المؤتمر الشعبي العام.. إِكْسِيْرُ الحَيَـاةِ السِّيَـاسِيّة في اليَمن
قبل 2 دقيقة
يوافق يومنا هذا الرابع والعشرين من أغسطس الذكرى الثانية والأربعين لتأسيسِ حزبِ المؤتمر الشعبي العام، ذلك الحزبُ العريقُ والأكبرُ في اليمن الذي قضَى أكثر من ثلاثةِ عقود معتليًا هرمَ السلطة الشرعية، ماسِكًا بزمامها، مُسيّرًا لأمورها، فارضًا الأمنَ والأمانَ فيها، ومحرِّكًا لعجلةِ تنميتها، التي ظلَّت دائرةً حتى مجي نكبة 2011 التي زعمت بأن هناك قصُور في إدارةِ الدولة والعجزِ عن تطويرها بما يجعلها في مصَافِّ دولِ الجوار، والتمكين للفساد بالتغلغل في مفاصل مؤسسات الحكم والإدارة، ونَسْبِ كلِّ نقيصةٍ إليه. لكنها ادعاءاتٌ معجونةٌ بزيفٍ من القول وغلوٍ وتهويلٍ وتَعَالٍ وتعجرفٍ، غاب عن معظمها الإنصافُ والمصداقية،
لقد كان مطلع العام ٢٠١١ بداية نَسْجِ مخططاتٍ تآمرية لإدخال حزب المؤتمر في دوَّامةٍ من الصراعات، لحقتها محاولاتٌ متتالية لإقصائه، بأدواتٍ غير دستورية، ليس من حكم البلاد فحسب، بل من الحياة السياسية كلها. إلا أنَّ الحزبَ أمام تلك العاصفةِ الهوجاء لنكبة الحادي عشر من فبراير التي رعتها وغذَّتها قيادات المعارضة عبر تكتُّلهم المسمى"أحزاب اللقاء المشترك"، طأطأ رأسَه وانحنى لمرور العاصفة، مُضَحِّيًٍا بحاكميتهِ للبلاد، عبرَ موافقته على اتفاقية المبادرة الخليجية، آملاً تجنيبَ البلاد الوقوعَ في مستنقعِ وَحْلٍ منَ التشظّي والتمزق والصِّراع البيني، وراجيًا منع وُلُوجِها في كُوَّةِ نفقٍ مظلمٍ تَسْوَدُّ معه صفحاتُ إنجازاتٍ تنمويةٍ وسياسيةٍ سطَّرها الحزبُ خلال ثلاثةٍ وثلاثين عامًا فترةَ تربعة سُدَّةَ الحكم، وتلك حِكمةٌ تحسبُ له.
إلا أنَّ الأقدار شاءَت عقبَ ذلك، وبفعل المكايدات السياسية التي يتحمل الجميع- دون استثناءٍ- وِزرَها، أن نغرِزَ في مستنقعٍ من الدِّماءِ والدمارِ، وأن نلِجَ نفقًا أشد إظلاماً وقتامة، لتتعطلَ بذلك عجلة الحركة التنموية في أرض بلادنا قاطبة، وتتلبَّدَ سماؤنا بغيومِ البؤسِ والمعاناةِ التي طالت آثارها حياة اليمنيين كافة، وفاقمتها حرب السادس والعشرين من مارس ٢٠١٥، لنجد أنفسنا في ظل أوضاعٍ كارثية، ما زلنا حتى اللحظة نكتوي بصفيحِ جحيمها ونرتع في لهيب آثارها، "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ".
خلاصة الأمر، أنَّ الحزبَ ما زال صامدًا ومناضلاً، رغم مصادرة قراره في الداخل، لاستعادة ذلك القرار ونيل استقلاله من تلك المصادرة التي فُرِضَت عليه فرضًا عقبَ فشل انتفاضة ديسمبر واستشهاد زعيم الحزب آنذاك -رئيس الجمهورية السابق علي عبدالله صالح (رحمه الله).
ويُعذَرُ الحزبُ في تلك الحقبة التي سلك فيها أخف الضررين، لِتجنُّبِ حَلّهِ وتَحاشِي نتائجَ كارثية بحقهِ وحق كوادره وقياداته التي قادت سفينةَ الحزبِ لشاطئ السلامة وحاولتْ الوصولَ به لبَرِّ الأمانِ والحفاظ عليه قدر الإمكان.
وذاكَ منجزٌ يحسبُ أيضًا للحزب، إذ أنَّ بقاءَهُ يعني، عمليًا، بقاءَ الحياة السياسية التي يُرادُ لها الفناء، لصالح سياسةِ الاستِفرَاد، والتسَلُّط السائدة دونما رقيبٍ أو حَسِيب.
أمامَ كل تلك الصِّدَامات والمؤامرات المُستهدِفة اجتثاثَه من الساحة السياسية، نجَا حزبُ المؤتمر الشعبي العام واجتاز حقل الفِخَاخ والألغام بحنكةٍ ودهاء، إلا أنّ بعضًا منها انفجر في وجهه، لكنه لم ينتهِ، فهو يمرضُ لكن لا يموت، صحيحٌ أنَّ تلك الجراحات أثخنت في جسده، ونالت من تماسكه شيئًا، تمثَّلَ في استقالاتِ بعضٍ من كوادرهِ، وانشقاقاتِ آخرين، لِينشَطِرَ معهم البيت المؤتمري، إلا أنَّ أساساتِه ظلَّتْ ثابتةً في الأرض ولَبنَاتِه تتعالى في السَّماء، وظلَّ الحزبُ راسخًا رسوخَ الشُّمِّ من الجبال أمام كوارث الطبيعة، ولا غرابةَ في ذلك، فجذور الشجرة الممتدة لأكثر من أربعة عقود لا تتزحزح أمام العواصف والنكبات العارضة، فكيف الحالُ وجذور الحزبُ متغلغلةً في قلوبِ كثيرٍ من الجماهيرِ العريضة في شتَّى أنحاء اليمن، ومَسْقِيَّةً بماءِ الوسطيَّةِ والفِكر المعتدل القائمِ على نبذ التطرف والغلو والقبول بالآخر رغم الاختلاف معه سياسيًّا وأيديولوجيًّا، وتلك مَزِيّةٌ ربما يتفرّدُ بها الحزبُ عن غيره، وعليهِ فما تلك الخسائرُ المدفوعةُ في سبيل بقائهِ والمحافظةِ عليه إلا ثمنًا زهيدًا، توجَّب دفعُها؛ عِتقًا لرقبةِ الحزبِ من مقصلةِ الاجتِثاثِ ومَشنقةِ الحَلِّ التي كانتْ تُرادُ له.
إنَّ حزبَ المؤتمر الشعبي العام حزبٌ يمنيُّ المنشأ والأيديولوجية، يحتضن تحت مظلته قاماتٍ لا حصرَ لها من ذوي الكفاءات العالية والخبرات المجربة التي صقَلها الميدانُ سِلمًا وحربًا، ولا بد اليوم من الاستعانة بهذا الحزب وكوادره لحلحلة أوضاع اليمن الراهنة، وفك شفرة طلاسم تعقيداتها، فهو وبلا شك العَالِم بخفايا أمورها، وحتماً لديه مفاتيحُ حلولها.
ولا تقف حاجة اليمن إلى الحزب عند ذلك، بل أيضًا تحتاجه لبقاء المناخ السياسي فيها قائمًا، فهو إكسِيرُ حياتها، كيف لا وهو الحزب الذي أدارَ البلاد لأكثرَ من ثلاثةِ عقودٍ، وشجَّع التعدديةَ السياسيةَ فيها، بل وساهمَ في وجودها، وقدّم لها دعمَ الدولة لتساهمَ في ممارسةِ رقابةٍ إيجابيةٍ على السلطة الحاكمة بما يحولُ دونَ تسلُّطِها وبما يعينُ في تنميةِ البلادِ وتطويرها، لولا أن تلك الأحزابَ المعارضةَ حَرفَتْ بوصلتَها - وسنفترض حسن نيتها- عن دورها الوطني المنشودِ في تقويم اعوجاجِ النظامِ الحاكم وابتغاءِ الصَّالح العام لتتعداهُ إلى القضَاء على منظومة الدولة وإسقاطها، لمآرب ودوافع ظاهرها المصلحة الوطنية وباطنها غيرُ ذاك.
لكنه مع ذلك يظلُّ أبَ الأحزابِ وحزبَ الدولة الأعرَق الذي يعوَّل عليهِ اليمنييون كثيرًا - بالتعاون مع كافة شرفاء الوطن وأحزابها الوطنية- لإخراج البلاد من مأزقها الراهن.
خِتاماً، نثقُ في قدرةِ هذا الحزبِ العريق والرائد على التعافي ولملمة لُحمَتهِ من جديد، تحتَ قيادةٍ جديدة، تتجه الأنظار إليها، لانتشالهِ من حالة ضعفه الراهنة، وفترة خموله المؤقتة، والتي هي في الحقيقة فترة نقاهة، إنْ صَحَّ التعبير، يعيشها الحزبُ المثخنُ من غدرِ القريبِ وتربّصِ البعيد، أيامًا معدوداتٍ سُرعانَ ما تنقضي؛ ليعودَ بِحُلَّةٍ جديدةٍ، فيزدادَ رونقًا وبريقًا، في ظل قيادةٍ موحدة قوية جامعة، نرى -إنْ تَحقّقَتْ فراستُنا- أنّ طيفَها يَلُوحُ في الأفق، بعد أن كانت محجوبةً عن ممارسة العمل السياسي، ومكبلةً بقيودِ عقوباتٍ كيديةٍ زائفة، وإنَّ غدًا لناظرهِ قريب.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news