على كل حال.

ثم صمت.

كنت أريده أن يحدثني عن أحواله، وماذا حدث له؟ لكنه آثر الصمت.

وبقينا نرتشف الشاي بصمت ثم بدأ يتحدث:

ــ أنا اشتريت سيارة جديدة.. قاطعته:

ــ سيارة جديدة وأنت بهذه الحالة يا دكتور؟!

ضحك.. ثم قال:

ــ اشتريتها قبل 12 عاما، وانبهر بها الأولاد، كنا نخرج بها في المناسبات، وأقضي مشاويري وأذهب للجامعة بسيارتي القديمة.

ذات مرة عدت من الجامعة وأنا في غاية الإرهاق والتعب، فذهبت للنوم على طول.

لا أدري كم نمت؟

وصحوت من نومي مذعورا على صراخ الزوجة، تصرخ بأعلى صوتها وتلطم نفسها فأدركت أن مصيبة قد حصلت.

صرخت فيها:

ــ اهدئي ما حصل؟

ــ عيالك …

ــ ما لهم؟

ــ سرقوا مفتاح السيارة الصالون وخرجوا بها وعملوا بها حادث.. قاطعتها:

ــ طيب اهدئي وسوف أعاقبهم وأصلح السيارة.

وليت الأمر انتهى هنا، لقد رمتني بقنبلة مدمرة:

ــ عيالك صدموا خمسة أشخاص، ثلاثة ماتوا واثنين بالمستشفى.

وظلت تصرخ حتى تجمعت كل نساء الجيران.

أما أنا فقد دارت بي الأرض ولم أصدق ما يحدث لي، كأنني كنت في كابوس مخيف.!

ومن يومها أصبت بفشل كلوي من الخوف.

دفعنا ديات الذين ماتوا وعالجنا الجرحى، وظل العيال في السجن ثلاث سنوات ولم يخرجوا إلا بعد جهود مضنية وتدخل مشايخ كبار.

بعت السيارات والبيت، وما بقي من النقود بنيت لهم بيت متواضع في البلاد، وبقيت هنا لأتعالج.

حين انتهت كل هذه النكبات جاءت أزمة انقطاع الرواتب.

قلت: أدرس في جامعات خاصة، لكني وجدت كل الزملاء قد سبقوني إليها وملئوا كل المحاضرات الشاغرة.

صعقني بهذه القصة المأساوية، ووجدت مشاكلي وقد هانت علي حين علمت بمشاكله.

واسيته وبقينا نتحدث ثم سألته:

ــ طيب يا دكتور خالد من أين تعيش؟

ــ أشتغل مع مقاول صديق لي من أيام زمان.

ــ يعني تبيعوا أراضي وبيوت وتشتروا ؟ ممتاز الشغل بالعقارات فيه مكاسب كبيرة.

ضحك ساخراً ثم تنهد وفاجأني بقوله:

ــ أشتغل عامل طلاء.

ثم أشار إلى الزاوية حيث بذلة العمل وأدواته.

طفرت دموعي رغما عني.

من أستاذ يهز منابر الجامعة إلى عامل طلاء.!

تنهد ثم قال:

ــ عمل شريف وحلال ولا أخجل منه، وأشكر صاحبي المقاول الذي لم ينس العيش والملح.

وأضاف:

ــ يا عمراني زملائي بالجامعة وأصدقائي وأقاربي من يوم الحادث لليوم ما شفت منهم اتصال.

تصور؟!

بقيت معه إلى بعد المغرب، وكم كنت أتمنى أن يستطيع الخروج لنذهب للعشاء في أي مكان ويغير جو لكنه لم يستطع.

عدت أدراجي وفي قلبي حزن لا يعلمه الا الله.

وعلمت من حارس العمارة أنه مؤخرا لم يعد يذهب للعمل في بيت بوس بسبب مرضه، وأنه مريض بالقلب أيضاً، ويعجز أحيانا عن شراء العلاج.

ما زلت أزوره، وفي كل مرة أذهب إليه أضع يدي على قلبي خشية أن أطرق بابه ولا يجيب أو أتصل به ولا يرد، لكنه ما يزال يقاوم الموت الذي يتربص به في كل لحظة.

مؤكد سيتذكره الجميع عما قريب، وسيشيدون بجهوده الكبيرة وعبقريته الفذة، ولكن بعد فوات الأوان.!

شارك هذا الموضوع:

Tweet

المزيد

Telegram

معجب بهذه:

إعجاب

تحميل...

مرتبط


Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

بعد استشعار خطير يحدق باليمن .. شاهد الرسالة الالكترونية التي كتبت في مقال وكتبها مسؤول حكومي وشيخ بارز في اليمن واسم الدولة التي ذكرها (الاسم والصورة)

المشهد الدولي | 774 قراءة 

تقرير خاص | انقلاب ناعم.. عيدروس الزبيدي يطلق رصاصته في جسد الشرعية

بران برس | 651 قراءة 

جريمة مروعة في خميس مشيط: سعودي يفتح النار على مقيمين يمنيين

نيوز لاين | 542 قراءة 

بعد تهديدات الزبيدي بإعلان الطوارئ.. الريال اليمني يتحدى العاصفة ويصمد في عدن

يني يمن | 537 قراءة 

ابتزاز إسرائيلي جديد يستهدف عدن.. تعويضات خيالية بذريعة "يهود عدن"

عدن تايم | 516 قراءة 

مصادر تكشف موقف ووضع العليمي بعد القرارات التي اصدرها الزُبيدي

نيوز لاين | 493 قراءة 

على رأسهم عبدالملك الحوثي.. إسرائيل تضع 4 قيادات حوثية في دائرة الاستهداف المباشر (الأسماء)

المشهد اليمني | 456 قراءة 

عيدروس الزبيدي يلوّح بحكومة جنوبية جديدة ويهاجم أداء بن بريك والبنك المركزي

نيوز لاين | 424 قراءة 

سجال حاد بين باكستان واسرائيل بمجلس الأمن

مأرب برس | 385 قراءة 

في معركة بسط النفوذ .. الإمارات توقف دعمها عن قوات تابعة للإنتقالي

موقع الجنوب اليمني | 358 قراءة