في زمنِ الضجيجِ والسطوةِ الرقمية، حيثُ يلهثُ الجميعُ وراءَ الشهرةِ والإعجابات، يطلُّ علينا شبحُ شاعرٍ اختارَ العزلةَ طريقاً، والمقابرَ مسكناً، والموتَ حواراً. إنه عبد الله القاضي الحمادي، الرجلُ الذي حوَّلَ حياته إلى قصيدةٍ وجوديةٍ صامتة، ثم رحلَ كما عاش: غامضاً، بعيداً عن الأضواء.

من هو عبد الله القاضي؟

.

اسمٌ قد لا يعرفه كثيرون، لأنه رفضَ أن يكونَ “نجماً” في سماءِ الثقافةِ الاستهلاكية.

شاعراً ومفكراً عميقاً، قررَ في منتصفِ رحلته أن يهجرَ الشعرَ والناس، ليعيشَ بين القبور، ويجعلَ من الموتِ صديقاً وحيداً. في إحدى المقابلاتِ النادرة، قال: “ليست لي صلةٌ بأي شيء، صلتي الوحيدة بالموت، إنه الصديقُ الوحيدُ الذي أحاوره دائماً”.

لماذا اختار العزلة؟.

في مجتمعٍ يقدسُ الشكلَ على الجوهر، اختارَ القاضي أن يكونَ نقيضاً. عزله لم يكن هروباً، بل احتجاجاً صامتاً على عالمٍ مليءٍ بالضوضاءِ الفارغة. كان يرى أن الحياةَ وهمٌ كبير، وأن البشرَ يركضونَ وراءَ سراب. قال ذات مرة: الحياةُ مجموعةُ صورٍ متسارعة، في محصلتها النهائية وهمٌ شارد.

الشعرُ والموت: وجهانِ لعملةٍ واحدة

.

عندما سُئل عن علاقته بالشعر، أجاب: الشعرُ كان الوجهَ الآخرَ للموت، وقد تقابلنا الآن وجهاً لوجه”. كأنه يرى أن الشعرَ الحقيقيَّ هو ذلك الذي يلامسُ حقيقةَ الفناء، لا الذي يزيّنُ الوهم. ربما لهذا تخلى عن الكتابة في النهاية؛ لأنه وجدَ في الصمتِ تعبيراً أصدقَ من الكلمات.

التواضعُ كعدمٍ: فلسفته في الوجود

.

رفضَ القاضي كلَّ الألقاب، حتى وصفَ “الشاعر الكبير”، وقال: “يقع الإنسانُ في مأزقٍ عندما يصدقُ ما يقال عنه”. كان يرى أن التواضعَ والغرورَ وجهانِ لذاتِ العملة، وأن الشهرةَ سجنٌ لا يختلفُ عن سجنِ الجسدِ في الحياة.

رحيله المجهول: كما عاش، مات

.

لم يُعرفْ الكثيرُ عن تفاصيلِ وفاته، وكأنه أرادَ أن يختفيَ كما عاش: بلا ضجيج. تركَ خلفه أسئلةً أكثرَ من الأجوبة، وحياةً تُشبهُ قصيدةً مفتوحةَ النهاية.

اليوم، بينما تغرقُ وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِ في التفاهةِ والزيف، نجدُ أنفسنا بحاجةٍ إلى صوتٍ مثل صوتِ القاضي: صوتٍ يذكرنا بأن الحقيقةَ ليست في الضجيج، بل في الصمت.