(من عاش ولمس ليس كمن سمع ودرس) ق.م
يحدث أحيانًا أن تتسلل بعض الكلمات والمفاهيم والعبارات إلى اذهاننا دون وعي منًا لاسيما نحن الذين درسنا فلسفة التاريخ والحضارة وتلقفنا معظم المفاهيم التي نستخدمها من سياقات ثقافية واجتماعية غربية مغايرة لم نعشها قط. وربما وجدنا التحليل النفسي ما يشبع ويروى لفهم هذه الظاهرة. إذ أن عالم التحليل النفسي سيجموند فرويد، في كتابه المهم، تفسير الأحلام قد أكد بأن كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال وأحلام وأفكار وأوهام وعبارات وكلام يمكن فهمه وتفسيره بإعادته إلى أسبابه والأسباب أربعة( قريبة وبعيدة وظاهرة وخفية) حتى زلات اللسان لها معنى حينما تصدر عن الإنسان دون ارادته . والحلم سر الشخصية بحسب أريك فروم. لا يحلم الكائن الحالم إلا بالأشياء الحيوية التي عجز عن إشباعها في الواقع. فالجائع لا يحلم إلا الخبز والعطشان لا يحلم بما يروي عطشه والمسجون يحلم بالحرية والمحصور يحلم بالحمام والمحروم يحلم بموضوع حرمانه والخائف يحلم بالأمان والحزين يحلم بموضوعات حزنه والمظلوم يحلم بالعدل والمقهور يحلم بموت قاهره ..الخ. وهكذا هي الأحلام لأيمكن تفسيرها وفهمها إلا بما قبلها وفي سياق حاضرها الحي الفوري المباشر. في ذات السياق يمكن لي ولكم فهم معنى كلمة ( فيما يشبه) التي أدمنت كتابتها في عناوين مقالاتي دون وعي في كثير من الأحيان إذ ما أن أبدى بكتابة أي شيء يتصل بالحياة العامة في مجتمعنا العربي الإسلامي حتى تقفز تلك الأزمة ( فيما شبه) مثل البسملة . كتبت فيما يشبه الفرح وفيما يشبه التهنئة وفيما يشبه الاحتفاء وفيما يشبه الاعتذار وفيما يشبه الحياة وفيما يشبه الوطن وفيما يشبه الأمل وفيما يشبه الحرية وفيما يشبه الشعر وفيما يشبه الحب وفيما يشبه الحلم وفيما يشبه التفكير وفيما يشبه الحزن وفيما يشبه المؤسسات وفيما يشبه الجامعة وفيما يشبه الجودة وفيما يشبه المدينة وفيما يشبه الثورة وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الثقافة وفيما يشبه البشر فيما يشبه الجيوش وفيما يشبه الصلاة وفيما يشبه الحرب وفيما يشبه الثقة وفيما يشبه الصدق وفيما يشبه العلم وفيما يشبه الحقيقة.. الخ. نعم كتبتها في عناوين مقالاتي المنشورة. ولم أكون على دراية واعية بحضورها الكثيف بهذا النحو . وربما يعود الفضل لأخي العزيز، أستاذ صالح أبو مهيب الذي نبهني إلى تكرارها بشكل مستفز فيما معظم ما أكتب.
ذات يوم سألني صالح أخي أبو مهيب : لماذا تكتب كلمة (فيما يشبه) بعناوين منشوراتك ومقالاتك؟ تلعثمت ولم أجد جوابًا منطقيًا حينها وأتذكر أنني قلت له: لا أعرف لماذا علقت بذهني هذه الأزمة اللغوية؟ وحينما خلوت بنفسي أخذت أتأمل في الأمر فأخذتني الذاكرة إلى زمن مضى ربما لعقدين من الزمن منذ بدأت استخدم تلك العبارة دون أن أكون واعيًا بها. وهذا ما جعلني أتفحص الدلالة في هذا العبارة العالقة بذهني. انها يا سادة نابعة من إحساس عميق بان تلك الحياة التي نعيشها في هذه الأصقاع المسممة بالبؤس والخراب والظلام والخوف والجريمة ليست حياة طبيعية للكائن الإنساني. أنها فقط فيما يشبه الحياة. وجودنا فيما يشبه الوجود أحلامنا فيما يشبه الأحلام أفراحنا فيما يشبه الأفراح، لا شيء طبيعي وراسخ ويبعث على الاطمئنان والثقة والحلم والأمان في هذا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية الراهنة .اننا نعيش في حالة وجودية عبثية تعي قوة التمييز والحكم. وتلك هي السمة العامة التي تتسم بها المجتمعات التي تضيق فيها حدود الحرية ( حرية الضمير والفكر والاعتقاد والعمل ) إذ يندر أن تجد فيها أشخاص طبيعيين يتصرفون على طبيعتهم ببراءة وعفوية بالاتساق مع سجيتهم الحقيقية ، بل تسود ثقافة وقيم ازدواجية الشخصية بين الظاهر والباطن وتزدهر قيم التكلف والتزلف والنفاق والمرآءة واللف والدوران والكذب والأحقاد والضغائن والخيانات والغدر والخديعة والشتم والغيبة والنميمة وانعدام الثقة والشك والارتياب وسوء الفهم والتفاهم والفصام وسرعة التقلب من حال الى حال و الجمع بين المتناقضات دون الشعور بالتناقض وصعوبة التنبؤ بسلوك الأفراد وردود أفعالهم، واختلاط المعايير وغياب الحدود بين الغث والسمين بين الجيد والرديء ويمكنكم تعداد المزيد من القيم السلبية من واقع حياتكم وتجاربكم الشخصية. أتمنى أنني استطعت أن أجيب على السؤال ولو بالحد الأدنى. في ذات السياق جاءت فكرة كتاب فيما يُشبه الانتظار بوصفها فكرة محملة بكنانة شاملة بالأمل والترقب والصبر والرجاء وحينما يعجز الواقع عن إشباع حاجاته الملحة يضطر أخيرا إلى الحلم والأمل.
لا أخفيكم بأنني كنت شديد الحذر تجاه تلك المفاهيم النظرية المجردة التي عرفتها عبر الترجمة وليس عبر الممارسة ولما كان حدسي يقول لي بأن استخدمنا لتلك المفاهيم في واقعنا لم يكن مطابقا البتة لحقيقة الواقع المتعين كانت عبارة ( فيما يشبه) بمثابة التعويذة التي استخدمها في مستهل كل رأي أو مقال اكتبه عن قضايا الشأن العام في مجتمعاتنا العربية الإسلامية المعاصرة إذ كتب فيما يشبه الحياة وفيما يشبه الدولة وفيما يشبه الفرح وفيما يشبه الحرية وفيما يشبه الجودة الأكاديمية..الخ
كنت على وعي عميق بإن المفاهيم لا توجد في فلك الأفكار ومدونات اللغات فحسب، بل هي كائنات تاريخية شديدة الارتباط بسياقاتها الاجتماعية الثقافية المشخصة، ولكل مفهوم مكان وزمان ولادة وسياق نمو وتجربة ممارسة وعلاقات قوة وسلطة معرفة ونظام خطاب ومدونة لغة وفضاء فكر وحساسية ثقافة وحقل تأويل وشفرة معنى وأفق دلالة.. الخ غير أن مشكلة الإنسان مع المفاهيم المجردة تكمن في اعتقاده بانه يعرفها بمجرد نطقها وحينما يسأل نفسه عن معناها يكتشف جهله وتلك هي قضية سقراط الفلسفية(أعرفك نفسك واعرف عن ماذا تتحدث) وهذا هو الدافع القوي الذي جعلني أبحث عن كل السبل الممكنة لزيارة شمال الأطلسي والتأكد بنفسي بالملموس عن حقيقة ما اعرفه عن الحضارة الأوروبية الحديثة والمعاصرة. في الواقع لم أكن اصدق كل ما قراته عن الدول الغربية وتمدنها وجودة جامعاتها واحترام حقوق الإنسان وعدم التمييز بين الجنسين والنظام والقانون والمواطنة والفرص واشياء كثيرة جدا. وربما يتذكر الأستاذ الدكتور عماد عبدالمسيح مدى حماستي لمعرفة الكثير عن هولندا نظامها التعليمي حينما التقيته لأول مرة في مؤتمر الإسكندرية عن ( الترابط بين الإنسان والدين والبيئة) الذي نظمه معهد الأبحاث الألماني OIB من 10 إلى 13 ديسمبر2022 بحضور نخبة متميزة من المفكرين والاكاديميين والباحثين من مختلف بلدان العالم ومؤتمر الدين والتدين والتحول الرقمي في جامعة النيل بالقاهرة 12 مارس 2013م كنت حريص على سماع المزيد من المعلومات عن هولندا التي تعد ثالث دولة في العالم من حيث جودة التعليم. إذ دائما من تحضر جامعاتها في مصنفات معيار الجودة العالمية في المراكز المتقدمة.
لقد ذهبت أمستردام لغرض معلن هو حضور معرض الكتاب العربي ولكن الغرض الأهم هو الاتقاء بصديقي العزيز دكتور عماد عبدالمسيح وزيارة جامعة أمستردام الحرة التي تعد من بين أفضل عشر جامعات هولندية. ولما كنت مهتما بفهم معنى المؤسسة الأكاديمية ومعايير الجودة الشاملة كانت زيارتي لجامعة أمستردام الحرة بمثابة لحظة اكتشاف للمعنى الذي طالما وتحيرت في سبيل اكتشافه أقصد معنى الجودة الأكاديمية في نبعه وموطنه وكما يقول المثل اليمني : ما تُسهن الجودة إلا من منابعها!
شاهدت قاعات المحاضرات لطلاب البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ومكاتب المعلمين وقاعات البحث بمزودة بالأجهزة الإلكترونية المطلوبة لابتوبات وشاشات عرض وسبورات ذكية وكل غرف المدرسين مفتوحة الأبواب وفي كل قسم من أقسام الكلية مكتبه خاصة به. قعدنا على شرفة قسم الفلسفة واللاهوت وقال الدكتور عماد على الطريقة المصرية المحببة ماذا تشربوا سخن أم ساقع؟ قلت له: من الذي يجيب لنا إلى عنان السماء؟ قال؛ اختر ماذا تشرب ودع الأمر لي؟ قلت: هذا الشرفة يليق بها الكبتشينو. دقيقة والكابتشينو على الطاولة. استمعت اليه وهو يحدثني عن الجامعة وبنينها التحتية وكلياتها وأساتذتها وعلمائها ومعايير جودتها ، اخبرني بان الجامعة تمتلك افضل مستشفى في المدينة لعلاج طلابها وأساتذتها مجانا. وحدثني كيف أن الطبيب اتصل ذات يوم قبل خمسة سنوات واخبره أنه يود رؤيته لغرض فحص تطابق الكلية التي وفرها له مع خلايا جسمه وكيف عمل له العملية في غضون ساعتين ومن حينها ولم يشعر بأي ألم في الكلى متعه الله بالصحة والعافية. حدثني عن كلية الفلك وعلوم الأرض وعن كلية الفلسفة واللاهوت وعن المختبرات العلمية المزودة بتقنيات متطورة. حدثني معنى الحرية الأكاديمية التي تتمتع بها الجامعة وأساتذتها وعن (خريفيون) ايقونة الجامعة وشعارها المستوحى من الأسطورة اليونانية بهيئة أسد برأس وأجنحة طائر يرمز إلى المعنى الذي تتبناه الجامعة منذ نشأتها ؛ قوة العلم والحقيقة العلمية التي تشبه قوة الأسد وحرية العلم والمعرفة العلمية التي تشبه الطائر المحلق بالآفاق.. فالأكاديميا يجب أن تمارس في حرية تامة عن أي سلطة.. بما في ذلك سلطة السياسة وتلك هي الحرية التي ابحث عنها منذ زمن طويل ولم اجدها في البلاد العربية أبدا ولطالما وكتب في معنى الحرية والجودة الأكاديمية وتوصلت إلى النتيجة التالية وهي: لا جودة أكاديمية بدون حرية أكاديمية إذ أن الحرية الأكاديمية تنبع من مقتضيات الحقيقة العلمية، إذ أن العلم والتفكير العلمي والبحث العلمي لا ينمو ولا يزدهر إلا في فضاء حر ومجال مستقل وبيئة شفافة. وقد كان الفتح الجديد الذي أوجد حرية البحث العلمي هو من اخطر الثورات الفكرية والاجتماعية في تاريخ البشرية، ولقد أعطى العلم بصفته الشكل النموذجي للبحث الحر، مهمة وضع مجالات الفكر كلها في الوضع الصحيح لذا فإن العلم هو العدو الطبيعي للمصالح القائمة كلها سواء منها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية بما فيها مصالح المؤسسة العلمية ذاتها، ذلك أن الحرية ترفض التسليم ببقاء الأشياء على حالها. والشك المنظم الذي تتصف به الطبيعة العلمية أمر دائم الحضور ودائم التشكك بأخر الاقتناعات الفكرية، بما فيها تلك التي طال أمد التسليم بها. وكما يقول توبي أ. هف » بما أن العلم قد أعطى هذه المهمة الفكرية لفحص صور الوجود وأشكاله كلها فانه غدا العدو الطبيعي للنظم التسلطية بشكل خاص وهذه النظم لا تستطيع أن توجد حقاً إلا إذا كبتت أشكال البحث العلمي التي تظهر الطبيعة الحقيقية للنتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الخطيرة والمدمرة لتسلطها وحكمها” ولما كانت الجامعة هي المؤسسة التي تنهض برعاية العلم وتنميته وتقدمه وازدهاره، فلابد لها من أن تكون مؤسسة حرة ومستقلة، إذ أن الحرية هي الشرط الجوهري لوجود العلم والفكر العلمي، كما يقول كروبر “إن حاجة العلم إلى الحرية، مثل حاجة النباتات التي تنمو في البيوت الزجاجية إلى الشمس والأكسجين، أما إذا طليت النوافذ بالسواد كما في الحروب، فلا تنمو إلا الأعشاب الطفيلية الضارة، والإبداع العلمي يتيبس في البيئات الاستبدادية والتسلطية”10، وتلعب الحرية الأكاديمية دوراً حاسماً في تنمية المجتمع وتغييره وتقدمة وازدهاره. وهذا ما أوضحه امارتيا صن في كتابه (التنمية حرية)(مؤسسات حرة و إنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر) بقوله: “أن الحرية هي الغاية والهدف الأسمى لكل تنمية ذلك أن الحرية تعني المقدرة على الفعل والاختيار و التفكير والإبداع ” وبدون أن تأمن الجامعة بيئة مناسبة للأساتذة والطلبة في ممارسة نشاطهم التعليمي والعلمي، فلا يمكن لها النمو والتطور والازدهار. هكذا نلاحظ أن حرية الجامعة واستقلاليتها المالية والإدارية والأكاديمية ليست من الأمور التكميلية والثانوية، بل هي أس الأسس ولب المسألة برمتها.. لكن كيف يمكن للجامعة أن تكون مؤسسة أكاديمية حرة ومستقلة؟! ويعود مصطلح الأكاديمية إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427- 347 ق.م) إذ كان أول من أطلق اسم (اكاديموس) بمعنى المكان الذي كان يلقي فيه محاضراته الفلسفية ويعلم فيه تلاميذه العلوم العقلية المجردة كالرياضيات والفلك والهندسة والتربية والسياسة … الخ، تمييزا له عن أماكن وأنماط التعليم السفسطائي الابتدائي، والأكاديمية تعني بيت التعليم العقلي والحر والتأمل الفلسفي المجرد والمعرفة الرفيعة التي ليس لها من غاية أخرى غير البحث عن الحقيقة. وقد ارتبط نمو العلم وازدهاره بالحرية كمعطى إنساني وحق فطري للكائن الاجتماعي، إذ أن الحرية هي الشيء الوحيد الذي يستحيل إنكاره، وقد كانت الجامعات منذ نشأتها في القرون الوسطى تتمتع بقدر كبير من الحرية والاستقلال الأكاديمي، والحرية هي من التقاليد الراسخة التي ورثتها الجامعات الحديثة المعاصرة ونعني بالاستقلال الأكاديمي حرية الجامعات في اختيار نظامها التعليمي وبرامجها ومناهجها وطرائق التدريس واختيار هيئة التدريس فيها، وعدم وضع قيود على ما تدرسه الجامعة وما يقوله أو ينشره أو يعبر عنه أساتذتها من الأفكار والآراء العلمية وغير العلمية. والأكاديمية هي الصفة التي تطلق على حقل متعدد الأدوار والقيم الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، دور الأستاذ الجامعي دور الباحث العلمي، دور المثقف العام ، دور المشرف العلمي (أو حارس البوابة)ودور الخبير المتخصص بما تشتمل عليه تلك الأدوار من قيم مهنية أكاديمية وأخلاقية منها: النزاهة والرصانة والأمانة والاستقامة والعقلانية والموضوعية والتجرد وبهذا المعنى والأكاديمي هو الشخص الذي يقوم بنقل المعرفة ونقدها وإنتاجها بإتباع مناهج وأدوات علمية محددة، بهدف الكشف عن الحقائق وبحث الأشياء والمشكلات بموضوعية وتجرد وحيادية تامة.
منذ وصلت هولندا وأنا أحاول التحقق من معاني المفاهيم التي عرفتها عن النهضة الإنسانية والحداثة وما بعد الحداثة وكل يوم اكتشف المعنى الحقيقي للمفاهيم المجردة التي عرفتها سابقا في مشهد أفلاطوني حقيقي ادركت أن المعرفة تذّكر إذ كنت أشبه بالخارج من كهف أفلاطون حينما اكتشف العالم الحقيقي الذي لم يكن قبلا يرى إلا أشباحه وظلال كائنات المتحركة. كانت مزودا بالمعرفة من عالم المثُل فإذا بي أتذكرها كلما شاهدت ما صدقها في الأشياء في عالم الممارسة الحياتية اليومية المباشرة.
وأنا اجمع المعنى من الشرفة العالية لجامعة أمستردام الحرة عن معنى الجودة الأكاديمية ومؤشراتها الفعلية خطرت لي محنة الفيلسوف العربي الأبرز أبن رشد لقرطبي أبو الوليد (520 هـ/1126 م – 595 هـ/1198 م) وحيرته بإزاء كتاب الفيلسوف اليونان أرسطو طاليس 322 ق.م وكتابه بويطيقا أو فن الشعر إذ أنه لو تمكن من زيارة أثينا في زمانه وشاهد المسرح اليوناني هناك لما كان توقف طويلا عند معنى مصطلحي (تراجيديا وكوميديا) واليكم الحكاية: كتب الأديب اللاتيني الضرير خورخي لويس بورخيس في وصفة محنة ابن رشد مع ترجمة كتاب الشعر لأرسطو طاليس قائلا ” بالأمس وقف عند كلمتين مريبتين في بداية كتاب “الشعر” وهما “تراجيديا وكوميديا”. لقد وجدهما سنوات من قبل في الكتاب الثالث من “البلاغة”، لم يسبق لأحد في نطاق الإسلام أن خمن معناهما، وبدون جدوى، أتعب صفحات كتاب الإسكندر الأفروديسي، وبدون جدوى، قارن بين الترجمتين اللتين قام بهما النسطوري حنين بن إسحاق وأبو بشر متى، والكلمتان اللغزان تترددان في كتاب الشعر يستحيل تلافيهما. ترك ابن رشد القلم، وقال لنفسه (دون ثقة كبيرة) بأن ما نبحث عنه يكون عادة قريبا منا، خبأ مخطوط التهافت، واتجه نحو الخزانة حيث تصطف مجلدات كثيرة من كتاب “المحكم” للأعمى ابن سيدة منسوخة بأقلام خطاطين فرس، سيكون من باب الخداع أن نتخيل بأن ابن رشد لم يراجعها من قبل ولكن استهوته الآن لذة ورجع إلى تصفحها من جديد، وسمع صوتا رخيما نظر من الشرفة، في الفناء الأرضي الضيق فرأى بعض الأطفال يلعبون شبه عراة، كان أحدهم، واقفا على كتفي آخر، يمثل المؤذن بصورة بارزة : عيناه مغمضتان جيدا، وهو يتلو “لا إله إلا الله” أما الصبي الذي كان يحمله ولا يتحرك فكان يمثل الصومعة. وكان الآخر راكعا على ركبتيه في الغبار، يمثل جماعة المؤمنين. استمر اللعب وقتا قليلا، فقد كان كلهم يريد أن يكون المصلين أو الصومعة، سمعهم ابن رشد يتشاجرون ويتعاركون في لهجة بريئة، يمكن القول إنها الإسبانية البدائية التي يتكلم بها عوام المسلمين في إسبانيا. فتح ابن رشد كتاب “العين” للخليل، وفكر بكبرياء أنه لا توجد بقرطبة (وربما الأندلس كله) نسخة أخرى من هذا المؤلف الكامل الذي أرسله إليه من مدينة طنجة الأمير يعقوب المنصور. ذكره اسم هذا الميناء بأن الرحالة أبا القاسم الأشعري، الذي جاء من المغرب سيتناول في حضرته طعام العشاء هذه الليلة في بيت فرج عالم القرآن. يقول أبو القاسم إنه بلغ مهالك امبراطورية الصين، ويقسم المشنعون، استنادا على ذلك المنطق الذي يتولد عنه الحقد أنه لم يصل أرض الصين أبدا. إن الاجتماع سيستغرق ساعات لا محالة ولهذا رجع ابن رشد إلى كتابة “التهافت” معجلا. وظل يعمل إلى حين الغروب” ( ينظر، خورخي لويس بورخيس، ابن رشد وقلق العبارة) والمعنى أن فيلسوف قرطبة العربي الذي لا تعرف ثقافته الفن المسرحي المرئي لم تسعفه اللغة وحدها من اكتشاف معنى الكلمتين اليونانيتين ( تراجيديا وكوميديا) في كتاب بويطيقا فن الشعر لأرسطو وهكذا دائما تحجب الثقافة المعنى. ولو أن ابن رشد يعرف المسرح لما نظر في كتاب العين للخليل ولكان أكتفى بمشاهدة تمثيلة الصلاة والأذان التي كان يؤديها الأطفال في فناء المنزل. فعلا الثقافة تحجب المعنى ومن عاش ولمس ليس كمن سمع ودرس. منذ وصلت هولندا قبل عشرة أشهر تقريبا لم اعد اكتب فيما يشبه بوصفها تعويذة لمقالتي. ربما ساعدتني المعرفة المكتسبة سابقا بالحضارة الغربية الحديثة في رؤية كل ما أعيشه وأشاهده هنا بدهشة وحماسة.
كان يومًا بهيجا ومفيدا بالنسبة لي في أمستردام بوجود باش مهندس عماد اليافعي الذي إخذنا مشكورا بسيارته الجديدة من الجامعة إلى معرض الكتاب العربي في وسط البلد وعاد بنا إلى مدينة اقامة الشيخ محمد حسين القحوم الذي أصر مشكورا على عزومتنا في منزل صديقه وحيد الأبي على وجبة يمنية يافعية كريمة. وهناك شاهدنا مباراة فوز هولندا على بريطانيا مع جمع كريم من شباب اليمن الطيبين الذين غمرونا بلطفهم الجميل. ودمتم بخير وسلام.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news