هل لهذا الوجود إله خالق؟ سأتكلم بلغة العلم والعقل وبطريقة مبسطة، فأي عالم طبيعة لا عقل له إذا قال إن الحدث يقع بلا محدث .. والسبب يقع بلامسبب .. وإن فاقد الشيء يعطيه .. وإن العدم يخلق وجودا .. وإن الهندسة البديعة والمحكمة تتم بلا مهندس بديع وحكيم .. بل علماء الطبيعة يجعلون قانون ربط الأسباب بمسبباتها أولى قواعد العلم والمنطق، ومتى قال أحد إن وجود الشيء يتم اعتباطا بلا موجد فهو عندهم أحمق أو مجنون، ولو انقسم الناس إلى قسمين حول خبر اكتشاف قصر رائع البناء في صحراء غير مأهولة بين قائل إن له بناء ماهر وحكيم وقائل إنه جاء صدفة فإن العلماء الحقيقيين سيقررون أن للقصر بنائين وسيقولون إن القائلين بوجوده هكذا عن طريق الصدفة أو تفاعلات الطبيعة مخرفون وجهلاء لأن هذا القول خارج قوانين ونواميس نظام الكون.
غير أن غالب علماء الطبيعة هؤلاء أنفسهم إذا قيل لهم فمن أوجد الكون وأحكم بناءه من الذرة وما دونها إلى المجرة وما فوقها؟ فإنهم يردون فورا الطبيعة؟؟؟ الصدفة؟؟؟ فيتحولون من علميين عقلاء إلى مجانين....لماذا؟
الجواب يعود إلى قصة بدأت بتعهدهم للجماهير والمؤمنين باكتشاف السبب العلمي وراء الخلق بديلا عن إله الكنيسة التي بينهم وبينها ثأر وجودي بعد أن اضطهدتهم، والتي أيضا لم تستطع أن تقدم صفة الإله بصورة متصالحة مع العقل، فهي تقول إنه واحد في ثلاثة وإنه صلب وجرى عليه قانون الموت، وأنه يباع جسده طعاما ثم يهضم ثم يخرج فضلات في .......؟؟.
هذه الصورة المشوهة للإله جعلت علماء الفيزياء بعزفون عنه ومن باب الشعور بالأبوية العلمية والاعتداد بمكتشفاتهم زعموا أنهم سيكتشفون بديلا فيزيائيا يفسر المادة بدل الإله، حتى عنون الفيلسوف الألماني الملحد نيتشة (موت الإله) في كتابه العلم المرح.
إذا حاولوا إيجاد تفسير آخر للخلق بديلا عن الله تعالى فقالوا:
إن الكون أزلي وبقاؤه سرمدي فاتضح بنظرية ال Big bang (الانفجار العظيم) أن الكون محدث فانهارت أولى معطياتهم لإن لكل حدث محدثا، ولكل بداية نهاية..وبقي السؤال من الموجد؟
قالوا إن الطبيعة تخلق الكائنات الحية والدليل وجود يرقات وميكروبات على جسد ميت أو طعام فاسد لم تكن موجودة من قبل، فجاء عالم الكيمياء الفرنسي (لويس باستور) في أواسط القرن التاسع عشر وقال إن ذلك يأتي من البيض الكامن أو نقلها من الكائنات الحية، وليس من توليد الطبيعة ودلهم على طريقة إحكام إغلاق المعلبات والبسترة التي سميت باسمه بحيث تمنع تسلل الكائنات وتخلقها، ومعه جاءت قصة التعليب وسقطت نظرية توليد الطبيعة للكائنات الحية..وبقيت ضرورة خالق الخلق؟
وعلى نفس الطريق ساروا يتمسحون بنظرية (أصل الأنواع) وتطورها التي أطلقها (تشارلز داروين) عام 1859م والتي قال فيها إن أصل الإنسان قرد، وأردوا بذلك عزو الخلق إلى تفاعلات الطبيعة وانتخابها، وفي مطلع القرن العشرين كان العالَم على موعد مع حدث هام وهو اكتشاف علم الجينات (الكروموسومات) أو الصفات الوراثية لكل نوع وهو الاكتشاف الذي وجه صفعة لنظرية أصل الأنواع .. حيث وجدوا أن الصفات الوراثية للأرنب البري أقرب إلى الإنسان من صفات القرد (46/46) كروموزوم .. وأن الصفات الوراثية للبطاطس متطابقة مع القرد أكثر من الإنسان (48/48) فبطلت النظرية علميا وبقيت فكريا تدرس حتى الآن..وبقيت قواعد الإيمان بوجود إله هي الثابت؟
وعند اكتشاف الهندسة الوراثية ( وهي القدرة على التلاعب بالجينات) جاءوا من ناحية تكوين بناء الخلية الحية وصنعوا نفس المكونات الأولى للخلية على أمل أن تبدأ تنشطر وتتكاثر ويصنعوا كائنات حية، وطبقوا ذلك على خلية الذباب لأنها أكثر وضوحا، لكنهم عجزوا عن ذلك وسقط في أيديهم ..وكل ما استطاعوا فعله هو التلاعب بالجينات مثل النعجة (دولي) وقد أشار القرآن الكريم إلى إمكان تغيير الخلق قال تعالى (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) فهذا من تغيير الخلق والتلقيح وليس من الخلق في شيء فالروح سر لا يهتدون إليه.
حتى لجئوا إلى كلام هرائي لامتسع له في قوانين العلم، فظهر ما يسمى بفلسفة التحليل المادي وهي قولهم إن الكون محكوم بالضرورات الفيزيائية وهو يدير نفسه بنفسه، فالأنثى محتاجة للذكر والذكر محتاج للأنثى فاستجابت الضرورة الفيزيائية لملايين الكائنات الحية لهذه الضرورة؟! وجعلت لكل طرف خصائص تكملتها في خصائص الطرف الآخر؟؟ وإذا كانت الثمرة تحتاج إلى زهرة والزهرة تحتاج إلى شجرة والشجر تحتاج إلى تربة ..وعبر سلسلة طويلة من تضافر قوانين متباعدة أوجدت الضرورة الفيزيائية الثمرة .. كلام هرائي غريب وعجيب .. لقد شبهوا الأمر بمصنع يدير نفسه بآلات ليخرج علبة مغلفة، لكن هذا المصنع له صانع وموجد ومهندس هو الذي صمم تناغم الآلات، فأين صانع الكون وموجده؟ ثم إن حديثهم عن مجرد النواميس التي وضعت فأين حديثهم عن واضع النواميس؟.
ولقد أدهشتهم حقائق نسفت فلسفة الضرورة الفيزيائية من ذلك أنه إذا كانت الضرورة الفيزيائية (الأسباب) قد أوجدت الموجودات كما يقولون ومنها الكائنات الحية، فهذه الضرورة لا تعرف جمال الخلق وتنسيقه لأن الجمال ذوقي تجريدي لا فيزيائي فمن أبدع خلق الإنسان؟ ومن رسم تناسق أوراق الشجر ومحيطات الزهر التناظرية المبهرة؟ من أودع تلك اللوحات الجمالية والألوان المختلفة على الفراشات والطيور والزواحف وبلورات الثلج؟ من رسم كل ذلك؟
كذلك الفيزياء المادية لاتعرف قياس الروح، ولا العقل، ولا النوم ولا تدبيره ولا تخضع منظومة القيم للفلسفة المادية ولولا القيم الإنسانية ما قامت حضارة، ولو خلت الانسانية كلها من قيمة واحدة مثل (الصدق) لم يبن حجر على حجر؛ لأن كل طرف سيعمد إلى خداع الآخر وغشه والغدر به، فمن أودع في الفطرة قانون السلوك البشري؟ وكيف وهم يقولون فاقد الشيء لايعطية كيف للطبيعة التي لا عقل لها ولا مشاعر ولا روح ولا حواس أن تخلق كائنا هو الإنسان بعقل وروح ومشاعر وحواس ثم صار هو من يتحكم في الطبيعة ويطوعها لإرادته؟؟!
أخيرا:
لقد لجأ الكثير من علماء الطبيعة بتخفيف إنكارهم لوجود إله بالقول بوجود عقل مدبر، أو سلطة ما ورائية، حتى لا يظهر الملحدون كمن لا عقل لهم وأول من ينقض قانون العلة والمعلول وهم أول من أقاموا علمهم على مرتكزاتها.
إنه لا أسس علمية ولا عقلية البتة لنفي وجود إله صانع وحكيم وهو الله عز وجل .. وإنما يرجع سبب إلحاد الملحدين بصفة عامة إما إلى كره الدين بسبب المتدينين كما رأينا من علاقة الكنيسة بعلماء الغرب .. أو إلى الجهل .. أو إلى تمرد نفسي لما في الدين من إذعانات والتزامات .. أو إلى تكسب مصلحي بسبب وجود تسهيلات من دول ومؤسسات تدعم اللادينيين .. وهذه شاعت كثيرا في العالم الثالث بسبب الفقر والفاقة .. فتنامت ظاهرة المتاجرين بالمبادئ والمنسلخين عن القيم .. حتى وصل بعضهم درجة من الانحطاط السلوكي إلى حد الاستطالة على دين أمته، فلا يفتأ يتأفف من هويتها، وتأريخها، وثقافتها، ويشتم مقدساتها ليقدم كل ذلك قربانا في مذبح الأديان، ومسلخ الهويات، بثمن بخس لسدنة الكفر ومؤسسات الإلحاد .. وقد لايجد أولئك المتسكعون حتى الثمن البخس الذي ينتظرونه وتركوا كل شيء من أجله.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news