يُطلق اسم الفلسفة الشعبية على كل فعالية فكرية يمارسها الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً يفكر، فحيثما يوجد الإنسان العاقل التفكير تحضر الفلسفة بوصفها «فيلو» حب، و«صوفيا» الحكمة. وهي إذ جمعت في بنيتها العميقة بين الحب والحكمة فإنها حميمية الصلة بالإنسان. إنها وليدة اقتران القلب والعقل ثمرة الزواج المقدس بين أقوى وأنبل عاطفة إنسانية «الحب»، وأسمى وأجل مزية تميز بها الإنسان عن الحيوان العقل «الحكمة»، وفعل «أحب» اليوناني يعني وافق وانسجم أو تكلم بلغة العقل إلى الحكمة. فمن ذا الذي يكره الحكمة؟ قال تعالى: «وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم»، البقرة، الآية«216»، وقال عز وجل: «ومن يؤت الحكمة فقد أوتيَ خيراً كثيراً»، البقرة الآية،«269». وبهذا المعنى تتصل حياة الإنسان بالفلسفة كما تتصل بالعلم والدين، منذ صيرورته كائناً عاقلاً، إذ هي موقف الإنسان الكلي إزاء الكون والحياة والتاريخ والذات والآخرين، (ميتافيزيقا) بمعنى تجاوز الحالة البيولوجية للكينونة وتجاوز الإنسان الدائم لذاته هي تساؤل الإنسان الدائم عن الحقيقة المتخفية وراء مظاهر الأشياء هي قلق المعنى، معنى الوجود، معنى الحياة، معنى الموت، ومعنى الخلود والزمان، ومعنى التاريخ والمصير، والخير والشـر، والعدل، والحق، والحرية، والكرامة، والمساواة والذات، والآخر.. إلخ. فهي موقف عقلي كلي من الحياة بما هي وجود ومعرفة وسلوك؛ ماذا أكون؟ ماذا أعرف؟ ماذا أفعل؟ بيد أن سؤال الفلسفة ليس سؤالاً أبدياً مغلقاً طرح مرة واحدة وإلى الأبد. بل هو سؤال مفتوح متغير متجدد متجاوز لذاته باستمرار، نافٍ صيغَهُ ومشكلاته القديمة بصيغ ومشكلات جديدة بقدر مايقرر التطور التاريخي من مشكلات ومهمات جديدة وتحديات مستفزة للعقل والروح.
ويهمنا هنا تأكيد الترابط العضوي بين معتقدات الكائن العاقل وأفعاله، إذ يسلك الناس وفقًا لما يعتقدون. فإذا اعتقدت أن بيتاً مسكوناً بالجن والشياطين، فسوف أخشى السكن فيه، وإذا اعتقدته خالياً منها فلن أخافه وإذا أعتقدت أن النهر مسكون بالتماسيح والأفاعي فلن أعوم به، وإذا أعتقدت أن شخصاً ما لا يكذب، فسوف أثق به، وإذا اعتقدت أن سائلاً ما يبرئ المرض ويطيل العمر فسوف أشربه.
إننا نسلك وفقاً لما نعتقد. وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة، نستطيع أن نحدث قدرًا كبيرًا من التقدم. إن الإنسان البدائي قبل اكتشاف النار اختار السكن في الكهف الجبلي لحكمة ما، وليس اعتباطاً. وحينما كان يسن رمحه ويحضرّ القوس والنشاب في ظلام الليل استعدادًا ليوم جديد من الصيد فإنما كان يفعل ذلك بدافع من فلسفة ما؛ فلسفة في معنى الزمن والحياة والعمل والأمل. إذ أن لكل كائن علاقته الشخصية الحميمة بالزمن، بوصفه زمن حياته وذكريات أوقاته. فلا أحد يعلم ماذا حدث مع ذلك الإنسان القابع في كهفه أمس أو قبله، أو ماذا سوف يفعل في يومه الجديد؟ تلك هي الفلسفة الشعبية المستبطنة في ذات كل كائن حي عاقل يتخذ قراراته كل لحظة في تدبير حياته في هذا العالم. فلا يوجد كائن ينتمي إلى النوع الإنساني يستغني عن التفكير الفلسفي. وبهذا المعنى نفهم دفاع الفيلسوف البنيوي الفرنسي ليفي شتراوس عن الفكر البري وأهليته المنطقية. إذ أكد أن الفكري البري منطقي كما هو فكرنا تماماً. وبهذا المعنى يمكن القول إن كل إنسان فيلسوف مادام يفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، ويعيش ويستبطن معنى وجوده في هذا العالم. غير أننا نميّز بين نمطين من الفلسفة:
النمط الأول: يتمثل بالفلسفة الأكاديمية بوصفها نسقاً معرفياً منهجياً عالي التجريد، ينطوي على مجمل تاريخ الأفكار الفلسفية التي صاغها الفلاسفة منذ الفكر الشرقي القديم (فلاسفة ونظريات ومفاهيم ومذاهب ومدراس وتيارات واتجاهات … إلخ).
النمط الآخر: يتمثل بالفلسفة الشعبية بوصفها ممارسة يومية للتفكير الميتافيزيقي لكل ذات بشرية مهما كان مستوى تعليمها وثقافتها. هذه الأخيرة هي شكل من أشكال التفكير الفلسفي غير المؤسسـي الذي يعبر عن تصورات الناس العاديين حول الوجود والحياة والموت، والمعرفة والأخلاق، والجمال دون أن يكون بالضرورة منهجاً أو مستنداً إلى أنظمة فلسفية أكاديمية محترفة. وهي فلسفة عرفتها كل الشعوب منذ أقدم العصور بوصفها حكمتها العملية الخالدة المبثوثة في الأساطير والأمثال والحكم والتقاليد والسرديات الشفهية، والأشعار والتعاليم الدينية التي تتناقلها الأجيال والمجتمعات بوصفها هبيتوسات ثقافية بحسب بيير بورديو الهابيتوس “بنية داخلية”، تتشكل من خلال تراكم الخبرات والتجارب الاجتماعية عبر الزمن، وتصبح بمثابة بوصلة تُوجِّه سلوك الفرد وتفاعلاته في مواقف مختلفة، أو نوع من “البرمجة الداخلية” التي تُحفِّز الفرد على التصرف بطريقة تتوافق مع سياقاته الاجتماعية، ويتغير ويتجدد مع تجدد تجربة الفرد وتعقيدها. وبهذا المعنى لا يوجد شعب ليس لديه فلسفة ما، تمنح حياته المعنى، فالأسلوب الذي يسير عليه الناس في حياتهم وسلوكهم وقيمهم وطرق تعبيرهم وفنونهم وآدابهم، أنما يعتمد على طبيعة الثقافة السائدة في المجتمع مع بعض الآثار التي تتركها العوامل الجغرافية والبيولوجية. وتتميز الفلسفة الشعبية ببعض الخصائص، نذكر منها:
1- التلقائية والبساطة: فهي تنبع من التجارب اليومية وتعبر عن حكمة الناس العاديين، غالباً بطريقة مباشرة وسهلة الفهم.
2- الطابع العملي: تهدف إلى تقديم دروس حياتية أو توجيهات سلوكية بعبارات مختصرة وكثيفة المعاني وعميقة الدلالة، كالأمثال الشعبية التي تلخص تجارب الأجيال.
3- تختلف الفلسفات الشعبية باختلاف الثقافات والشعوب، لكنها تشترك في بعض القيم الأساسية، مثل الموقف من العمل، والقلق من الزمن والخوف من الموت واحترام كبار السن، وأهمية العمل، أو التحذير من الغرور.
4- عدم التقيد بالمنهجية الفلسفية الصارمة: فهي لا تعتمد على التحليل المنطقي المجرد، كما في الفلسفة الأكاديمية. بل تتشكل عبر التراكم التاريخي والخبرة الإنسانية.
5- الموروث الشفهي والمكتوب: قد يأتي بشكل أمثال، حكايات، شعر، أو حتى نكت تحمل دلالات فلسفية.
ويرى بعض الباحثين أن الشعوب لم تقف في حدود الأمثال والحكم القصيرة للتعبير عن فلسفتها، بل صاغتها بصيغ أدبية مختلفة، كالحكايات الشعبية، والحكايات الخرافية، وحكايات الحيوان، وقصص الأطفال، والشعر الشعبي الذي عبّر فيه الضمير والوجدان الشعبيان عن آمال الإنسان، وتطلعاته، وطموحاته، عن انتصاراته وانتكاساته، وأفراحه وأحزانه وعن كل شيء خبره في حياته في تلك الفلسفة الشعبية المبثوثة في كل هذا الطيف المتنوع. ومن فنون التعبير النابع من أعماق الحياة اليومية يمكن للباحث أن يرى كيفية تعامل الناس مع الطبيعة والمناخ ومع الغيم والمطر ومع الحياة والموت، مع الزمان والمكان، مع الخير والشـر، مع الجمال والقبح، مع الحب والكره، مع المرأة والطفل، مع الوطن والغربة، ومع الذات والآخر، ومع المال والبنين … إلخ. ففي كل مجتمعات العالم هناك معنى للعلاقة بين الذات والأخر يمكن صياغتها بالعبارة التالية: ( الآخر مرآة الذات)، “فالأنا بدون الآخر مستحيل” هذا ما يقوله فريدريك هاينريتش جاكوبي، ليبين بوضوح تام أن وجود الآخر ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، فهو الذي يشاركني الحياة، ومن دونه لا يمكن لحياتي أن تستمر، فأنا أحتاج الآخر بدءًا من لحظة وجودي، وسواء كنت من أنصار الفردانية أم من أنصار الاجتماعية، فإن الحياة لا يمكنها الاستمرار إذا كنت فردًا وحيدًا، فنحن لا يمكننا إنكار وجود الآخر، وعليه نتخذ قرارنا في الحياة، فإما أن نحب وجوده وننسجم معه، ونتشارك كل لحظاتنا، وإما أن نرفض وجوده ونحاربه بوصفه عدوًا لنا، أو لا نبالي به وبوجوده أبداً. ورغم اختلاف اللغات والثقافات إلا أن الانثروبولوجيا الإنسانية سجلت الكثير من الحكم والأمثال الشعبية المشتركة لاسيما تلك التي تتصل بالحاجات الحيوية لكل الكائنات البشرية:
لا تعطني سمكة. بل علمني كيف اصطاد السمك – في العجلة الندامة وفي التأني السلامة – أعط المجنون حقه يعقل – القرش الأبيض ينفع لليوم الأسود – لا تنشر نشارة الخشب ولا تمر الجسر قبل الوصول إليه – من ذرى الحيلة حصد الفقر – تعب الصحة ولا تعب المرض – إذا بليت يا فصيح لا تصيح – قامة ماء خير من قامة ذهب – البحر واحد والسمك ألوان – اللي مايعرف الصقر يشويه – القرد في عين أمه غزال – الصبر مفتاح الفرج … إلى آخر الحكم والأمثال التي تداولتها وتوارثتها الشعوب عبر الأجيال، بلغات وصيغ مختلفة، ولكنها تعبر عن المعنى ذاته.
ختاماً يمكن القول إن الفلسفة بدأت شعبية، واستمرت شعبية، وها هي تعود شعبية بصيغ وتجليات رقمية ذكية حيث تزامن ازدهار مفهوم الفلسفة الشعبية مع اتجاه تدريس الفلسفة للأطفال وشيوع الأبعاد الفلسفية في كثير من الفنون الإبداعية المعاصرة ؛ الفن التشكيلي والنحت والسينما والمسـرح والإعلام والروايات وقصص الأطفال. وقد ورد مفهوم الفلسفة الشعبية، لأول مرة، في مقال للفيلسوف الفرنسي جيل دلوز، رداً على نقد وجه إلى كتابه «ضد أوديب»، قاصداً بدعوته تحرير الفلسفة التقليدية من جديتها ومن طابعها المدرسي، وإنقاذاً لها من حصار ضربه الأكاديميون حولها، فانحصـر دورها على الحواشي والتعليقات والشروح حول نصوص جرى تقديسها، وعناوين أكاديمية من طراز: نظرية الحق عند هيجل، نظرية المعرفة عند كانط، قراءة في مفهوم العنف لدى آرندنت. وقد شدد دلوز على مفهوم «الخارج» أي خارج الأكاديمية، و«خارج» حتى الفلسفة التي تتناول الثقافة الشعبية، فالدعوة هنا لشكل جديد للفلسفة إذ تنفر الفلسفة الشعبية من التفكير، بواسطة المفاهيم المجردة أو «الأسنان المسوسة» بحسب دلوز، «الفلسفة الشعبية» لا تبحث في دواخل المفهوم، بل في ما يحدث بالخارج، بوصفه قيمة، مهما بدا هامشياً وهشاً ولا قيمة له. هذا الاتجاه جعل الفلسفة تطل على مشاهد مثل: المسلسلات التلفزيونية، الأفلام، الألعاب الرقمية، الأغاني الشعبية، الإعلانات، وهي موضوعات ما كانت الفلسفة قبل ذلك لتلتفت إليها، هي دعوة للانعتاق من ضيق أفق الأكاديمية، وفقدان اتصالها بالواقع، بعدما جمدت الفكر، وحصـرته في دور تلقيني محدود، لتصبح الغالبية الغالبة للإنتاج الفكري، بتوصيف الفيلسوف الفرنسي ميرلوبونوتي «تقل فيها مطالب العمل وتضعف عبرها فرص التفكير». وقد ظهرت الفلسفة الشعبية في ألمانيا بوصفها مجموع الدراسات التي انتشرت هناك، وأكدت على نزعة التحرر، وبدأت من (فولف) (1679 – 1754) وامتازت بأنها دراسات متحررة من الصورة العلمية، ومتناسبة مع مستوى الجمهور. في عالمٍ تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتزايد فيه التحديات، ويعاني العديد من الأفراد مما يُعرف بـ”قلق المعنى” أو الإحساس بالفراغ الوجودي. ويتجلى هذا القلق في تساؤلاتٍ عميقة حول جدوى الحياة والغرض من الوجود، ما يؤدي إلى شعور بالعجز، والتوهان، وأحياناً الاكتئاب.
لكن هل يمكن للفلسفة أن تقدم علاجاً لهذه الأزمة الوجودية؟ الفلسفة في حقيقة أمرها ليست ترفاً فكرياً، بل وسيلة عملية تساعد الإنسان على مواجهة الحياة وتحدياتها وألغازها عبر التفكير، للتأمل، والبحث، والعيش بوعي أكبر. ومن خلال الاستفادة من رؤى الفلاسفة الكبار، يمكن لكل فرد أن يسعى لفهم أعمق لوجوده وتحقيق غايته في هذا العالم المضطرب. ولما كان الإنسان يمتلك عقله الشخصي والعقل بحسب ديكارت هو أعدل الأشياء قسمة بين الناس! فمن المؤكد أن كلاً منا يعيش وفقا للمعنى الذي يمنحه لحياته الفردية، حتى وإن كان يرى الفلسفة أمرًا مبتذلًا وخارجًا عن المنطق. وربما يكون هذا هو السبب الذي دفع سقراط في يوم من الأيام لمحاولة معرفة نفسه، ولمساعدة الشباب على تعرّف ذواتهم ومحبتها كأول خطوة في الوصول إلى الحقيقة. إذ أن معرفتنا لذواتنا مهمة جدًا، فبدونها لا نستطيع تحديد ما نريد من هذه الحياة، ونحن نقرر في العادة ما نريد من الحياة، بعد تفكير عميق، ويكون ذلك مرتبطاً بطبيعة البيئات التي ننتمي إليها، ونوع الثقافة التي نحملها، إضافة إلى مدى رغبتنا في بناء قناعات جديدة مختلفة عما تربينا عليه.
تابعوا آخر أخبارنا المحلية وآخر المستجدات السياسية والإقتصادية عبر Google news
قيادي حوثي يحول مستشفى حكومي إلى مشروع خاص ويجبر المرضى على شراء الأدوية من صيدليته
شهدت العاصمة اليمنية صنعاء فجر اليوم الإثنين انفجارات عنيفة هزّت أرجاء المدينة، إثر سلسلة غارات بينه
كشف نائب وزير الخارجية اليمني، مصطفى نعمان، في مقابلة صحفية ، عن أبرز التحديات التي تواجه القوات الح
تداولت مصادر سياسية ومجتمعية، اليوم السبت، أنباء عن مشاورات جارية داخل أروقة السلطة الشرعية بشأن إجر
في مشهد يعكس تصاعد التوتر العسكري على جبهات مأرب، أعلنت ألوية العمالقة إفشال هجوم واسع شنّته مليشيا
قال السياسي نجيب غلاب أن يافع جغرافيا متميزة لايمكن اختراقها واهلها لا يمكنهم إلا ان يكونوا بناء وط
شهدت العاصمة اليمنية صنعاء والحديدة غارات جوية أمريكية عنيفة فجر اليوم. وقد دوّت انفجارات عنيفة في أ
كشفت مصادر إسرائيلية مساء الأحد أن الحكومة تدرس تنفيذ عملية عسكرية في اليمن، وذلك عقب سقوط صاروخ