الذكاء الاصطناعي واستراتيجية عالمية للحوكمة... للعرب نصيب منها

     
المشهد اليمني             عدد المشاهدات : 52 مشاهده       تفاصيل الخبر
الذكاء الاصطناعي واستراتيجية عالمية للحوكمة... للعرب نصيب منها

مع نهاية العقد الثاني من القرن الـ21 أصبح الذكاء الاصطناعي قوة حاسمة في السياسة الدولية بعدما أحدث تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. ولا يقتصر التقدم السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاتها على التقدم التكنولوجي فحسب، بل يمتد ليطال جذور العلاقات الدولية وتوازن القوى العالمية. مع تصاعد التنافس بين الولايات المتحدة والصين للهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، تتجاوز الأخطار مجرد إعادة تشكيل توازن القوى، لتصل إلى إعادة صياغة النظام العالمي ذاته.

ومع ذلك فإن تصوير هذا السباق على أنه تنافس ثنائي بين القوتين العظميين يتجاهل الواقع المعقد والمتعدد الأبعاد، إذ تبرز دول أخرى بما في ذلك دول الشرق الأوسط الغنية بالطاقة، كمستفيدين ومساهمين بارزين في هذا المشهد المتغير.

اليوم، تواجه البشرية حاجة ملحة وغير مسبوقة لدمج الذكاء الاصطناعي في الحسابات الاستراتيجية العالمية. بفضل قدرته على معالجة كميات هائلة من البيانات واكتشاف الأنماط واتخاذ القرارات بسرعة تفوق بكثير قدرة الإنسان، يقدم الذكاء الاصطناعي فرصاً كبيرة للدول، ولكنه يضعها أيضاً أمام تحديات جمة. في التطبيقات العسكرية، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدث ثورة في أساليب الحرب، مما يؤدي إلى ظهور أشكال جديدة من القتال واستراتيجيات الردع. وفي المجال الاقتصادي، يقود الذكاء الاصطناعي الابتكار والكفاءة، لكنه أيضاً يهدد بزعزعة أسواق العمل وزيادة الفجوات الاقتصادية بين الدول وداخلها.

أدت الأهمية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي إلى ما يصفه البعض بأنه "سباق تسلح تقني - رأسمالي" جديد. بحلول عام 2027، قد تتجاوز الاستثمارات العالمية السنوية في الذكاء الاصطناعي تريليون دولار، مع احتمالية أن تستهلك أكبر مراكز تدريب الذكاء الاصطناعي طاقة أكثر من بعض الدول بأكملها. الآثار الجيوسياسية لهذا التطور عميقة، وأشار الرئيس التنفيذي السابق لشركة "غوغل" وأحد أبرز الرواد في هذا المجال إريك شميدت إلى أن العالم يشهد "أعظم تسارع تقني - رأسمالي في التاريخ"، وقد يحدد السباق نحو التفوق في الذكاء الاصطناعي مستقبل هياكل القوة العالمية.

ما بعد المنافسة الأميركية - الصينية وبروز لاعبين جدد

على رغم أن الولايات المتحدة والصين تعتبران المنافسين الرئيسين في سباق الذكاء الاصطناعي، فإن المشهد العالمي أكثر تعقيداً. فالشرق الأوسط، الذي كان يعرف تقليدياً بثرواته الطاقية الهائلة، يستخدم الآن هذه الموارد ليصبح لاعباً رئيساً في تطوير الذكاء الاصطناعي. دول مثل السعودية والإمارات تستثمر بكثافة في بنية الذكاء الاصطناعي التحتية، إذ ترى فيه طريقاً لتنويع اقتصادها وتقليل اعتمادها على النفط وتأكيد نفوذها على الساحة الدولية.

تتوافر هذه الدول على رأس مال كبير وموارد طاقة حاسمة لتشغيل الجيل القادم من أنظمة الذكاء الاصطناعي. مع تزايد استهلاك الطاقة التي تحتاج إليها مراكز تدريب الذكاء الاصطناعي، فإن دول الشرق الأوسط في وضع فريد يمكنها من قيادة الابتكار. ومن خلال مواءمة طموحاتها التكنولوجية مع مواردها، تسهم هذه الدول في دفع عجلة التقدم البشري، بخاصة في التطبيقات التي تتطلب طاقة مكثفة، مما يبرز تفوقها الاستراتيجي بوضوح. إن استثماراتها تشجع على التعاون وتحفز الابتكار، وتؤكد أهمية دمج قدرات متنوعة في النظام البيئي العالمي للذكاء الاصطناعي لتحقيق تقدم تكنولوجي أكثر شمولاً وتعددية.

إلا أنه كما هو الحال مع أي تحول كبير في الديناميات العالمية، من المهم النظر في التداعيات الأوسع. فبينما تسهم دول الشرق الأوسط بصورة إيجابية في تطوير الذكاء الاصطناعي، يجب على المجتمع الدولي ضمان أن نمو هذه التكنولوجيا يبقى متوازناً، وألا يؤدي الاعتماد على منطقة معينة أو موارد محددة إلى ظهور تبعيات أو نقاط ضعف جديدة. يمكن لتبني نهج متنوع في تطوير الذكاء الاصطناعي، يشمل مناطق وأنظمة متعددة، أن يسهم في تقليل هذه الأخطار وضمان بنية تحتية عالمية للذكاء الاصطناعي أكثر قوة.

علاوة على ذلك ومع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي من الضروري أن تتماشى جهود التطوير مع الأهداف الدولية الأوسع، مثل الاستدامة البيئية والحكم الأخلاقي الرشيد. من خلال التعاون مع مجموعة متنوعة من الشركاء العالميين، يمكن للمجتمع الدولي أن يعمل معاً لضمان أن يخدم الذكاء الاصطناعي الصالح العام، من خلال موازنة الابتكار مع الإدارة المسؤولة للموارد والمعايير الأخلاقية.

حوكمة الإطار الأخلاقي والسياسي

مع تعمق دمج الذكاء الاصطناعي في الديناميات العالمية، تزداد الحاجة إلى حوكمة أخلاقية وسياسية لتطوير واستخدام هذه التكنولوجيا ضمن إطار قانوني ومؤسسي دولي جديد. الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل هو قوة تتحدى فهمنا الأساس للواقع والحكم وحرية الإنسان. الآثار الأخلاقية للذكاء الاصطناعي شاسعة، وتشمل قضايا الخصوصية وحقوق الإنسان واحتمالية استخدام الذكاء الاصطناعي كأداة للقمع من قبل الأنظمة الاستبدادية.

الدعوة إلى التعاون الدولي في حوكمة الذكاء الاصطناعي أمر بالغ الأهمية. فالنهج المجزأ، إذ تطور كل دولة الذكاء الاصطناعي وتستخدمه بصورة مستقلة، يخاطر بتفاقم التوتر وعدم الاستقرار العالمي. هناك حاجة إلى أطر تنظيمية ومعايير أخلاقية مشتركة لضمان استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمصلحة البشرية جمعاء، وليس كأدوات للهيمنة بيد قلة مختارة. يجب على الولايات المتحدة والصين وغيرهما من القوى الكبرى أن تجد أرضية مشتركة، على رغم تنافسها الاستراتيجي، لمنع تحول الذكاء الاصطناعي إلى مصدر للصراع والاستقطاب الدوليين.

مستقبل هياكل القوة العالمية

بينما نقف على أعتاب ما قد يكون إحدى أعظم الثورات التكنولوجية في تاريخ البشرية، فإن الخيارات التي نتخذها اليوم ستشكل مستقبل الذكاء الاصطناعي والنظام العالمي بأسره. التحدي الذي يواجه القادة العالميين هو كيفية تسخير الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي مع تقليل الأخطار وضمان توزيع فوائد هذه التكنولوجيا بصورة عادلة.

في هذا السياق، من الضروري اعتماد استراتيجية تتميز بالمرونة والقدرة على التكيف. يجب أن تعترف هذه الاستراتيجية بعدم اليقين الكامن في تطوير الذكاء الاصطناعي، وأن تعطي الأولوية للاعتبارات القيمية والأخلاقية، لضمان أن التقدم التكنولوجي لا يأتي على حساب خلق نقاط ضعف جديدة تستهدف القيم الثقافية الراسخة للشعوب. ومع تقدمنا، سيحدد مستقبل الذكاء الاصطناعي ليس فقط من خلال القدرات التكنولوجية التي نطورها، ولكن من خلال الحكمة التي نتعامل بها مع هذه القدرات على الساحة العالمية.

كما قال عالم الفيزياء الكمومية نيلز بور لإدوارد تيلر، "كما ترى، قلت لك إنه لا يمكن القيام بذلك دون تحويل البلد بأكمله إلى مصنع. لقد فعلت ذلك بالضبط". في السباق نحو التفوق في الذكاء الاصطناعي، يجب أن نكون حذرين حتى لا نحول العالم بأسره إلى مصنع، إذ يأتي السعي وراء الكفاءة والهيمنة على حساب القيم الإنسانية والاستقرار الأوسع. المهمة التي أمامنا هي ضمان أن يصبح الذكاء الاصطناعي قوة من أجل الخير، يعزز الاستقرار العالمي والعدالة والتقدم، بدلاً من أن يصبح أداة للانقسام والصراع. ومن هنا، فإن كبح جماح النفس البشرية الجشعة والمنفلتة يشكل مدخلاً لتلافي أن يكون الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة نقمة على البشرية.

الشرق الأوسط في قلب النقاش

أشار إريك شميدت في أحاديث مختلفة إلى دول الشرق الأوسط كمصادر بديلة محتملة لتمويل مشاريع الذكاء الاصطناعي الكبيرة، مشيراً إلى مواردها المالية الضخمة واستعدادها للاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، لكنه أعرب أيضاً عن مخاوفه في شأن ما إذا كانت هذه الدول ستتوافق مع المصالح الأمنية القومية للولايات المتحدة، نظراً إلى اختلاف هياكلها الحاكمة.

علاوة على ذلك، يخشى بعض المتخصصين الأميركيين من أن تركيز تطوير الذكاء الاصطناعي في الأنظمة غير الديمقراطية قد يؤدي إلى إساءة استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما قد يعزز من سيطرة الأنظمة الاستبدادية أو يزعزع استقرار الأمن العالمي. يستشهد بعضهم بتشابه تاريخي مع أزمات النفط في السبعينيات، إذ أدى الاعتماد على نفط المنطقة إلى نشوء نقاط ضعف جيوسياسية كبيرة. هذه المخاوف تثير تساؤلات مهمة حول التداعيات الاستراتيجية لتعميق الشراكات مع دول الشرق الأوسط في مجال الذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، لتقديم رؤية أكثر توازناً وواقعية، من المهم أن يعترف الغرب بأن الأنظمة السياسية لدول الشرق الأوسط الغنية قد تختلف عن تلك السائدة في الغرب، لكنها تتمتع بحوكمة رشيدة، وهياكل قوية، ومؤسسات راسخة، إضافة إلى بيئة اقتصادية واجتماعية مستقرة وجاذبة. على النقيض من ذلك، تواجه بعض الدول المتقدمة مثل المملكة المتحدة وفرنسا اضطرابات اجتماعية وتحديات اقتصادية. يمكن لدول الشرق الأوسط، باستقرارها ورؤاها الاستراتيجية، أن تكون شريكاً موثوقاً للولايات المتحدة والتحالف الغربي الأوسع في دفع تطوير الذكاء الاصطناعي. إن مشاركتهم، عند إدارتها بتعاون دقيق واحترام متبادل، يمكن أن تسهم بصورة إيجابية في مشهد الذكاء الاصطناعي العالمي، من خلال موازنة الأخطار مع إمكانية تحقيق مكاسب تكنولوجية واقتصادية مشتركة. ويجب أيضاً النظر إلى أن الصين تسعى جاهدة إلى تطوير شراكات واسعة في هذا المجال مع هذه الدول.

الذكاء الاصطناعي وتجاوز الفشل

إن موضوع الشراكة بين الولايات المتحدة والغرب مع الدول العربية الغنية هو قصة قائمة منذ عقود، فإن الشراكة بأبعادها الاستراتيجية لم تتحقق بالصورة المأمولة. سبق لي أن أشرت في كتابات سابقة إلى أن إدارة الرئيس جو بايدن، ضمن سعيها إلى احتواء الصين، تمكنت من بناء شراكة استراتيجية وأمنية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ شملت اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا والهند. ومع ذلك، فشلت في بناء حلف استراتيجي في الشرق الأوسط نظراً إلى الظلال القاتمة التي تلقيها حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل على المشهد العام في المنطقة، وإصرار الإدارة على إدماجها في المنطقة على رغم معرفتها بممارساتها الممنهجة للإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني بحسب قرار من محكمة العدل الدولية، إضافة إلى عدم اعترافها بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، مما يعرقل بناء شراكة صادقة مع جيرانها العرب في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يفرض تحديات وجودية على شعوب المنطقة والعالم.

إن عقد صفقة استراتيجية شاملة وبصورة فورية بين الولايات المتحدة والدول العربية الرائدة تشكل مدخلاً مهماً لتطوير كافة أوجه التعاون المشترك، ويأتي الذكاء الاصطناعي ضمن أولوياتها، فالشراكة العربية والعربية والغربية عموماً قديمة وراسخة، وإن من يقول إن العرب يبحثون عن شركاء آخرين بحث عن المردودية السريعة يجدف في الخواء لأنه لا يعرف عمق العلاقات التاريخية الممتدة لقرابة القرن، ولكن تلكؤ الإدارات الأميركية عن إدراك الأهمية الاستراتيجية لدول المنطقة الكبرى يفوت هذه الفرصة التاريخية.

في هذا السياق، يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين إعادة النظر في استراتيجياتهم تجاه الشرق الأوسط، مع التركيز على بناء علاقات استراتيجية أمنية واقتصادية وعسكرية شاملة أكثر توازناً وواقعية مع الدول العربية النافذة، بعيداً من محاولات فرض أجندات سياسية قد تعرقل تحقيق التعاون المثمر. إن بناء شراكة استراتيجية حقيقية مع دول الشرق الأوسط في مجال الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم في تحقيق التوازن بين القوى العالمية، وتعزيز الابتكار، ودعم الاستقرار العالمي في عصر يشهد تطورات تقنية متسارعة.

*إندبندنت عربية

Google Newsstand تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news


تابعنا على يوتيوب

تابعنا على تويتر

تابعنا على تيليجرام

تابعنا على فيسبوك

ترتيبات كبرى لإعادة هيكلة مجلس القيادة الرئاسي وأحمد علي يتقدم المشهد

نيوز لاين | 12578 قراءة 

ليس حوثي!.. خطر كبير يقترب من مارب ويستعد للانقضاض على منابع النفط والغاز ومحلل يقرع جرس الإنذار

المشهد اليمني | 2071 قراءة 

الكشف عن المناطق اليمنية التي تتوفر فيها الخدمة ‘‘ستارلينك’’ والاشتراك الشهري بالعملة المحلية

نيوز لاين | 2058 قراءة 

كواليس صادمة لزيارة طارق عفاش روسيا

العربي نيوز | 1971 قراءة 

اعلان روسي مفاجئ بشأن اليمن

وطن الغد | 1231 قراءة 

صيد حوثي ثمين في قبضة قوات العسكرية الرابعة جنوبي اليمن

المشهد اليمني | 1210 قراءة 

بعد مصرعه في غارة إسرائيلية.. شاهد القيادي في حزب الله ‘‘إبراهيم عقيل’’ أثناء تواجده في اليمن وقتاله إلى جانب الحوثيين (فيديو)

المشهد اليمني | 1131 قراءة 

ميلشيات الحوثي تقدم على خطوة استفزازية بصنعاء وتجبر عقال الحارات على هذا الأمر الخطير!!

سما عدن | 1057 قراءة 

بعد مواجهات عنيفة .. هكذا بدت الاوضاع في مأرب

كريتر سكاي | 1026 قراءة 

كيف يمكن للرجال رفع مستوى هرمون الذكورة؟

سما عدن | 784 قراءة