أكدت دراسة استراتيجية حديثة "أن شبح الحرب في اليمن لايزال مخيما على الأوضاع السياسية والاقتصادية في اليمن ومولداً لكل التحديات الماثلة أمام تعافي الاقتصاد وضخ الدماء في شرايين الأنشطة الاقتصادية في كل القطاعات.
وشددت الدراسة التي اعدها الخبير الاقتصادي اليمني البارز الدكتور" مطهر العباسي" –وحصل المشهد اليمني على نسخة خاصة منها – على أهمية البدء بالتفاوض والحوار اليمني - اليمني لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني، والذي يمثل الحلقة الرئيسية في ضمان التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار مشيرة الى أنه على المسار الاقتصادي هناك ثلاث خطوات يجب سرعة القيام بها لمعالجة الاختلالات الكارثية وتمثل التالي:
أولا الحد من الانقسام والتشطير النقدي والمصرفي، ويبرز هنا دور البنك المركزي، في كل من عدن وصنعاء، بوصفه مؤسسة وطنية رائدة يعول عليها الآمال في التوافق على صياغة سياسة نقدية فاعلة تستهدف توحيد العملة وسعر الصرف، وانتشال البنوك العاملة في مناطق صنعاء من حالة الإعسار المالي، بل من حالة الإفلاس، واستعادة الثقة بين البنوك والجمهور من مدخرين ومستثمرين ومتعاملين. وللأسف، ما يُمارس في الوقت الراهن من حروب مصرفية بين عدن وصنعاء يدفع باتجاه تعميق الأزمة الاقتصادية وتوسيع هوة الانقسام المصرفي، وكأن اليمن محكوم عليه أن يعيش في دوامة من الأزمات والحروب العبثية، ولا مجال له للخروج من الركود إلى حالة التعافي الاقتصادي.
ثانيا: تعظيم الاستفادة من الموارد السيادية المتاحة (عوائد النفط والغاز، والضرائب، والجمارك، والزكاة وغيرها) والحرص على إدارة المال العام وفقاً لسياسات مالية رشيدة، محكومة بقواعد الشفافية والمساءلة، وتسخيره للوفاء بحقوق الموظفين من المرتبات، وللإنفاق على المشاريع التنموية في مختلف القطاعات بهدف التسريع بعملية التعافي الاقتصادي وإعادة إعمار ما دمرته الحرب.
وثالثا: إعادة ضبط البوصلة في التعامل مع القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني باعتبارهما شركاء أساسيين مع الحكومة في إدارة دولاب الدولة والنشاط الاقتصادي والاجتماعي بالبلاد، فالشراكة تقتضي توفير البيئة الملائمة لممارسة كل مكون نشاطه وأعماله وفقاً للدستور والقانون وبما يصون المصالح العليا للوطن، كما تتطلب التنسيق وتكامل الأدوار بين المكونات الثلاثة بعيداً عن الاستغلال والابتزاز أو عن التجريم والتخوين، ولا بد من الاعتراف بالدور المحوري للقطاع الخاص وقدرته على التكيف والصمود، أثناء سنوات الحرب، وبالتأكيد سيستمر في المساهمة بصورة فعالة في مرحلة الانتعاش والتعافي الاقتصادي.
ولفتت الدراسة الى أنه "بالمفهوم الاقتصادي تأتي مرحلة التعافي الاقتصادي بعد حالة الركود، فاليمن، خلال فترة الحرب دخل في حالة ركود اقتصادي اتسم بانكماش الناتج المحلي إلى النصف تقريباً وتحقيق معدلات نمو اقتصادي سالبة، وارتفاع كبير في معدلات التضخم والبطالة والفقر وتدهور حاد في القوة الشرائية للعملة "الريال"، وبعد قرابة عشر سنوات من الحرب لا تبدو المؤشرات إيجابية للانتقال إلى مرحلة التعافي الاقتصادي، والتي من سماتها استعادة النمو في الأنشطة الاقتصادية واستقرار الأسعار والثبات النسبي لسعر الصرف وتوسيع فرص العمل وتحسين مستوى معيشة الناس."
وأكدت الدراسة الى "أن مرحلة التعافي تحتاج الى متطلبات أساسية وضرورية، منها: تنفيذ سياسات اقتصادية محفزة للنمو والتشغيل، وإيجاد بيئة حاضنة وجاذبة للاستثمار المحلي والأجنبي، وتوفر قطاع مصرفي فعال لجذب المدخرات وتحفيز الاستثمار، ووجود نظام قضائي وإداري منصف ونزيه، وفوق ذلك كله توفر الاستقرار السياسي والأمني، ويبدو أن تلك المتطلبات ما تزال غائبة عن الواقع المؤلم للاقتصاد اليمني."
سياسات متناقضة
ونوهت الدراسة الى" أن الحرب أفرزت أكثر من مكون سياسي واقتصادي تتوزع على خريطة الوطن الممزق من سلطتي عدن وصنعاء إلى المكونات الأخرى في مأرب وحضرموت والمخا، وكل مكون له منهجه الخاص في إدارة الموارد العامة المتاحة له، فالموارد السيادية لسلطة عدن لا تصب في الخزينة العامة لدعم النشاط الاقتصادي، بل تذهب إلى المكونات خارج إطار الأجهزة الرسمية، كما أن سلطة عدن المعترف بها دولياً اتبعت سياسات مالية ونقدية متهورة قائمة على تمويل الإنفاق الحكومي من مصادر تضخمية عن طريق طباعة النقود، مما زاد من معدلات التضخم وتدهور في القوة الشرائية للعملة الوطنية"..مشيرة الى أنه في المقابل، "فإن سلطة صنعاء تبنت نظاماً ضريبياً وجمركياً وزكوياً جائراً، جنت منه جبايات مهولة، لم تسخر لتمويل المشاريع التنموية وتحفيز النمو الاقتصادي، بل تصب في ثقب أسود بعيداً عن الشفافية والمساءلة، وهذا بالتأكيد يساهم في طول فترة الركود وتزايد معدلات البطالة والفقر، وفي ظل تشتت الموارد العامة وضياعها يصعب الحديث عن تأثيرها الإيجابي على النمو، أو أنها تخدم عملية الانتقال إلى مرحلة التعافي والانتعاش الاقتصادي وتوليد فرص الدخل والعمل وتحسين أوضاع الناس المعيشية."
بيئة طاردة للاستثمار
وأكدت الدراسة "أن القطاع الخاص الوطني والأجنبي واجه خلال فترة الحرب، واجه صعوبات جمة في ممارسة الأعمال نتيجة الخسائر والدمار الذي لحق بالمنشآت التجارية والصناعية والزراعية، أو بسبب السياسات والإجراءات المنفرة التي تمارسها سلطتا عدن وصنعاء تجاه المستثمرين، مما ساهم في انكماش نشاط القطاع الخاص وأوجد بيئة طاردة للاستثمار، كما أن عوامل الجذب في الدول المجاورة جعلت المستثمرين اليمنيين يأتون في المرتبة الثانية بعد مصر في الحصول على تراخيص الاستثمار في السعودية خلال الربع الأول من عام 2024، نتيجة الحوافز المغرية التي تقدمها للمستثمر الأجنبي عامة وللمستثمر والمغترب اليمني بصفة خاصة وجذبه إلى الاستثمار في الاقتصاد السعودي، وهذا ما يفسر ركود الاستثمار العقاري في اليمن خلال السنتين الماضيتين في كل من مناطق صنعاء ومناطق عدن، وكل هذه عوامل لا تساعد في تحقق التعافي للاقتصاد اليمني في الأمد المنظور".
شلل القطاع المصرفي
ولفتت الدراسة الى أنه و"منذ السنة الأولى للحرب، واجه القطاع المصرفي مشكلة ندرة السيولة النقدية، بسبب قيام البنك المركزي بتغطية نفقات الحكومة خاصة مرتبات موظفي الدولة عن طريق السحب على المكشوف حتى نفدت الاحتياطيات من النقد المحلي، وكان ذلك على حساب الأرصدة المالية المتراكمة لدى البنك المركزي والتي تمثل التزامات تجاه البنوك التجارية والإسلامية مقابل استثماراتهم في أذون الخزانة أو كاحتياطي قانوني، مما زاد من حدة أزمة السيولة لدى البنوك عامة، وتوسعت الأزمة أكثر عندما تم نقل إدارة البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، وما تبعه من وجود نظامين لسعر الصرف بين مناطق صنعاء وعدن، وانعكس ذلك في تشطير النظام المصرفي وتقسيمه بين المنطقتين"..ومع بداية عام 2023، أصدرت سلطة صنعاء قانوناً بمنع التعاملات الربوية، مما عمق التقسيم النقدي والمصرفي، وأصاب قطاع البنوك بالشلل التام في مناطق نفوذها، حيث قضى على المصداقية والثقة بين البنوك وكل من المدخرين والمستثمرين، وتشير البيانات والتقارير إلى أن معظم البنوك في مناطق صنعاء في حالة إفلاس وتواجه أزمة حقيقية في السيولة من النقد المحلي والأجنبي على حد سواء، ويمكن القول إن القطاع المصرفي في مناطق صنعاء يكاد يكون معاقاً وعاجزاً عن المساهمة في تمويل الأنشطة التجارية والاقتصادية، مما يمثل تحدياً آخر أمام مرحلة التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار."
غياب الحوكمة
وأعتبرت الدراسة انه "من التداعيات السيئة للحرب، ترهل الأجهزة الإدارية والقضائية في كل من مناطق عدن وصنعاء، وانتشار مظاهر الفساد وغياب المساءلة والشفافية فيها، فإدارة الشأن العام في مناطق عدن منقسمة بصورة غير متساوية بين السلطة الرسمية والمكونات غير الرسمية "غير القانونية". فمؤسسات السلطة الرسمية في عدن تعاني غياب القيادات الإدارية العليا، الذين يؤدون مهامهم عن بعد، نظراً إلى وجودهم شبه الدائم خارج البلاد، وهم في حالة انفصام عن واقع الأداء للوظيفة العامة ومتطلباتها، وغير مدركين لمعاناة الناس واحتياجاتهم، وغير مبالين بتسهيل أعمال القطاع الخاص من مستثمرين وتجار وشركات ومؤسسات، ولذلك، يلاحظ أن المكونات غير القانونية، مدعومة بالمليشيات المسلحة، تتولى إدارة الشؤون العامة خارج الأطر القانونية والشرعية، وكل هذا أوجد حالة معقدة من الإرباك وعدم اليقين لدى المؤسسات العامة والخاصة" منوهة الى أنه "في المقابل، تعاني سلطة صنعاء الثنائية بين السلطة الرسمية و"حكومة الحكومة" غير الرسمية، فقيادات الأجهزة الرسمية تمارس أعمالها وفقاً لتعليمات مشرفي القطاعات وتوجيهاتهم والذين لا يحملون أي صفة رسمية، وتقع تحت مسؤولياتهم عدد من الوزارات والهيئات والمؤسسات والأجهزة الحكومية، مما أوجد حالة غير طبيعية في ممارسة الوظيفة العامة وفي إدارة الشأن العام، كما أن معظم مؤسسات الدولة تحولت إلى جهات للجبايات وفرض الرسوم خارج إطار القوانين النافذة، مما أثقل كاهل القطاع الخاص وساهم في مضايقته، والذي عادة ما يضع كل تلك الجبايات والرسوم وغيرها على أسعار السلع والخدمات، ويدفعها المواطن المغلوب على أمره."
وخلصت الدراسة الى " الأوضاع السائدة في كل من مناطق عدن وصنعاء أوجدت بيئة ملوثة بالفوضى عكست نفسها على ضعف أداء المحاكم القضائية وأجهزة إنفاذ القانون، كما أثرت سلباً على حماية حقوق الأفراد والمستثمرين، وخلقت بيئة طاردة للاستثمار. ولا يساعد ذلك في الانتقال إلى مرحلة التعافي الاقتصادي والخروج من حالة الركود ودوامة الأزمة الاقتصادية المستفحلة" وأن الحل في الحوار والسلام لتحقيق التعافي الاقتصادي
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news